قطعة صغيرة من الشوكولاتة السوداء

وأنا صغير جلست بجوار طفل يأكل الشوكولاتة، يقضم الفتات بطرف أسنانه ويستمتع بها، يحملها بكلتا يديه كأنها أغلى شيء يملكه. طلبت منه قطعة صغيرة فرفض، غضبت فدعوت الله أن يموت، بعد فترة قصيرة مات، لم يسقط من ارتفاع، لم تدهسه سيارة، حتى أنه لم يمرض، فقط مات.
وأنا صغير دعوت الله أشياء كثيرة جدًا. كأن أكفّ عن الذهاب إلى المدرسة، أن أحصل على مال كثير. أن يكف أبي عن ضربي، أن أنسى أنني كنت سببًا في موت طفل صغير.. لكنّ الله لم يتقبّل مني غير تلك الدعوة فقط، فلم أحصل على مال كثير، ولم يكفّ أبي عن ضربي، ومستواي الرديء في التعلم أجبرني أن أظل في الدراسة فترةً أطول. 
قصصت لأمي فقالت أن الله له طرقه الخاصة، وأن الطفل كان سيموت حتى لو لم أطلب منه ذلك، ولما قلت لها أنها تقف في صفّ الله ضدي صفعتني وقالت أن لا أحد في صفه؛ الله واحد ونحن عبيده، لا أحد يدافع عنه، هو من يدافع عن الناس. الصفعة آلمتني فبكيت، لم يعد أبي فقط هو من يضربني، أمي أيضًا بدأت تفعل. 
ثمّ بدأت أدعو الله بأشياء لا أريدها، أن يستمر أبي في ضربي، أن أذهب للمدرسة لفترة أطول، أن لا أحصل على أي مال، أردت فقط أن أعرف هل الله يفعل ما لا أريده أم هو يختار من بين الدعوات؟ كبرتُ وكبر سؤالي معي، لم أستطع أن أرميه من ظهري، أنحني وأبطئ خطواتي، وطالما لم أجد إجابة، سيأتي يوم يدهسني فيه.
الآن.. وبعد أن أصبحت رجلاً، سأبدأ عملي الجديد في مصنع للشوكولاتة.

ذهبت لعملي الجديد اليوم وأنا أشعر بالهواء البارد يلمس صلعتي، لم يكن العمل بعيدًا، فقد وجدت مساحة جيّدة لأضع فيها بيتي المتنقل خلف مصنع الشوكولاتة.
تعرفت في اليوم الأول على رفيق، له شعر طويل أسود مسترسل حتى الكتفين، لم أعجب بهذا الرجل ولو للحظة واحدة، ربما بسبب أنفه الضخم كورم في وجهه، يلمس شعره دائمًا فيشتّت إنتباهي وأنا أتحدث إليه، أمّا الشخص الثاني فإسمه ربيع؛ قصير وله وجه مربّع، خفيف الظل وأصابعه قصيرة، يضغط على يدي في السلام ويبتسم برقة ويتحدّث بصوت خفيض، مما يجعلني أسأله دائما أن يعيد ما قاله، أو أدنو ناحيته لأستطيع سماعه.
أخذني ربيع إلى مكان عملي وقال أن رفيق هو أقدم عمّال المصنع، يتعامل الجميع معه باحترام شديد، وهو متفاني جدًا في عمله، مما جعله كبير عمال النظافة، إنه من يوزع العمل على العمّال الجدد، يطرد المتهاون – في رأيه طبعا – ويأتي بآخرين جدد، صارم جدًا في عمله، وعقوباته دائما شديدة.
لم يعجبني سماع هذا الكلام، خطر لي أن أتركه وهو يتحدث وأذهب. هذا المكان غير مناسب لي، لكن طريقة ربيع في الحديث وابتسامته، جعلتني أصمت حتى انتهى من حديثه.
عدت مرة أخرى إلى الكارَڤان، وضعت جدول عملي الجديد بجوار السرير وثبّته بلاصق ورقي ليصبح ظاهرًا لي، نظرت من النافذة الصغيرة إلى حيث المساحة الخضراء الممتدة في الخارج، والتي تنتهي بسياج معدني مستطيل يضم بداخله ملعبًا للكرة. عندما التفتُ مجددًا لداخل الكارَڤان، وجدتُ الطفل الصغير يجلس على الأرض ويأكل من قطعة شوكولاتة في يده.
إرتعدت وعدت خطوتين للوراء، لن أصبح مجنونًا بهذه البساطة، أنا متعب وتلك مجرد تخيّلات. فركت عيني جيدًا ونظرت مرة أخرى، لازال الطفل يجلس ويقضم من قطعة الشوكولاتة تمامًا كما حدث ونحن صغار، بدا وكأنه لا يراني ولا يشعر بوجودي، كأنني أنا الذي دخلت عالمه، ولمّا انتبه، كسر قطعة صغيرة ومد يده ناحيتي. نظرت إلى المصنع من خلال النافذة ولم يكن ثمة أحد بالخارج، أردت أن أصرخ لكن لم أستطيع. خوفي جعلني أكسر النافذة المجاورة لأنسلّ منها هاربًا.
الهواء بارد في الخارج، وملمس الأعشاب الخضراء وأنا أخطو عليها جعلتني أدرك أنني حافى القدمين. وجدت مقعدًا فجلست. بدأت أستوعب ما يحدث شيئا فشيئا؛ طفل ميت يجلس في كارَڤاني يأكل الشوكولاتة، ما يبدو حقيقي فعلا هو عينا الطفل، هذا الطفل حيّ وله روح ويتنفس، أنا رأيت صدره يعلو ويهبط. لكن هل أنا الوحيد الذي أستطيع رؤيته؟ هل هو غير موجود وأنا أتوهم؟ إن كان كذلك فهذا ما لم أتخيله في أفظع كوابيسي، ولكي أخرج منه يجب أن أتأكد أولاً أن هناك طفل بالفعل.
اتصلت بربيع، قلت له أن زجاج نافذتي مكسور وأريد أحدًا معي لإصلاحه، تخيّلته وهو يمسك الهاتف بأصابعه القصيرة. وقتها لم أكن أمتلك ردًا مقنعًا حينما يأتي ويسألني لماذا أنا في الخارج حافي القدم، لكني لم أفكر في أي إجابة أقدمها، أنا فقط أريد أن أتأكد من أنه سيرى هذا الصبي، وإن لم يراه، فسأكون مجنونًا بالفعل.
من الشباك المكسور دخلت بعد أن جرحت قدمي، رأيته مازال جالسًا يأكل الشوكولاتة كما تركته، جلست بهدوء على الكرسي وجسدي يرتعش، ظل يمد يده بقطعة الشوكولاتة وينظر لي بثبات كأنه سيظل هكذا للأبد، ببطء شديد قمت وأنا أستند بيدي اليمنى على الكرسي، وبظهر منحني مستعد لأي شيء تقدمت خطوتان للأمام ومددت يدي، تحسستها فوجدتها حقيقية، نظرت إليه فوجدته ينتهي من تناول القطعة المتبقية.
نظرت لكف يدي المفتوح أمامي، تحسّست قطعة الشوكولاتة فبدت حقيقية تمامًا، ذوبان الأطراف ولزوجتها تبدو كما لو أن ما يحدث الآن حقيقي.
رأيت ربيع وهو يدور حول الكارفان. يجد الزجاج المكسور فينظر له ليحدّد مدى الضرر ثم يدور مرة أخرى ويدخل من الباب، لم يبدو عليه أنه قد رأى أيّ شيء غريب، فقط يحاول أن يبدو مهموما بما يجري، جلس على أقرب كرسي وقال أنه يعرف شخصًا يستطيع تركيب زجاج جديد، ثم سألني ماذا حدث.
«أظن أن طفلا قذف الشباك بحجارة.»
هزّ رأسه وبدا كأنه إقتنع بما قلته، إلى أن نظر لأسفل فرأى قدمي الدامية. حاولت أن أختلق قصة تبدو منطقية، لكني لم أجد. بعد صمت قليل انتبه فصار يبحث في جيوبه وهو يقول:
«أحضرت بعض الأكياس البلاستيكية لوضعها على النافذة.. وغدًا سأعطيك عنوان صديق لي لتركيب زجاج جديد.»
ثم ألصق الأكياس السوداء بحواف النافذة، ولما انتهى ذهب دون أن يقول شيئًا، حتى أنه لم تتسنى لي الفرصة لأقول له شكرًا.

وأنا صغير كنت أرى خالي مرة كل أسبوع، ولمّا أحكي معه كان دائمًا يقول: «الإجابات تريح، أما الأسئلة التي بلا إجابة تُميت»، ثم يعود مرة أخرى ويصحّح نفسه: «لا، ليست الأسئلة التي بلا إجابات تُميت، الموت يريح أيضًا، الأسئلة التي بلا إجابة وخز في الجلد».
خالي عجوز جدًا، ضئيل، وتخاف منه أمي، لما سألته وأجابني، عرفت لماذا تخاف منه، خالي أيضًا كانت له تساؤلات، ولكنه لم يعرف الإجابة، فظلت وخزًا تحت جلده حتى مات.

جلست على الأريكة أفكر فيما يحدث. بما أن أحدًا غيري لم يراه فهو خيال، وإن توقفت عن التفكير فيه ربما سيذهب كما جاء، تلك الفكرة ملأتني بالسكينة، ربما كسكينة خالي عندما مات. أتذكر خالي الآن، بانحناء ظهره وصوته الضعيف الآتي من بين شقوق الصخر. لماذا أراه حاضرًا بقوة في رأسي؟ وخصوصًا في ليلته وابتسامته الأخيرتين، الراحة التي جرت في عروقه حدّ أنها فاضت في عروقنا نحن فشعرنا بها جميعًا. هل الموت مريح لهذه الدرجة؟ 
حاولت أن أتواصل مع الطفل، أن أتقبّل وجوده، أن أتذكر إسمه، لكنني عجزت، ذات يوم دعوت الله أن أنساه، وها هو الأن يجلس أمامي كما رأيته حين كنت صغيرًا. تفحصت ملامح وجهه، وارتعبت لمّا تيقّنت أنها بالفعل حقيقية، إن لم تكن تلك ملامح طفل حي حقيقي، فما هو الحقيقي من حولي إذن؟
سألته مترددًا: «من أين أتيت؟»
أشار بإصبعه الصغير خارج الكارَڤان، ولمّا وجد بقايا الشوكولاتة على طرف إصبعه لعقها في إستمتاع.
«لماذا لم يراك صديقي؟»
مطّ شفتيه السفلى ورفع كتفيه للأعلى، إذ لم يكن يعلم.
«لماذا لا تتكلم؟ هل أنت أخرس؟» هز رأسه بلا.
أيقنت أن التحدّث إليه غير مجدي. كنتُ أريد أن أسأله عن الموت وصعوبته، وعن الذين ماتوا، أردت أن أخفّ من وخز الإبر تحت جلدي، ولكن من الواضح أنه ليس من السهل معرفة من هذا الطفل، ثم ارتطمت برأسي حقيقة أن هذا الطفل من خيالي أنا، من رأسي أنا، أنا الذي ابتدعته، شَلّت الفكرة كل قواي في المعرفة، فاستلقيت على الأريكة وحاولت النوم، متمنيًا أن أستيقظ ولا أجده.

في الحلم كنت أجلس أنا والطفل على مصطبة حجرية في فناء يعود لحضارة غابرة. الفناء مملوء بتماثيل عملاقة وجدران منقوش عليها رسومات لطقوس دينية. بدا الطفل حكيمًا في جلسته وحديثة. 
قال: «هل ترى تلك البقعة هناك؟» وأشار بيده ونظر إلى الأمام، لم أرى شيئًا غير امتداد الأرض المُتربة والجدران ذات النقوش الدينية.
«تلك البقعة.. هناك.. مصدر الأسئلة في العالم.. من هنا تخرج الأسئلة ثم تلتصق بجلود الناس.»
اعتدل في جلسته وأخرج من جيبه قطعًا من الشوكولاتة السوداء وأعطاني واحدة منها، بدت شهية جدًا، تناولتها منه وقضمت منها فذابت داخل فمي، ولما شعرت بفرط مرارتها بصقتها.
«الأسئلة كتلك القطعة من الشوكولاتة.. تبدو شهية.. لكن حين لا تتوفر الأجوبة، تشعر بمرارة طعمها.»
لم أستطع التخلص من الطعم المر في فمي، نظرت إليه ليساعدني ولكنه لم يفعل شيئًا، فقط نظر لي ثم أمسك كتفي وهزّني وهو يقول:
«أحملني على ظهرك.»
إستيقظت والطفل جاث على الأرض يهزّ كتفي، ابتعدت عنه مذعورًا فارتطمت قدمي بالأكياس البلاستيكية الملصوقة بحواف النافاذة وتمزقت. الهواء البارد القادم من الفتحة البلاستيكية جمدني. 
في طريقي للعمل كان الطفل يمشي بجواري، أقف فيقف، أمشي فيمشي. وقفت وصرخت فيه:
«ماذا تريد مني؟»
في المسافة بيني وبين باب المصنع كان يقف رفيق يتلمّس شعره الطويل ناظرًا للمصنع من الخارج. ولما سمع صراخي التفت وجاءني متسائلا:
«ماذا حدث؟»
حاولت أن أبدو طبيعيًا، أشرت بيدي ناحية الملعب وقلت:
«واحد من الأطفال الصغار كسر نافذتي والآن مزق الأكياس البلاستيكية.»
ابتسم ببرود ونظر في الناحية التي أشير إليها.
«ولكني لا أري أي أطفال!»
«إنهم كالعفاريت.. يختفون فجأة ويأتون فجأة.»
إن كنت قد نجحت في أن أبدو طبيعيا أمام ربيع بالأمس فقد نجحت الآن أيضًا، لكن لما هممت بالذهاب أوقفني رفيق وقال:
«منظر الكارَڤان في تلك المنطقة غير مقبول.. بعض العمال يشتكون.. حاول أن تجد مكانا آخر.»
تمتمتُ ببعض الكلمات وتركته. كان الطفل لا يزال يمشي بجواري، حاولت أن أتجنبه فأسرعت خُطاي، لكنه مازال أيضًا يمشي بجواري. 
داخل المصنع قابلت ربيع، حاولت أن لا أنظر للطفل مهما حدث، لكني فشلت، وهو – ربيع – لم يكن مرتاحًا في الحديث معي هذه المرة، حاول أن يبدو مشغولاً، وكلامه كان مقتضبًا. أعطاني عنوان صديقه لتبديل الزجاج المكسور ولما اشتكيت له عن مكان الكارَڤان وعدني بحل المشكلة مع رفيق وذهب. بعد وقت لا بأس به وجدت ربيع مع رفيق يتحدثان، خالجني إحساس قوي بأن الحديث عني فارتحت لأمر الكارفان.
حينما كنت أبحث عن لاصق لتثبيت الأكياس وجدت رفيق وربيع يأتيان نحوي. حاولت أن أخفي الأكياس ففشلت وتظاهرت بأنني أعيد تركيب أكياس القمامة مرة أخرى، وبينما كنت منحنيًا رأيت الطفل يشير إليهما.
«هل تواجهك مشكلة؟»
قالها ربيع بصوت خفيض. اعتدلت بجسمي وحاولت أن أبدو طبيعيًا، لكن الطفل كان يجيء ويذهب في الغرفة، فواجهت صعوبة في التركيز. حاولت إقناعهما بأنه لا وجود لأي شيء يستدعي القلق، وهما كانا يحاولان أن يعرفا ما هو السر في شرودي الدائم، إذا كان مالاً فسأحصل عليه آخر الشهر، وإذا كان الكارَڤان فسيبقى كما هو. لما وجدتهما صادقين في قلقهما، لم يعد أمامي غير حلّين إثنين عليّ الإختيار بينهما؛ إما أن أعترف لهما وأتحمّل ما سيترتب عن ذلك، أو أن أبيّن لهما أنها مشكلة مال وينتهي الموضوع عند هذا الحد.
استأذنت في الدخول للحمام كي أرتب أفكاري. لم يكن الموضوع سهلاً، إن انكرت سيظل الطفل يسير ورائي أينما ذهبت، وستضيع عليّ فرصة المساعدة إن كانا حقًا يستطيعان، أو أعترف لهما بالحقيقة وأجد نفسي بلا عمل. كان عليّ أن أبدو هادئًا قدر المستطاع، والطفل يقف بجواري ينظر إلي بعينيه الحيّتين: 
«إحملني على ظهرك.»
قالها الطفل كأنه ظل دهرًا يفكر في حل لتلك المشكلة، كأنه يعلم مشكلة وجوده، وأن هذا الحل هو المخرج الوحيد، تذكرت الحلم الذي قال لي فيه تلك الجملة، وتذكرت ربيع ورفيق الواقفان في الخارج ينتظران، وبدا لي حلا معقولا، هذا الطفل لن يذهب كما جاء ولن أستطيع أن أتظاهر بأنه غير موجود، سأحمله كسؤال ينكسر تحته ظهري.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي