الكلب

١

الطريق إلى محطة الباص التي على ناصية الشارع الرئيسيّ تلزمه بالمرور على فناء جاره. وهناك، في الفناء، يربض كلب البتبول الأسود في انتظاره دومًا.
فور أن ينتبه الكلب لمروره، يُطلق نباحًا مزعجًا لا يكفُّ عنه إلا حين يبتعد عن السياج الخشبيّ الذي يحيط بالفناء، ويسلك المنعطف الذي يُفضي للشارع الرئيسي، حينها يكون قد غاب عن مجال رؤية الكلب تمامًا.
هذا الكلب لا ينبح على أحدٍ غيره، كأنه مُدرّبٌ على إثارة قلقه لا على حراسة منزل الجار. في كل مرة يلمحه، يقوم متحفزًا من جلوسه كما لو أنه مفترسٌ يستعد للانقضاض على فريسته. ولولا أنّ الحبل الذي يلتفُّ حول عنقه موثوقٌ بإحكامٍ إلى جذع شجرةٍ هزيلة، لانطلق في أثره بالتأكيد.
حين يواجه الكلب كل صباح، تنتابه نوبة قلقٍ تملأ رأسه بهواجس مربكةٍ لا يتخلص منها إلا بالحثِّ من السير، والابتعاد بفارق مسافةٍ تُسهّل هروبه في حال انفلت الحبل، كما توسوس له هواجسه على الدوام.
بإمكانه تجنب نوبة القلق الصغيرة هذه وسلك طريقٍ آخر أطول قليلًا، لكنه بذلك سيفوت على نفسه الباص الأول ويضطر لاستقلال التالي، مما سيترتب عليه الوصول متأخرًا نصف ساعة عن موعده.
إذًا، لم يكن من حلٍّ آخر غير اعتياد هذه الجرعة اليوميّة من القلق حتى تحولت لجزءٍ أساسيٍّ من صباحه، تمامًا كوجبة الإفطار.

٢

على غير العادة، وجد نفسه يتجه نحو فناء جاره بخطواتٍ واثقة، ودون أي مخاوف.
استغرب أن قدميه حافيتان، وأن الشارع حوله هادئٌ وخالٍ من المارة رغم صخبه وزحامه في هذه الساعة من الصباح، وأنه يسير مرتديًا البجامة التي ينام فيها.
توقف أمام الفناء بتحدٍّ كما لو كان يتعمّد إثارة الكلب، لكنه لم يعثر عليه مقيدًا إلى الشجرة في مكانه المعتاد. مسح الفناء بعينيه بحثًا عنه، فلم يجد له أثرًا. ثم رفع نظره نحو النافذة فرأى جاره وراءها يبتسم له بخبث. تساءل في نفسه: ما الذي يحدث؟ وقبل أن تأتيه الإجابة، وقع ما يخاف وقوعه كلما مر على هذا الفناء.
ظهر الكلب من العدم وانطلق نحوه بسرعةٍ جنونيّة، ولا حبل يحجمه عن غايته هذه المرة.
لم يمهل الكابوس الكلب حتى ينقضّ عليه؛ فقد استيقظ على جرس المنبه وهو يتدارك أنفاسه المتسارعة.
ضوء النهار منتشرٌ في فضاء الغرفة، وضجيج المارة المختلط بنباح الكلب ينسلّ إلى مسامعه من الشارع.
تراجعت نبضات قلبه للمعدل الطبيعي. لا شيء حوله شاذٌ عن المألوف، فتأكد بذلك أنه استيقظ فعلًا ولم ينتقل لحلمٍ آخر، كما يحدث معه أحيانًا.

