حتى جاءت سماح علوان

كان ذلك في أحد الصباحات الموحلة من شهر يناير. لم تتوقف السماء عن الشتاء وانهزمت الشمس لأكوام سميكة من السحب الرمادية. انتشرت في القرية روائح الوحل المختلط بخراء البهائم. كنا نجلس في الفصل نيام تحفُنا هالة كبيرة من البؤس. استيقظنا فجأة على روائح ياسمين ينتصر في ثبات على روائح القمل والبراغيث.

الكلب

هذا الكلب لا ينبح على أحدٍ غيره، كأنه مُدرّبٌ على إثارة قلقه لا على حراسة منزل الجار. في كل مرة يلمحه، يقوم متحفزًا من جلوسه كما لو أنه مفترسٌ يستعد للانقضاض على فريسته. ولولا أنّ الحبل الذي يلتفُّ حول عنقه موثوقٌ بإحكامٍ إلى جذع شجرةٍ هزيلة، لانطلق في أثره بالتأكيد.

الحُبّ في الحشيش

جاريَ في نفس الدور رجل لا يُعرف عنه الكثير، بجانب أنه أصلع وأن له عادات غريبة، مثل وقوفه على باب الشقة بروب أحمر وهو يمسك في يده لعبة؛ عربية صفراء، كأنه ينتظر أحدًا أو شيئًا ما. إن تصادف وتعطل الأسانسير بأحدهم في دورنا وألقى السلام، يرده جاري بغمغمة غير مسموعة لكن مبتسمًا دائمًا.

غروب أوّل: القدس

يرفع قطعة ملبّس اشتراها بسعر زهيد من طفل على حاجز، ملوّحًا بها خارج إطار النافذة، يمدّ يده في الهواء إلى أن تستقرّ أمام بؤرة الشمس فتسطع حُمرتها، يُغمض عينًا واحدة ويلتقط صورة لحبّة الملبّس المثبّتة في الهواء. «فكرك شو بيقصدو مشروع ليلى لمّا بيقولو مخبّى الشّمس بكرشي؟»

قطعة صغيرة من الشوكولاتة السوداء

وأنا صغير جلست بجوار طفل يأكل الشوكولاتة، يقضم الفتات بطرف أسنانه ويستمتع بها، يحملها بكلتا يديه كأنها أغلى شيء يملكه. طلبت منه قطعة صغيرة فرفض، غضبت فدعوت الله أن يموت، بعد فترة قصيرة مات، لم يسقط من ارتفاع، لم تدهسه سيارة، حتى أنه لم يمرض، فقط مات.

عالم الصباح من نصيبي

اعتادت أم ريما أن تتسمّر أمام التلفزيون في موعد ثابت كل صباح. من الممكن أن تجلس قبل الموعد المحدد بدقائق، خوفًا من تغيير بسيط في مواقيت العرض، الأمر الذي يفوّت برنامجها المفضل على شاشة تلفزيون «المستقبل»؛ برنامج عالم الصباح.كبرت ريما، وصارت مُدرّسة، وما زالت أمها متعلقة بهذا التوقيت، التاسعة وعشر دقائق.

الطموح الأعمى

«أنت شكلك ابن ناس يا أستاذ، ومش حمل بهدلة، شوف، الخلاصة أنت قصادك حلين، الأول أكتب لك البلاغ وأعطيك رقمه، وعليك تتابع مع النيابة والأجهزة المختصة يمكن يلاقوا عربيتك. الحل الثاني أبسط ويكلفك ٦٠٠ جنيه، وعربيتك ترجع لك في يومين ثلاثة بالكتير، لكن من غير بلاغات ولا صداع ولا وجع دماغ.. تختار إيه؟».

جدّ آلي ورد كو

حين اقترب من المسنّ أمسكه من ساعده، كان كهلاً قويًا، هتف بصوت قام من الأعماق: «أنت إبراهيم كادر». ولم يعرف إبراهيم إن كان المسن الغريب يخبره أم يسأله، كان إبراهيم شابًا صغيرًا، لكن الجميع يشهدون أنه قوي كالثور، هناك أشعار غير مكتملة تتداول بطولاته المبكرة، لكنه بين يديّ ذلك الكهل، أحس بنفسه مثل عصفور..

ذاكرة سمكة

قام للترجّل عن القطار. كنت أتمنى أن يترجّل عنه قبلي لأقوم بتبديل مقعدي بمقعده والجلوس مقابلة اتجاه السير. كان الجلوس في الاتجاه المعاكس يصيبني بالدوار. عندما جلست على المقعد البرتقالي المهترئ الذي شغر كان مازال يحمل دفء جسده الذي ذكرني بذلك اليوم منذ خمسة أعوام. تذكرت ذلك في اليوم السابق …