«مش كلّ يوم بيصحلي أشوف الشّمس في الأوضة.»
– نجاة، من غرفة مطلّة على مشهد بانوراميّ.
عندما تغيب الشّمس في القدس، تغيب كذلك في أماكن أخرى. ولكن، في القدس، تغمر الشّمس لون الحجارة البيجيّة والترابيّة، وتدهنها بتدرّجات ميّتة، وحياديّة، وحارقة أثناء مضيّ النّهار.
كلّ يوم تغيب الشّمس في القدس، وكلّ بيوت المدينة ومبانيها مغلّفة بالحجارة. كلّ يوم تنطلي هي وإسفلتها بطبقة من الأنوار المتحرّكة، صافية سماؤها كانت أم متكدّرة، تنطلي بتدرّجات جديدة لا تكرّر نفسها. في الغرفة المُطلّة على تدرّجات فندق هيات ريجينسي، وعلى شجرة خرّوب تُزهر أزهارًا برائحة المني الخانقة، تلألأتْ على الحائط المقابل لسرير نجاة لوحةٌ ساحرة تشبه لوحات روثكو: مستطيلان عاموديّان بلون الذّهب يتراقصان مع الهواء، يفصلُ كلّ مستطيل عن الآخر خيط ظلّ، وفي أسفل لوحة الضّوء مربّعان من الأصفر الميّت يفصلهما خيط الظّلّ ذاته. وسطرٌ مرقّط في الأعلى يعكس الضّوء النّافث من ثقوب الأباجور. الحائط أبيض اللّون. بدا في ساعة الغروب تلك مائلًا إلى زرقة خفيفة هي زرقة المواساة. أمسكت نجاة هاتفها والتقطت صورة للضّوء السّابح على الحائط. أخذت سبع صور وثّقت فيها انسحاب الضّوء من النّهار وعودة الألوان إلى وضعيّة بينيّة، بين السّطوع وبين العتمة.
الغروب في أماكن أخرى لا يشغل ذهن نجاة. وفي القدس يأتي الغروب كاستراحة للعين المغبشّة إثر سطوع ضوء النّهار المنسكب على حجارة فاتحة اللّون. عندما تغيب الشّمس هُنا، تهبط على الأرض هُبوط الرّؤوس المنهكة فوق الوسائد. نجاة في غرفتها تلتقطُ أنفاسها أثناء انحنائها لالتقاط الأحذية الملقاة على أرض الغرفة، الكتب والأقلام التي بعثرتها كوسيلة لمحاولة ترتيب أيّامها الأخيرة. يساعدها تصنيف الأشياء وترتيبها على تنظيم حياتها في مساحة العيش الصّغيرة هذه؛ مكتظّة كحصن، هشّة كحبيبات الغُبار. وحازم في طريقه إليها الآن.
– كيف أصنعُ أسبابًا للحديث مع أشباه غرباء؟ – ما هي درجة قوّة القهوة التي يفضّلها حازم في ساعات المساء؟ – وهل شاهد حازم «إشراقة أبدية لذهن صافٍ»؟1 يفوق تذوّق الأفلام الأبراج في النّبوءة، ويُعجّل من تدشين الصّداقات والحميميّات. صادفتْ حازم في المرّة الأولى في حافلة خطّ ١٧، في طريق عودتها من وسط المدينة إلى جبل المشارف مرورًا بشارع صلاح الدّين. توقّفت الحافلة في طابور الأزمة المعتاد، يضيء على الجالسين فيها بقعًا ذهبية تتموّج مع تموّجات الحافلة صعودًا في الطّرق الملتوية. تنعكس إضاءة الشّمس من الشّبابيك في الخارج، نحو الدّاخل.
«قنيّة المي وقعت،» يقول حازم.
شكرته على التفاتته، التقطت قنّينة الماء، استغربت تمييزه للغتها للحظة، ثمّ استكملت تأمّلها لحركة الشّارع. كلّ شيء هُنا مُمَغْنِط. حتّى شجرة المشمش الوحيدة في طرف النّادي الرّياضيّ على الطّريق تجذب ذراعها إليها، تشدّ ذهنها لتلتقط مشمشة متوسّطة الطّراوة. أخذتْ تعدّ دقائق الوصول. الوقت في القدس أشدّ ثبوتًا من مسمار جحا.
«يذهلني سقوط ألوان السّماء على الشّارع ربّما بسبب التّعرجات في تلال هذا البلد. هل تصحو المدينة متثاقلة كما لو أصابها خُمار يومي من جرعة الشّفق المذهلة هذه؟»
«ساكنة هون؟» سألها حازم بعد النّزول من الحافلة.
بحركة مستغربة في الوجه، أشارت بيدها نحو المساكن.
«وإنت من وين جاي؟»
«من المركز. مشواري للمقبرة اليوم.»
على كتفه حزام عريض وبجوار خاصرته تتراقص آلة تصوير. يسير في خطى متعجّلة ليُصوّر الأضرحة الرّخاميّة في المقبرة البريطانيّة الأنيقة. التّصوير قاسٍ هُنا، تمامًا بقسوة المدينة مع الغرباء الوافدين من الخارج، هؤلاء غير المعتادين على شحوب ألوان الحجارة في ساعات منتصف النّهار. نتوءات حجارة البنايات تعيق التقاط الصور الخارجيّة، وتوحّد لون الخلفيّات في كلّ الجهات. جاء حازم إلى المقبرة باحثًا عن شيئين بالأساس: الرتابة في ظلال شواهد القبور في مكان نظيف تفوق خضرة جاداته التّوقعات، والتكرار في الأضرحة الناتئة من الأرض كمارشات عسكرية عادت لتوّها مع قوة التّجريدة القادمة من مصر بقيادة الجنرال إدموند ألنبي. لا تميّز نجاة أسماء الشوارع في القدس. ولكن بالتّأكيد هناك شارع سُمّي على اسمه في المدينة كما في سائر المدن أو أشباه المدن التي تحمل شوارعها، أسماءً لأشخاص لا تعرفهم، معظمها أسماء رجال، أسماءً رتيبة برتابة مقبرة عسكريّة تكرّر نفسها كهذيان زوبعة في فنجان.
أثناء جلوسها في الحافلات، تميّز نجاة طريقها وفق أزياء النّاس في الشّارع. القدس مدينة مناطقيّة، كلّها تشعّبات في رئتين، بعض المناطق أكثر تنوّعًا من الأخرى وبعضها أكثر تناسقًا. في إحدى المرّات التي صعدت فيها حافلة متّجهة لمشاهدة أوّل فيلم خيال علميّ ستراه في حياتها، حضر كلبٌ برفقة سيدة تُدعى أولريكه، وأولريكه سيّدة شقراء بشعر قصير تعمل في لجنة لمناهضة سياسات هدم البيوت غير المرخّصة. كان الكلب ضخمًا. يلمع ملمسه في ساعة الغروب المتّقدة في جوف الحافلة. كان ضوضائيًّا لم يهدأ له بال. وقد زاد انسعاره وارتباكه عند مرورنا بشارع شتراوس. سألت نجاة أولريكه عن سرّ كلبها فقالت إنّ المسألة بسيطة ليس فيها تمارين في النّضال السّياسيّ: نسكن أنا والكلب في طريق يؤدّي إلى حائط المبكى، وبعض الفتية من أصحاب القبّعات يهاجمون الكلب ويرشقونه بالحجارة خصوصًا أيّام الجمعة ساعة الغروب. أصبح الكلب قادرًا على تمييز جميع النّاس بشتّى أنواع القبّعات وتصنيفهم. تستعيد نجاة صورة الكلب بينما تعدّد حبوب مضادّ الالتهاب واحدة واحدة لتتأكّد من تناولها للجرعات. الأفكار تطنّ في رأسها. آلام المعدة لا ترحم. الخوف اليوميّ من الوجود أقوى من أي ضوء وكل شيء دوّامة تُخبل السّائر في شرق البلد وغربها. كيف استطاع هؤلاء القادمين في البواخر من أوروبا أن يصمدوا كلّ هذا الوقت في وضح النّهار مع إضاءة كثيفة كهذه التي هُنا؟
يأتي حازم لشرب الشّاي، لا القهوة كما ظنّت، ويحكي لها عن آخر أزمات قسم التّصوير. وبينما ينهمك بالحديث عن عروض يوم الخميس الأخير — عن زميل أحدث ضجّة بإذابة كاميرا مراقبة في الحرم الجامعيّ كعمل فنّيّ، عن أستاذ يعلّق لطالبة ترتدي الحجاب «ما الغرض من تصوير السّماء؟ وكيف يعكس تصوير السّماء والغيوم خصوصيّة هويّتك الفرديّة كفتاة بحجاب في أكاديميّة فنون؟»— يرفع قطعة ملبّس اشتراها بسعر زهيد من طفل على حاجز ملوّحًا بها خارج إطار النافذة، يمدّ يده في الهواء إلى أن تستقرّ أمام بؤرة الشمس فتسطع حُمرتها، يُغمض عينًا واحدة ويلتقط صورة لحبّة الملبّس المثبّتة في الهواء. «فكرك شو بيقصدو مشروع ليلى لمّا بيقولو مخبّى الشّمس بكرشي؟»
قطعة من السّكر شبه شفافة، شبه حمراء، تذوب في فم نجاة، تهرشها بمساعدة أضراسها في الجهة اليسرى بينما تفكّر برغبة ملحّة بأن تكلّم شخصًا ما يعرفها ولم تره منذ زمن طويل، ليس شخصًا معلومًا، لا ملامح له أو لها، ولا ذاكرة سليمة بوسعها أن تحمل تفاصيل آخر سبع سنوات من عمرها، وألّا يحمل هذا الشّخص بكفّه سوى نهارات جديدة.
هذا النّص هو الأول من سلسلة قصص للمؤلفة تُحاكي فيها الغروب
الصورة: القدس، ٢٠٠٩، أنالوغ ٣٥مم © بكريّة مواسي
1 – Eternal Sunshine of the Spotless Mind (فيلم، ٢٠٠٤)؛ عن سطر جاء في رسالة شعرية للشاعر الإنكليزي ألكسندر بوب.