٣

كان الكلب ينبح عليه دونًا عن بقية المارة.
أشاح نظره بعيدًا عن الفناء وهو يحثُّ من خطواته متذكرًا الكابوس الذي استيقظ منه مؤخرًا. سلك المنعطف الذي يفضي للشارع الرئيسي؛ فاختفى نباح الكلب من ورائه تدريجيًّا، واختفى معه قلقه.
بعد المنعطف مرّ على دكان البائع العجوز الذي يفتح أبوابه في نفس توقيت مروره عليه.
ألقى التحية على العجوز لكنه لم يرد كالعادة. إما أن صوته خفيضٌ للغاية أو أن هذا العجوز ثقيل السمع؛ فلم يسبق له أن بادله التحية رغم أنه يلقيها عليه في نفس التوقيت يوميًا وهو متجهٌ لمحطة الباص.
أثناء سيره المستعجل في الزحام كثيرًا ما يصطدم به المارة ويتجاوزونه دون أي اعتذارات، حتى لو كانت عابرة. صحيحٌ أنه قصير القامة، وصحيحٌ أنه مستعجلٌ أيضًا، لكن ذلك لا يكفي للتبرير.
مع الوقت صار ينتبه لخطواتهم بدلًا عنهم، فيتفاداهم بخفةٍ اكتسبها بالتعوّد. وأحيانًا يسير محاذاة الجدران ليتجنبهم قدر الإمكان. وبذلك قلّت عدد مرات الاصطدام.
غالبًا ما يصل المحطة قبل موعد الباص بخمس دقائق، فينتظر واقفًا بالقرب من العلامة التي تُظهر رسمة كرتونية لباصٍ عموميّ، وبرفقته ينتظر مجموعة رجال آخرون معظمهم من الموظفين الحكوميين مثله.
تزجيةً للوقت أحيانًا ما يحاول فتح حديثٍ مع أي رجلٍ يقف منتظرًا جانبه، وغالبًا ما يفتتح حديثه بالسؤال عن الساعة، رغم أنه يعرفها جيدًا. يرفع صوته قدر الإمكان محاذرًا من أن يبلغ ارتفاعه حد الوقاحة، لكن مَن بجانبه لا يعيره انتباهًا في العادة، سواءٌ سمعه أم لم يسمعه، وهو بدوره لا يعيد السؤال حتى لا يثير إزعاجه.
وبعدما ييأس من لفت النظر إليه، يزجي وقته في محاولة اقتناص أي نظرةٍ من أي راكبٍ تؤكد له على وجوده، حتى لو كانت نظرة شاردة، لكنه يصعد الباص ويرتجل منه خائبًا في كل مرة.
عندما يصل العمل، لا ينتبه أيّ أحدٍ من زملائه الموظفين لدخوله. ودائمًا ما يوفر التحية لنفسه لأنه يعرف أن لا أحد سيرد عليه. ربما لا يعرفون بوجوده بينهم أصلًا، ولو صادفه أحدهم خارج مقرّ العمل فإنه لن يتعرف عليه بالتأكيد.
هذا هو صباحه الذي يتكرر يوميًا. حدث مثله بالأمس وسيحدث مثله بالغد. وستستمر صباحاته على هذا المنوال، حتى أن السنة – من تشابه أيامه – تبدو له وكأنها يوم واحد طويل ثقيل الظل.

٤

كثيرًا ما يُحس بأنه شفافٌ كالهواء؛ فقلّما ينتبه أحدٌ له. لكن الكلب هو المخلوق الوحيد الذي ينتبه له دائمًا، وهو دليله الذي يؤكد على حضوره في هذا العالم بشكلٍ يوميّ.
لذلك حين مرّ على فناء جاره ذات صباحٍ دون أن يقلق من النباح، شعر أن شيئًا ما قد اختلّ في يومه.
لحظتها، وبعد أن سلك المنعطف وتجاوز دكان البائع العجوز ببضع خطوات، فكر في العودة إلى الفناء والاطمئنان على الكلب، إلا أنه سرعان ما استسخف الفكرة.
«إنها المرة الأولى التي أرتاح فيها من نباحه منذ مدة طويلة، فلأنعم بها إذًا.» هكذا فكر وهو يكمل طريقه إلى المحطة حتى لا يتأخر عن الباص، إلا أنه عندما مر على الفناء في الصباح التالي، تعمد أن يبطئ من خطواته موليًّا وجهه نحو الفناء على أمل أن ينبح عليه الكلب. 
وجد الكلب مستلقيًا جانب الجذع الهزيل في ضجرٍ وكسل، لكنه كما في الصباح السابق لم يتحفز من جلوسه وينبح عليه.
في الصباحات التالية، وبعدما تكررت خيبته في نباح الكلب عليه، صار يحس بأنه يتلاشى من الوجود يومًا تلو الآخر.

٥

لم يتمالك أعصابه طويلًا. في لحظة طائشة، قفز من فوق السياج الخشبي – الذي لا يتجاوز طوله مستوى خصره – مقتحمًا فناء جاره، دون أن يبالي بأية عواقب.
مضى حازمًا نحو الكلب، ولأول مرةٍ لم يكن خائفًا منه. لكن الكلب ظل مستلقيًّا كما هو، ولم يتفاعل مع اقتحام دخيلٍ للفناء رغم أن هذا ما تدرّب عليه منذ ولادته.
حاول أن يجذب انتباه الكلب بشتى الطرق. صفق له. التقط حصاةً صغيرةً كانت جانب قدمه وقذف بها نحوه. هتف فيه كالملسوع:
«أنا هنا أيها الأحمق.»
لكن دون جدوى، ظلّ الكلب عنيدًا جدًّا في تجاهله.
«حتى هذا الكلب الملعون لم يعد يلحظ وجودي، أنا هنا يا أبناء الحرام، خراءٌ على هذا العالم…»
هتف بغضبٍ مخاطبًا اللاشيء بأعلى صوته، لدرجة أنه لفت أنظار الغادين والرائحين. ولا بد أنه قد فقد صوابه لحظتها، فلم يدري بنفسه إلاّ وهو يسدد رفسةً عنيفةً في بطن الكلب جعلته ينتفض من رقوده وهو يزمجر بغضب، وبحركة خاطفة التفّ الكلب وراء قدمه وغرس أنيابه الحادة في لحمها.
البتبول كلبٌ عنيد، إذا أطبق فكيه على ضحيته فإنه لا يطلق سراحها حتى يأتي بأجلها.
وأقبل المارة من كل صوب، واحتشدوا في الفناء يحاولون انتزاع الكلب عن طريق شدِّ الحبل المتلف حول عنقه. وخرج الجار على الصرخات المتألمة التي اختلطت بضجيج الزحام.
خلصوه من الكلب بصعوبة بالغة، وانطلقوا به إلى أقرب مستشفى فورًا.

٦

كان الكلب قد مزّق جزءً من عضلات ساقه الخلفية، وقد تطلبت الإصابة عملية جراحية في الحال.
حين أفاق من آثار المخدر على قدمه الملفوفة بالقماش، أخبره الطبيب أن طاقم الجراحة تدارك خطورة الموقف لحسن حظه. كما أن مدة التعافي لن تطول، لكنها ستتطلب المواظبة على جلسات العلاج الطبيعي حتى يسير دون عكازٍ مجددًا.
لاحقًا، باع الجار كلبه خوفًا من تكرر الحادثة، فقد كان كلبًا حاد الطباع ويصعب السيطرة عليه أحيانًا.
حين تصادف لقاؤه بالجار أثناء ترجله من التاكسي على العكاز، رحب به وحمد الله على سلامته، وقد كان في نيّته استجوابه عن السبب الذي دفعه لاقتحام فنائه والاشتباك مع الكلب، لكنه تناسى الأمر لما رأى حاله، ولم تعاوده النيّة مرة أخرى.

٧

لأنه لم يكن عاجزًا عن المشي إلى تلك الدرجة، فقد صارت خطواته أبطأ قليلًا بسبب العكاز فحسب، قرر أن يتغاضى عن الإجازة المرضية. وفي الصباح التالي مباشرة، خرج إلى العمل.
مستندًا على العكاز، صار يسير بعرجٍ ملحوظٍ للكل. ويبدو أن مظهره وهو يحاول التعود على مشيته الجديدة قد أثار شفقة المحيطين به أينما حلّ، لأنهم بدأوا في ملاحظة وجوده بينهم أخيرًا.
البائع العجوز ألقى عليه تحية الصباح لأول مرة حين مر عليه. والمارة صاروا يفسحون له الطريق ولا يصطدمون به كما اعتاد. وعندما يتبادل الحديث مع أي شخصٍ فإنه يصغي له بانتباه غير متصنّع. والأهم من هذا كله أن زملاؤه الموظفين رحبوا بعودته ترحيبًا حارًّا، وأصبحوا يتفقدون أحواله بشكل دوري.
هكذا أغدقه العالم باهتمامٍ لم يحلم به يومًا. ورغم أن هذا الاهتمام تشوبه شفقةٌ ظاهرةٌ في أحيانٍ كثيرة، إلا أن الأمر لم يشكل فارقًا بالنسبة له، المهم أنه هنا بين الناس، يرونه مثلما يراهم، ويسمعونه كما يسمعهم.

٨

بعد فترة وجيزة من إصابته أدرك أن العكاز هو وسيلته المثالية للفت الانتباه إليه. لهذا، وفي اليوم الذي شفي تمامًا من عرجه، لم يتخلّ عنه.
ذلك الصباح، وبينما يتهيأ للخروج إلى العمل، تطلع إلى العكاز الملقى جانب السرير. وتساءل:
«هل أعود شفافًا مرة أخرى دونه؟»
إلا أنه استسخف الفكرة ونفضها عن رأسه.
وبينما يدير مقبض الباب ليخرج، تردد للحظة ثم عاد إلى الداخل كأنه نسي شيئًا هامًّا.

٩

الشارع الرئيسيّ مزدحمٌ ويعمه الصخب كالعادة.
خرج من منزله يسير بخطواتٍ لا يعيبها العرج، وفي يده كان يحمل العكاز من المنتصف.
مرّ على الفناء فباغته حنينٌ غريبٌ لنباح الكلب. وقبل أن يسلك المنعطف، تمهل في سيره حتى يستند على العكاز. وحين مرّ على دكان العجوز، تعمّد أن يظهر عرجًا خفيفًا في قدمه وهو يلقي تحية الصباح.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي