الطموح الأعمى

١

فتح أحمد عينيه تحت الدش فدخل الصابون فيهما. أخرج رأسه من تحت الماء، دعك عينيه بيده، أعاد رأسه تحت الماء رافعًا وجهه إلى أعلى، فاتحًا عينيه ليستقبل قطرات الماء علّها تغسل الصابون والشامبو الذي دخل فيهما. فجأة تذكر أن «الواتساب» مفتوح على الكمبيوتر في غرفة الاستديو، وفرح يمكنها أن ترى الرسائل المتبادلة بينه وبين مي أثناء نقلها الموسيقى. بحمَاقةِ الذكور الواثقين بغبَاءِ كل من حولهم، طمأن نفسه «هذا مستحيل» ومضى يُكمل استحمَامه.
خرج من الحمام كخروف منفوش اللية، يرتدي بوكسر أحمر، في يده المشط يصفف شعره، ويصفر بشفتيه لحن «لامارسييز». ذهب إلى غرفة النوم فلم يجد فرح، ذهب إلى الغرفة الثانية التي استولى عليها منفردًا وحولها لاستديو، فوجد فرح جَالسة إلى الكمبيوتر، تتصفح محادثاته مع مي على الواتساب المفتوح على الكمبيوتر. 
رفعت فرح وجهًا لم يعرفه، أفزعه الفراغ في عينيها. وقبل أن يفتح فمه أخذت تلطم على وجهها. دفعت كرسي المكتب إلى الخلف، نهضت ويدها تقذف كل ما تطاله، رمت سماعة موضوعة على طاولة المكتب فهوت على الأرض متحطمة، وهي تصرخ «ليه… ليه أنا ما استاهلش منك كدا. حرام عليك».

٢

في الرسائل يتغزل أحمد في شفتي مي، في عينيها، في جسدها، يشرح ويفصل حبه وما يرغب أن يفعله فيها. في المقابل ترسل مي صورها بالمايوه على الشاطئ، أو صورتها وهي في حمام فندق ما بقميص مفتوح حتى سرتها. وكان أحمد يكرر حبه، ويكرر أمنيته أن يعيش معها، ومي تخبره أنه المخدرات التي تحيا عليها. 
لأجل هذه العبارات تكسر قلب فرح لشظايا. زعقت، شدت شعرها، ضربت الأثاث، جذبت السلوك الكهربائية التي طالتها يديها، صرخت وتطاير الرذاذ من فمها في كل مكان.
بعد هذا الألم. لم تستطِع النظر لوجه أحمد، كانت تتألم كلما نظرت إليه. تركت المنزل وانتقلت للإقامة لدى صديقتها. طلبت أن ينفصلا مؤقتًا لكي يتمكنا من التفكير وإعادة النظر في علاقتهما. 
لم يفكر أحمد، لأنه لم يرَ أن هناك ما يستلزم التفكير من جانبه، بل ظن أن فرح هي من يحتاج إلى التفكير حتى تقتنع بما يريده، لكن فرح لم تقتنع، ولم يفهم أحمد لماذا لا يريد العالم طاعته. 
رغباته بسيطة، شرحها بأكثر من أسلوب لفرح، فهي ستظل إلى الأبد الزوجة والصديقة والرفيقة، لكنه يحتاج إلى علاقته بمي في هذه المرحلة لما تمنحه له من إلهام، لتلك الكيمياء التي تتولد بينهما في أثناء العمل، لفرص الأبواب الكثيرة التي تفتحها له. 

٣

تماهيًا مع نماذج النجاح الفني التجارية التي بدأ في تبنيها منذ معرفته بمي، قرر إعادة تشكيل جسده تمهيدًا للمشي تحت أضواء النجومية. 
يذهب إلى الجيم بانتظام، يختار بعناية ما يتناوله، مع مكملاته الغذائية.
التقى فرح بعد ثلاثة أسابيع من مغادرتها المنزل، نظرت في عينيه بكل رجاء وأخبرته انكسرت يا حبيبي، فهل أنت حبيبي؟ أرني برهان ربك.
أخذ أحمد يتحدث، ويدور، ويصول، ويجول، يضحكها، ويبكيها، يركز نظرات عينيه في عينيها، يضع يده على خده، يمد كفه ليتلمس أصابعها. وبعد ساعتين من الحديث المتواصل وهما جالسين في ذلك البار القديم، سألته فرح مباشرةً، ماذا سيفعل في علاقته بمي وهل قطع علاقته بها؟ 
قال أحمد «لا» مترددة. فورًا تخيلت فرح نفسها تقوم بمشهد درامي تصرخ فيه وتسبه، ثم تنهض من مكانها وتنصرف مغادرة، لكنها ظلت صامتة وتكاسلت حتى أن تقول له «كس أمك يا حبيبي».

٤

إنه هنا على الكنبة منذ ٢٠ ساعة لم يغادرها إلا إلى الحمام. نام واستيقظ، أكل وشرب، بكى، وضرب عشرة. نظر حوله فوجد علبة بيتزا فارغة، كيسًا بلاستيكيًّا يحتوى بقايا وجبة البرجر التي طلبها صباحًا. والآن يشعر بأنه وقت الكاكا. أجل دخول الحمام من أجل الشخاخ، فتجمعت الشخة في أمعائه وملأتها، وأصبحت ضاغطة على أحشاء معدته، فاستسلم أخيرًا ودخل الحمام، لتنطلق سيمفونية الآهات من فمه والدماء من مؤخرته.
بعد فترة من المواظبة على «الجيم» اشتكى أحمد لمدربه بطء نمو عضلاته، فوصف له برنامجًا من المكملات الغذائية معظمها من مشتقات البروتين. نتيجة لهذا بدأ يتبرز قلاليط خراء ناشفة، كما عانى من الإمساك الشديد، فاستخدم الشطافة واندفاع المياه المسلطة على مؤخرته كوسيلة لتدليك الشرج وبله، لتسهيل عملية خروج القلّوط.
لاحظ في إحدى المرات خروج الخراء من طيزه مُختلطًا بالكثير من الدماء. فزع مثل أي نجم صاعد يخاف على صحته. زار طبيبًا في اليوم الذي يسبق زيارته لفرح في منزلها الجديد.
طلب الطبيب منه النوم على جانبه، وضم ركبتيه لصدره. ارتدى قفازات طبية، وأدخل إصبعين في شرج أحمد فصرخ متأوِّهًا. طمأنه الطبيب وقال الأمر بسيط، مجرد شرخ شرجي. شرح الطبيب أن الشرخ عبارة عن جرح داخل الشرج، لذا فعند التبول يجبر البول الشرج على التمدد فيفتح الشرخ مرة أخرى، وينزف الجرح.
سأله أحمد عن سبب الإصابة، فأخبره الطبيب «لا شيء محددًا، لكن غالبًا السن والنظام الغذائي»، ثم سأله إن كان يكثر من تناول البروتين أو المكملات الغذائية، فقال نعم.
 هز الطبيب رأسه آسفًا، أخبره أن تلك المكملات، خصوصًا البروتين، تؤثر في أداء القولون والأمعاء، وعلى الأرجح هي السبب في إصابته بالإمساك، ما أدى إلى إصابته بالشرخ.
نصحه الطبيب بتغيير نظامه الغذائي، وتقليل الكربوهيدرات والبروتين وتناول مزيد من الخضراوات والزبادي والشوفان والأغذية الغنية بالألياف، كما وصف له عددًا من المراهم لتسكين حرقان الطيز ولمساعدة الشرخ على الالتئام، لكن انشغل أحمد بلقاء فرح، ثم عاد من اللقاء مضطربًا واستسلم للكنبة ونسي أمر الدواء والشرخ الشرجي، والآن حين ملأ الخراء أمعاءه وحان وقت الحمام ندم لأنه لم يشترِ الدواء.
دخل الحمام وعانى في الشخة، وحين انتهى ظل الحرقان نارًا في طيزه، حاول الجلوس لكن استمر الألم في التصاعد، اتصل بالصيدلية وطلب الدواء لكن لم يكن المرهم متوافرًا لديهم، فقرر ارتداء ملابسه والخروج بحثًا عن المرهم.
حل المساء وأدرك أحمد أن اليوم مضى دون أن يرى الشمس، فزاد شعوره بالوحدة. وحزن حين لم يجد سيارته الجديدة الكيا السوداء، بل وجد سيارة هوندا بيضاء تقف في المكان الذي يتذكر أنه ترك فيه سيارته. تمشى على طول الشارع من تلك الجهة، ثم من الجهة الأخرى ظنًّا أنه ربما اختلط عليه الأمر وركن السيارة في مكان آخر، لكنه لم يجدها.
ثم أيقن بحقيقة ما حدث، لقد سُرقت سيارته.

٥

بينما هو يقترب من قسم الشرطة، تذكر نكتة قالتها فرح،  تعرض شخص ذات مرة للسرقة في القطار، فذهب إلى ضابط الشرطة في المحطة وقال «سرقوا حقيبتي من فوق رأسي». الضابط رأى فيه مغفلاً دُغُفًّا فقال له «حاضر من عينيا هاجيبها لك من تحت الأرض». خرج الرجل من محطة القطار فرأى عمالاً يحفرون بهمة ونشاط، هرول باتجاههم ووقف مشجعًا، «الهمة يا رجالة هي بجلد أسود ولها سوستة».

٦

تجاوز البوابة الرئيسة للقسم، فوجد نفسه في ساحة واسعة وأمامه أكثر من مبنى وباب، وهو لا يعرف إلى أين يتجه.
نادى عليه أمين شرطة «خير يا أستاذ رايح فين؟» فقال إن سيارته سُرقت ويرغب في عمل بلاغ ومحضر، ابتسم الأمين ساخرًا «محضر مرة واحدة؟». أشار إلى باب مفتوح في الدور الأرضي وأكمل: «طيب يا سيدي شايف الباب دا؟ خش جوا هتلاقي ضابط وأمين شرطة اسمه عم السحار، روح له وهيكتب لك أحلى محضر، وبعد ما تخلص لو احتجت لأي حاجة تعالى لي هنا».
ولج أحمد من الباب فرأى قاعة واسعة، في زاوية منها قفص حديدي وقفت داخله مجموعة متباينة من المقبوض عليهم. وفي مواجهة الباب يوجد مكتب ودولاب، وكرسي يجلس خلفه أمين شرطة وضابط شاب أصلع برتبة ملازم.
تقدم أحمد إلى المكتب متجاوزًا ثلاثة واقفين أمامه، وسأل الضابط وأمين الشرطة خلف المكتب، «لو سمحت، أمين الشرطة عم السحار موجود؟».
رفع أمين الشرطة رأسه عن الورقة التي يكتب فيها، ونظر إلى أحمد ثم عاد لورقته مستكملاً عمله. أما الضابط الذي كان يلعب في موبايله، فرمى الموبايل على الطاولة، وقلب سحنته مخاطبًا أحمد بصوت مرتفع: 
-طيب إذا مش عاجبك الناس اللي واقفين وقاعدين مستنيين دورهم، على الأقل احترمني أنا، مش فيه طابور قصادك؟ وإيه عم السحار دا كمان؟ إنت جاى عايز إيه؟
ارتبك أحمد، وابتلع الإهانة، وقال لنفسه «إن كان لك عند الكلب حاجة قول له يا سيدي»، فاعتذر للضابط قائلاً «سوري»، ومتلجلجًا أوضح أنه أتى لعمل بلاغ عن سرقة سيارته. سأله الضابط:
– نوعها إيه عربيتك؟
– كيا سيراتو.
– طيب اقعد هنا ما دامت كيا.
وأشار إلى مكان فارغ على المصطبة بجوار القفص الحديدي.

٧

ما إن جلس أحمد على المصطبة، حتى عاوده حرقان الطيز. تخيل الجدار الداخلي لأمعائه «ينشرخ» وتنز الدماء منه. حاول صرف الصورة عن ذهنه، فتذكر ذكرى بعيدة. 
كان قد مر على وجوده في القاهرة شهر واحد، يتمشى بمحاذاة سور المتحف المصري، حاملاً الجيتار بفخر حينما أوقفه أمين شرطة وقال له، تعالى كلم البيه الضابط.
نظر حوله ولم يكن هناك أي ضابط. لكن أمين الشرطة لم يترك له مجالاً للتردد، وجذبه من ذراعه. أدخله من باب صغير في سور المتحف، أوقفه في غرفة ضيقة أمام اثنين من الضباط. سأله أحدهم عن بطاقته الشخصية، فأخرجها. تفحصها الضابط ثم سأله ما الذي يفعله في القاهرة وهو من الزقازيق. فقال إنه يعمل في محل أدوات موسيقية. علق الضابط الثاني ساخرًا والجيتار اللي على كتفك دا رايح تبيعه والا بتعرف تلعب عليه، فقال إنه جيتاره ويجيد العزف عليه. قاطعه الضابط الأول وسأله إن كان معه ما يثبت ملكيته للجيتار، فقال لا، حينها أخبره الضابط في هذه الحالة سنصادر الجيتار، وطلب منه تسليم الجيتار للأمين. رفض أحمد تسليم الجيتار. شخط فيه الضابط وهدده قائلاً:
– شكلك ابن ناس، سلم الجيتار ونسيبك بدل ما ناخدك على القسم وتتبهدل.
رفض أحمد، وكانت تلك أول مواجهة له مع السلطة، فتلجلج الكلام في حلقه: «لا، دا جيتاري، أنا حوّشت علشانه، الفاتورة في الزقازيق». قاطع الضابط ثرثرته غير المترابطة وقال له:
– خلاص، خلاص، مش أنت من الزقازيق وعامل لي فيه فنان من بلد عبد الحليم حافظ؟ غني لنا حاجة بقى.
لمعت عينا أحمد، فهذه منطقة نفوذه، وبصوته يمكن أن يسحرهم ويملك قلوبهم، فتح فمه وأخذ نفسًا عميقًا، ثم أخرج الهواء. حرك فكيه لكن لم يخرج أي صوت. أصيب بالخرس ولم يفهم كيف اختفى صوته. هوت صفعة أمين الشرطة على قفاه. 
قضى ليلته في القسم بعدما ضربه أمين الشرطة. حضرت السيدة فريدة ومعها محاميها الخاص ثاني يوم في النيابة إذ أفرج عنه، والمدهش أنه استعاد الجيتار سليمًا حين عاد إلى القسم ليكمل إجراءات خروجه وإخلاء السبيل. 
حسم هذا اليوم قراره تأجيل خططه في الغناء، فإن كان بإمكان صوته أن يخونه هكذا، فالأمر إذًا لا يعول عليه.  

٨

أخيرًا نادى الضابط على أحمد. سأله عايز السحار ليه. قال إنه جاء ليبلغ عن سرقة سيارته، وأمين الشرطة أخبره أن يسأل عن السحار. فسأله الضابط وأنت دلوقتي عايز السحار والا عايز تعمل بلاغ. فقال إنه لا يعلم من هو السحار، وإنما أتى ليبلغ عن سرقة سيارته. رد الضابط:
– تمام.. تمام.
ثم قام من خلف المكتب، وأشار إلى الأمين الذي يجلس بجواره وقال له: «شوف بقى يا عم السحار الأفندي عايز يبلغ عن إيه، أنا طالع أعمل تليفون».
خرج الضابط، فأشار الأمين لأحمد أن يجلس. ملامحه في منتصف الأربعينات، بشرته سمراء وشاربه أبيض، وعلى عكس الضابط بدا بشوشًا وهو يرحب بأحمد، ثم شرح له بود النظام قائلاً: «أنت شكلك ابن ناس يا أستاذ، ومش حمل بهدلة، شوف، الخلاصة أنت قصادك حلين، الأول أكتب لك البلاغ وأعطيك رقمه، وعليك تتابع مع النيابة والأجهزة المختصة يمكن يلاقوا عربيتك. الحل الثاني أبسط ويكلفك ٦٠٠ جنيه، وعربيتك ترجع لك في يومين ثلاثة بالكتير، لكن من غير بلاغات ولا صداع ولا وجع دماغ.. تختار إيه؟».
بالطبع اختار أحمد الحل الثاني، فقال له الأمين إن كل ما يجب عليه فعله، أن يخرج الآن ويعود إلى أمين الشرطة الذي قابله على مدخل القسم واسمه صبري صبرك، ثم كرر الاسم وسأله: «اسمه إيه؟».
 رد خلف السحار: «صبري صبرك». 
تردد في الانصراف دون تحرير محضر، لكن الأمين شجعه قائلاً إن المحاضر موجودة والقسم لن يطير، ويمكنه أن يأتي في أي وقت لكتابة البلاغ الذي يريده. انصاع أحمد في النهاية وخرج عائدًا إلى أمين البوابة.

٩

أعجب أحمد بجملة الأمين السحار «شكلك ابن ناس». لأنه بذل طوال حياته مجهودًا كبيرًا ليصبح ابن ناس.
أتى أحمد من مدينة الزقازيق، المدينة التي أخرجت أشهر يتامى مصر، عبد الحليم حافظ، وأحمد زكي. حلم دائمًا بمستقبل من الشهرة والثراء مثلهما، مستقبل يتحول فيه إلى أيقونة يحبها الجميع، يعطفون عليه، يبكى أمامهم فيبكون، وحينما يصفقون له يبكي وينحني تقديرًا. 
تخيل جماهير عريضة تطارده، يغرقها بالمحن فتغرقه بالهستيريا. وقع في غرام الموسيقى. كان مراهقًا حين شاهد على التلفاز في برنامج عن ذكرى عبد الحليم حافظ مشهدًا يغنى فيه قارئة الفنجان، مندمجًا مع كلمات نزار قباني ومَجازاته، لكن الجمهور المنفعل يصفر ويصرخ، وعلى ما يبدو تضايق حليم من تفاعل وحب الجمهور، أوقف الموسيقى وخاطبهم غاضبًا «على فكرة أنا كمان باعرف أصفّر، وبعرف أزعق وأتكلم»، ثم وضع حليم إصبعيه بين شفتيه وصفّر مقلدًا صفافير الجمهور، استقبل الجمهور الأمر كمزحة وبادله التصفير، واشتعل الصخب والهستيريا بين الحضور.
في تلك الليلة حينما نام أحمد في فراشه الضيق وسط اثنين من إخوته الصغار، تخيل مستقبله واقفًا على المسرح يطلق الهستيريا والفرح والجنون في جمهور يرغب في احتضانه والتهامه. لكن واقع أحمد كان ضيقًا بلا أفق، فهو ابن مزارع من قرية على أطراف محافظة الشرقية، توفيت والدته بعدما أنجبت له ثلاثة إخوة، فتزوج أبوه مرة ثانية وأنجب أربعة أبناء آخرين، جميعهم يعيش في منزل ضيق، تمكن الأب من توسيعه حين بلغ أحمد الثانية عشرة وأعاد بناءه بالطوب الأحمر وجعله من دورين وثلاث غرف، الأولاد الأربعة في غرفة، والبنات الثلاث في غرفة أخرى، لذا حينما انتقل أحمد إلى المدينة الجامعية في الزقازيق ووجد نفسه ينام في غرفة مع زميل واحد وكل واحد له سريره الخاص، قال إذًا لا بد أن تكون هذه الجنة ونعيمها، سرير يخص المرء وحده. 
درس أحمد في كلية التجارة، لكن في سنته الأولى شاهد زميلاً له يدخل الجامعة حاملاً الجيتار، مقلدًا المشهد الشهير لنجم تلك المرحلة تامر حسني الذي كان يظهر في أفلامه متجولاً في الجامعة بالجيتار، ويغني وسط زملائه وزميلاته. التصق أحمد بالزميل حامل الجيتار، ثم أدرك أنه لا يستطيع إلا عزف لحنين على الجيتار، تعلمهما منه سريعًا. 
استعار أحمد الجيتار كثيرًا من زميله المهووس بتامر حسني، وفي النهاية سئم الزميل من مرحلة جيتار تامر حسني، وانتقل إلى تدخين السجائر ومحاولة تقليد أحمد السقا في كيفية رمي السيجارة في الهواء والتقاطها بفمه. عرض الجيتار على أحمد فاشتراه بالتقسيط.

١٠

رغم أن والده لم يقصر تجاهه، ومنحه مبلغًا شهريًّا بسيطًا ليساعده في مصاريف دراسته، رفض أحمد المبلغ وقرر العمل أثناء دراسته. 
في الصباح طالب في كلية التجارة، وفي المساء يعمل في محل كشري. 
أغلق آخر محل في الشرقية يبيع أوتار للجيتار، ومر شهران دون أن يعزف على الجيتار لأنه لم يجد أوتاراً بدل الممزقة، الاكتئاب يحاصره رغم حصوله على المركز الأول في الغناء في أسبوع شباب الجامعات، وحصوله على ألفي جنيه مكافأة. لم يكن لهذا النجاح أي مذاق، خصوصًا وقد كانت السنة الثانية التي يفوز فيها في أسبوع الجامعات، دون أن تنهال عليه العروض بالغناء أو تُفتح له أبواب المجد كما تخيل، بل كل ما تلقاه عروض للغناء في الأفراح وليالي الحظ، وهو الطريق الذي رفضه بعد تجربة لم تدم أكثر من أسبوع مع إحدى الفرق المحلية.
استيقظ ذات يوم يهرش في كل أنحاء جسده، كان يحرص على نظافة الغرفة، لكن زميله الجديد في السكن بهيمة جاءت المدينة الجامعية بطينها وَبقّها وقُمَّلِها. ولم يعرف كيف يهرب منه أو من يأسه أو رائحة التقلية والكشري التي تعبئ ملابسه وجلده. استحم، وارتدى ملابسه، حمل الجيتار وقرر الذهاب إلى القاهرة.
مشى في القاهرة وفي أذنه صوت عبد الحليم، وفي انعكاس صورته في واجهات المحلات لا يرى وجهه بل  وجه أحمد زكي. وصل إلى محل يبيع الأدوات الموسيقية في وسط البلد. ولج مسحورًا. كان المحل مختلفًا عن محل الخردوات في الزقازيق الذي يبيع أدوات موسيقية مُستعملة قديمة، فهو محل واسع من طابقين، بأرفف متعددة من آلات النفخ إلى الجيتارات، إلى الطبول إلى أنواع مختلفة من الأورج، ثم وسط الآلات المعروضة وجد إعلانًا عن حاجة المحل إلى بائع أو بائعة من الشباب لديه خبرة في الآلات الموسيقية.
ذهب إلى البائعة الجالسة خلف مكتبها تقرأ في إحدى المجلات الإنجليزية.. ألقى السلام، فابتسمت له السيدة، فاستبشر خيرًا. 
كانت هذه فريدة سعيد.

١١

عاد أحمد إلى الأمين الجالس لدى البوابة، ما إن وجده الأخير يقترب منه حتى فشخ ضبه مبتسمًا وسأله «عملت المحضر يا أستاذ؟».
تصنّع أحمد الغُلب والمسكنة، وقال له إنت بتعذبني ليه يا عم، ما أنا رحت للسحار باشا جوا قال الكلام معاك يا عم صبرى.
 أسمر البشرة، ضبه بارز، وأسنانه يلمع بياضها، ويعلوها شارب متسخ. تحت الأنوار الصفراء لبوابة قسم الشرطة جلس بجسده السمين وكرشه الكبير، تلتمع قطرات العرق على جبهته، فيمسحها كل فترة بفوطة برتقالية. أفسح الأمين صبري لأحمد ليجلس بجواره. لكن حرقان طيز أحمد اشتد عليه، ولم يرغب في الجلوس، فاعتذر للأمين صبري وهو يمد يده في جيبه ليخرج الفلوس. 
برم الأمين صبري وجهه وخاطبه: «جرى إيه يا أستاذ؟ ما تقعد زي الناس وتفهم الموضوع؟».
تحامل أحمد على نفسه وجلس بجوار الأمين صبري صبرك، مال قليلاً حتى يكون ثقله على فخذه الأيسر لا على صُرْم طيزه. شرح له الأمين صبري أن الأصيل للأصيل، و«الجذر للفرع إيه يا أستاذ؟». بتلقائية رد أحمد «يميل». 
فجاوبه الأمين صبري: «الله ينور عليك ويبارك لك، بقى البلد من بعد ما بقت كل يوم ثورة ويشيلوا فلان، لأ يشيلوا علان، المصالح كانت ستضيع. واللي مالوش كبير يعمل إيه يا أستاذ؟» 
رد أحمد: «يشتري له كبير». 
ابتسم الأمين صبري فبانت الفلجة بين أسنانه وجاوب أحمد: «الله يفتح عليك، إيه الحلاوة دي؟».
لمح أحمد في الإصبع الصغير للأمين خاتمًا فضيًّا بفص أزرق يشقه خيط أبيض كعين القط. أوشك أن يسأله من أين اشترى هذا الخاتم، لكنه خاف من أن يتوه الحديث أكثر. يتشعب كلام الأمين يمينًا ويسارًا، يخرج من معنى إلى لا معنى. قال فيه ناس ولاد ناس مثله يحبون أن يخدموا. والسيارات المسروقة من المنطقة يتم تسليمها لناس طيبين في محاولة لبيعها، وبإمكانه الاتصال بهم للسؤال عن سيارته، أخرج أحمد من جيبه ٦٠٠ جنيه مثلما أخبره الأمين السحار. تناول الأمين صبري الأموال منه، ثم أكمل حديث اللامعنى. يرمي مثلاً وينطق بنصفه ثم يسكت، ويسأل أحمد عن بقية المثل أو مطلع الأغنية.
تململ أحمد في جلسته وكاد يقاطعه، لكن الأمين صبري سأله: «هو صحيح الهوى غلاب؟». كالمسلوبة إرادته رد أحمد «ماعرفش أنا». 
فجاوبه الأمين «إيه الحلاوة دي؟ الله ينور عليك، إيدك بقى على كمان ٥٠٠ جنيه.» مد أحمد يده في جيبه فلم تخرج إلا بنحو ٤٣٥ جنيهًا، ناول الأمين صبري ٤٠٠ جنيه وقال: «دا كل اللي معايا».
لوى الأمين صبري بوزه، واختفت الابتسامة وحلت محلها تكشيرة وسأله: «عربيتك نوعها إيه؟».
أخرج الموبايل من جيبه، أجرى مكالمة طالت فيها السلامات والتحيات، ثم ذكر أوصاف السيارة. صمتت المحادثة لثوانٍ، ثم تبرم مخاطبًا محادثه: «لا لا كدا كتير قوي». سكت قليلاً، وردد: «تمام.. تمام، طيب شوف أنا هادّيه الرقم واخليه يكلمك دلوقتي». أغلق الأمين صبري تليفونه ثم خاطب أحمد: «والله يا أستاذ كنت عايز أعمل معاك أي واجب بس هو قافش في ثلاثين ألف، كلمه أنت، خد الرقم أهوه واتفاهم معاه».
أخرج أحمد هاتفه من جيب بنطاله، فأملاه الأمين صبري الرقم.

 ١٢

«مدام فريدة». سينطق اسمها للأبد مسبوقًا بهذا اللقب، حتى حينما يذكرها في حضور نسيم ابنها.
منذ التقاها قطع علاقته بكل ما مضى. قدم نفسه لمدام فريدة التي كانت تبحث عن عامل يساعدها في المحل، بات أول أسبوع في فندق بجوار محطة السكة الحديد، وحين أوشكت أمواله على النفاد قرر أن ينام في المحل دون أن يخبرها. في نهاية اليوم يُنزل الباب ويفترش مجموعة من الفوط. بعدها بأيام دون أن تواجهه أو تعلق وجد مدام فريدة تحضر له مرتبة صغيرة، وبعدها بأسبوعين منحته مفتاحًا لغرفة فوق سطوح واحدة من عمارات وسط البلد.
لم يعد أحمد إلى عائلته في البلد، إلا قبل زواجه بفرح بنحو شهرين حين هاتَفَه أخوه ليخبره بوفاة والده، لم يرغب في الذهاب، لكن فرح أصرت أن يذهب، وعرضت مصاحبته، رفض صحبتها بالطبع وذهب وحيدًا. وصل بعد الدفنة. حضر جزءًا من العزاء، شرب قهوته وانصرف.
حكى أحمد لمدام فريدة أنه يتيم وربّاه عمه، وزوجة عمه كانت تضربه، وحكى لفرح أن والده كان سِكّيرًا وكثيرًا ما يضربه، وروى قصصًا بشعة عن زوجة أبوه  وكيف كانت تحبسه عاريًا في الحمام، وكيف أجبره والده ذات مرة  أن ينظف بلاط الأرض بلسانه. حكى حكايات كثيرة ومتنوعة عن حياته قبل لقائه مدام فريدة، حكاها بمنتهى الإيمان، وكرر بعضها أكثر من مرة، حتى أصبحت حقيقة لديه ولدى المقربين منه.

١٣

كل هذا الماضي البشع انتهى في «أنغام» للأدوات الموسيقية. خلع جلد الشقاء، ولعق نفسه حتى نما له جلد جديد، أصبح كما يصفه أمين الشرطة الجلف «ابن ناس».

١٤

على عكس المتوقع، جاء الصوت أنثويًّا ناعمًا على الطرف الآخر من الخط. اضطرب أحمد، لكن الأمين صبري بجواره همس له: «قول إنك من طرفي».
تكلم أحمد:
– ألو، أنا باتّصل من طرف الأمين صبري صبرك.
– أهلاً وسهلاً يا افندم، حضرتك بتتصل بخصوص عربية كيا سودا، صح؟
– أيوه مضبوط.
– طيب لحظة واحدة باراجع على السيستم، خليك معايا.
انقطع الصوت، وسمع موسيقى عمر خيرت. أبعد أحمد السماعة عن أذنه، وقبل أن ينطق أخبره الأمين صبري بألا يقلق، فهي تراجع البيانات لتتأكد  أن كله سليم. انسابت الموسيقى من السماعة أكثر من دقيقة، والأمين صبري يحادثه من الجهة الأخرى: «شغل خوجات يا أستاذ. البنات بتوع الكول سنتر والقرية الذكية من بعد الثورة ماعادوش لاقيين شغل، جابوهم وشغلوهم معاهم».
عاد صوت البنت:
– أستاذ أحمد، أنا طالع عندي على السيستم إن عربيتك اترفعت من يومين بس، صح كدا؟
– تمام حضرتك مضبوط.
– طيب يا مستر أحمد، هو لو حضرتك عايز العربية بكرة، ممكن تستلمها لو معاك 30 ألف جنيه كاش، أو تتابع بقى مع عم صبري، لو عملت بلاغ ممكن تتسلم للمباحث بعد ست أو تسع شهور، لو ماحدش اشتراها أو طلب يشتري الماتور أو قطع غيار أساسية منها.

١٥

تشجع ذات مرة في ساعة صفا، وأخبر مدام فريدة أنه يغني ولديه صوت جميل، وسبق أن فاز في مسابقة أسبوع شباب الجامعات. سألته مدام فريدة بودها المعهود: «ولمن تغني؟». 
رد بثقة وقد أشرقت الابتسامة على صفحة وجهه، أنا باغنّي لعبد الحليم، وفريد، وفوزي، وحافظ كمان لعبد الوهاب والست أم كلثوم. 
قلبت مدام فريدة وجهها، ونظرت إليه بشفقة ولم تعلق. اندهش أحمد من ردة فعلها، فهذه أول مرة يقابل شخصًا يتضايق من الطرب الأصيل، عرض عليها: «تحبي أسمّعك حاجة يا مدام؟». بقرف ردت المدام: «لا شكرًا، مش باحب اسمع الناس دي».

١٦

اعترض أحمد على المبلغ وقال إنه لا يملكه كله. فاصلت فتاة الهاتف معه وأخبرته أن العرض الذي تقدمه فرصة، وأنها تشعر من صوته وأسلوبه أنه ابن ناس ومحترم وماشي مع السيستم بتاعنا. 
لم يفهم أحمد بماذا تقصد بـ«بتاعنا». سألته عن رصيده في البنك و«يقدر يحضر كام بكرة». رد أحمد عشرة آلاف جنيه. شخرت الفتاة وتحول صوتها من نبرة خدمة العملاء إلى تطليع دين أم العملاء، أخبرته أن وقتها ثمين، وهناك المئات غيره لديهم سيارات مسروقة ومصالح معطلة يتصلون على هذا الرقم، وأنه يضيع وقتهم، وأنها أرادت مساعدته لكن الآن ستغلق الخط لأنه لا يريد أن يساعدها أو يساعد نفسه.
ردد أحمد اعتذارات مُتتالية ورجاها ألا تغلق الهاتف، لكن بحدة ردت عليه:
– اسمع يا أستاذ، أنا هاكتب في السيستم عندي إن العربية مستعملة، وانزل لك المبلغ من ٣٠ إلى ٢٥ ألف، زميل ليا هيكلمك بكرة قبل الساعة ٢ يحدد معاك ميعاد وتفاصيل التسليم. قلت إيه؟ أدخّل البيانات والطلب بالرقم دا في السيستم وتيجي بمفتاحك تستلم عربيتك بكرة، والّا اقفل وتروح تستنى في القسم؟
بصوت مذلول وبنبرة حملها أحمد كل مقدرته على الابتزاز العاطفي قال لها:
– اللي تشوفيه.

١٧

ذائقة مدام فريدة الموسيقية كانت مختلفة عن كل ما عرفه أحمد. تجمع داخلها مُختارات مُختلفة من حضارات وعصور متباينة، في حين كانت ذائقته مبنية على ما يقدمه الراديو والتلفزيون المصري، ولم يكن يهتم بغير الأغاني العربية. ذات مرة علق قائلاً، الله، الموسيقى دي عاملة زي موسيقى مسلسل ألف ليلة وليلة.
ضحكت مدام فريدة، وقالت إنها موسيقى ألف ليلة وليلة من قبل أن يصنعوا المسلسل، ثم بقية اليوم شرحت له التركيب الموسيقي للمقطوعة التي لحنها كورساكوف، وكيف تختبئ حكايات ألف ليلة وليلة داخل المقطوعة. قالت أنصت لأصوات الآلات النحاسية واللحن المتماشي مع الوتريات العريضة في إيقاع مهيب يمثل الملك الغاضب شهريار. أما آلة الهارب والكمان بصوته الآسر فيمثلان صوت شهرزاد، ومن الحوار بين الصوتين نقع في أسر علاقات القوة والإغواء بين شهريار وشهرزاد.
تُوقف الموسيقى وتشرح له كل حركة، ما الذي يقوله صوت الكمان/ شهرزاد، كيف يعلو غضب شهريار. تحولت الأصوات أمام أحمد إلى مرئيات، وفهم أخيرًا أن الموسيقى ليست سجادة يمشي عليها صوت المغني، بل هي صانعة الصورة ومشيدة العالم.

١٨

خرج أحمد من القسم وذهنه مشوش غير قادر على التفكير في ما حدث بسبب ألمه الشرجي. لذا حينما لمح نور الصيدلية في ظلام الليل شعر بالأمان والاستقرار، وبأنه مهما طال الليل هناك نهار، وبأن الغد أفضل، وبأنه قادر على تجاوز آلام الطلاق والانفصال، سيعبر كل ما سبق حتى الشرخ الشرجي وآلامه، فكل هذا قبض ريح.

١٩

بدأ أحمد التطفل على جهاز الكمبيوتر والأسطوانات التي تحضرها، ثم سألته مدام فريدة مرة إذا كان لديه إيميل. ابتسم وظل صامتًا لا يعرف بماذا يجيب، فنادت عليه وأجلسته بجوارها وأخذت تشرح له ما هو الإنترنت وما هو الإيميل. في تلك الفترة تعرف على نعيم الذي يصغره بعدة سنوات ويعمل في محل المعدات الصوتية والسماعات في ميدان باب اللوق. اهتمام الاثنين بالموسيقى وأدوات تسجيلها وإنتاجها جمع بينهما.
لم يمتلك أحمد هاتفًا محمولاً في ذلك الوقت، لكن نعيم لديه هاتف طراز نوكيا يعلقه في حزام بنطاله ويسير فخورًا به. ذات يوم لاحظ أحمد أن النغمة الموسيقية التي يصدرها هاتف نعيم مُختلفة عن المعتاد، وحين سأله قال نعيم إنها نغمة أغنية «هيرو» لإنريكي إيجلاسيس، اندهش أحمد وسأله هل اشترى الموبايل بالنغمة، سخر نعيم قائلاً «فلاح». ثم شرح له على الموبايل كيف أن النغمة هي عبارة عن كود تتم كتابته من خلال لوحة أرقام الموبايل.
أمسك الموبايل وأعاد برمجته وأدخل أرقامًا وحروفًا أخرى ثم استمع لنغمة من تأليفه. في غمرة اندهاشه قال لنعيم «هذه ثورة، بهذا الشيء يمكن لأي شخص أن يؤلف الموسيقى».

٢٠

دخل أحمد الصيدلية. وجد شابًا مُندمجًا في لعبة على موبايله. وقف أمامه ثم تذكر أنه نسي الروشتة التي كتبها له الطبيب، ولا يحفظ اسم الدواء. لكن دفعه الألم في شرخه الشرجي للتعامل فورًا. تقمص شخصية النحنوح محاوِلاً الاستحواذ على اهتمام الشاب الذي لم يرفع عينيه إليه، ولم تفارق أصابعه شاشة الموبايل وهو يحادثه.
قال للشاب إنه زار طبيبًا بالأمس، ووصف له دواء لكنه لا يذكر اسمه، لكن على الأرجح سيكون دواء متعلقًا بالشرخ الشرجي، لذا قد يمكنه أن يعطيه أي دواء مسكن لآلام الشرخ الشرجي. رفع الشاب الصيدلي رأسه عن الموبايل وسأله مستفمهًا بجدية: «ما هو الشرخ الشرجي؟» ارتبك أحمد ولم يعرف كيف يشرح، تلجلج، احمر وجهه وشعر بالخجل.
انبسطت أسارير الشاب، وقهقه ضاحكًا، ثم قال له: «أنت اتكسفت والا إيه يا عم؟ أنا باختبرك بس». ثم استدار وأحضر نوعين مختلفين من المراهم، وعلبة حبوب.

٢١

لم يصنع أحمد ثورة بموبايل نعيم، لكن صنع الاثنان ثروة صغيرة بمقاييس ذلك الزمن. استغل معرفته الموسيقية البسيطة، واستغل نعيم مهارته التجارية في وسط البلد. علّق نعيم في المحل ورقة كُتب عليها بخط كبير «عرض البرنس الآن ولفترة محدودة.. رنتك بأغنيتك بجنيه واحد».
باستخدام لوحة مفاتيح الموبايل النوكيا، كتب أحمد سلسلة من الأكواد لكل الأغاني الشهيرة، اشترى نعيم الكود الواحد منه بـ٢٥ جنيهًا. طوّر أحمد أولى مهاراته في التأليف الموسيقي عبر كتابة أكواد الأغاني الشهيرة، يستمع للأغنية، يدندنها، ثم يبدأ في كتابة لحنها على الموبايل حتى يصل للكود الصحيح فيدونه في كراس مخصص لأكواد الألحان. يقف نعيم في المحل منتظرًا الزبون الذي يريد نغمة أغنية «تملي معاك» فيخرج الدفتر، وينقل الكود في موبايل الزبون.
لاحظ نعيم بعد فترة أن الزبائن ينقل بعضهم من بعض كود الأغنية. كما لاحظ كذلك التطور المتسارع في أجهزة الموبايل وقدراتها. ثم زاره صديق يعمل في مطبعة في المنيرة تطبع كتب الأدعية الدينية والفضائح الجنسية، وعرض عليه شراء الكشكول كاملاً ليصدره في شكل كتاب. وافق نعيم، وصدر الكتاب تحت عنوان «أحدث أغاني ونغمات الموبايل النوكيا» وحقق مبيعات مذهلة استمرت لبضعة أشهر.
لم يخبر نعيم أحمد بصفقة الكتاب، بل رأى الأخير الكتاب لدى بائع الجرائد. تناوله وتصفحه، لفت نظره غياب اسم المؤلف، لكنه ما إن رأى الأكواد حتى عرف أنها أكواده. غضب وشعر بغدر الصديق مرًّا في حلقه. واجه نعيم بالكتاب، لكنه هز كتفيه وقال إنه عارف الكتاب لأنه كتابه وهو من طبعه. تضايق أحمد وتحولت مرارة الخديعة في حلقه إلى لهيب في أنفه، انفعل على نعيم وسأله في غضب «كيف تفعل ذلك دون إذني؟ وأين حقي؟»
رد نعيم ببرود «أنا دفعت ثمن الأغاني التي كتبها، وأنا حر في ما اشتريته». أحمد بضيق قال: «هناك شيء اسمه حقوق مؤلف، وحقوق أدبية، أنت حتى لم تضع اسمي على الكتاب». نعيم تجشأ وابتسم في وجه أحمد ساخرًا: 
– مؤلف؟ أنت افتكرت نفسك ملحن بجد والا إيه؟

٢٢

ما إن دخل المنزل حتى خلع ملابسه وهرول عاريًا باتجاه الحمام. جلس على الكابينة، وأخرج المرهم من علبته. وضع قطعة على طرف إصبعه، ثم مد يده بين فخذيه ولَحْوَس المعجون في صُرْمه.
أحس بالألم يتحول إلى حرقان، خرجت منه آهة كبيرة. أخذ نفسًا عميقًا، أتبعه أنفاسًا متتالية. حزق أكثر ليُخرج الكاكا من بطنه، لكن صُرْمه آلَمَه، حرقان في شرجه، تهيج في أعصابه على طول عموده الفقري. تذكر قصة عن رجل دخل على هارون الرشيد، وبينما هم جلوس هَمَّ الخليفة بشرب جرعة من الماء. فقال الرجل «يا خليفة المسلمين بكم تشتري هذه الشربة لو منعتها عنك؟» فقال هارون الرشيد الذي يمتد ملكه من حدود الصين شرقًا حتى الأندلس غربًا: «بنصف ملكي». فلما شرب الخليفة سأله الرجل: «ولو منعت عنك خروجها من بدنك بكم تشتري خروجها»، فقال الخليفة: «بالنصف الآخر». فقال الرجل: «لا خير في ملك يساوي شربة ماء».
بعد رحلة ألم دامت لدقيقتين خرج القَلُّوط من صُرْمه، أصدر صوتًا عند وقوعه في الماء. اشتعلت النار في طيز أحمد من الألم، نظر بين فخذيه فرأى الدماء تلوث الخراء والمياه. تنفس بانتظام، ورويدًا رويدًا بدأ الحرقان في صُرْمه ومنطقة الفخذين يتحول إلى دبيب من الألم الخفيف، انتظم نَفَسه وبدت له سرقة العربية وكل ما مر به في القسم وأي خسارات أخرى لا تساوي شيئًا لو استعاد قدرته على التبول دون آلام أو دماء.

٢٣

من النغمات الإلكترونية المولفة عبر مفاتيح الموبايل، انتقل إلى مفاتيح الكمبيوتر. في فترة قصيرة أصبح «الدي. جيه» المعتمد في وسط البلد، من حفلات صغيرة في منازل الأجانب، ترقى وأصبحت المراكز الثقافية الأجنبية تستعين به، كذلك تطلبه النوادي الليلية. نجم في دوائر محدودة.
 لم تكن لديه أبدًا قائمة جاهزة يشغلها، بل تتغير اختياراته كل مرة على حسب المكان واليوم والتوقيت، يراقب حركات الحضور ونظرات أعينهم، يحلل الكيمياء بين الأجساد وعلى هذا الأساس يختار الأغنية التالية التي ستعجبهم. تطور أسلوبه سريعًا بدافع الطموح الفني من تشغيل الأغاني وترتيبها لمزجها، ثم أكثر من استخدام المؤثرات وتقطيع الأغاني وتركيبها فوق بعضها البعض، حتى وصل لتوليف مقطوعات إلكترونية خفيفة من تأليفه واختبارها مباشرةً مع الجمهور. 
حينما أتت الثورة مشى بميكرفون في يده يجمع الأصوات من الميدان، هتافات، أحاديث سياسية، صراخًا، ضحكات، أغاني جماعية، ثم عمل على هذا المزيج ليخرج ألبومه الأول «أصوات الميدان»، موسيقى إلكترونية مركبة من ضوضاء الـ١٨ يومًا في اعتصام ميدان التحرير. 

٢٤

أرسلته مدام فريدة ذات يوم لتوصيل جيتار، وصفت له بار ومطعم «ما بعد الثامنة /» نبهته أن  يسلمه لشخص يدعى «بوب». 
ذهب أحمد في الموعد المحدد إلى العنوان الذي وصفته له، فوجد رجلاً ضخم العضلات يرتدي بدلة سوداء. سأله ماذا يريد فقال معى أمانة لبوب. أشار إلى باب آخر جانبي، ولج أحمد منه، فوجد مطعمًا ببار خشبي ضخم، تراصت طاولات فارغة تحيط بمسرح صغير، وقفت عليه مجموعة من الشباب وسط آلات موسيقى مُختلفة. كانوا يغنون أغنية عن عم مينا وشيخ أمين، وكيف يحب كلا الاثنين الآخر، رغم أن واحدًا اسمه أمين والثاني مينا. صعقت طزاجة الكلمات وطريقة الغناء أذني أحمد.
حينما انتهوا من الأغنية تقدم عازف الطبول منه وسأله إذا كان من طرف مدام فريدة. عرّف الشاب نفسه بأنه بوب، وشكره على توصيل الأمانة، ثم مد يده بورقة نقدية لأحمد، لكنه رفض بشدة، بينما تمسك بوب بمنحه «الحاجة البسيطة». فتمسك أحمد أكثر برفضه، وفي عملية الشد والجذب، سأله أحمد ممكن بدل الفلوس أقعد أسمعكم؟
 ابتسم «بوب» مرحِّبًا ممكن طبعًا تسمع البروفة، بس كمان ساعتين لمّا المكان يفتح، مش هينفع تقعد. فتقدم أحمد نحو أقرب طاولة من المسرح وسحب كرسيًّا وجلس أمامهم.
 الأغنية التالية التي لعبوها حملت إيقاعًا أسرع وراقصًا أكثر، وهذه المرة تتحدث عن فرقتهم التي تحمل اسم وسط البلد، وتغني في وسط البلد حيث الفلاحين، والخواجات، والصنايعية، والخرتجية، والعمة والجينز والجلابية. انفعل أحمد مع الموسيقى ووجد نفسه قرب نهايتها يردد خلف مغني الفريق الأساسي الكلمات، ويهتف معهم حينما يصرخون بلازمة الأغنية «وسط البلد».
في علبة الليل تلك، ومع أغاني فريق وسط البلد، نبتت الأجنحة الملونة في ظهر أحمد. في شرنقتها اقتربت الفراشة من التحول إلى تنين.
 في أغاني وسط البلد انعكاس لحياته الجديدة .. لأبواب العمارات المفتوحة على الماضي الساحر، لأيادي الود والمعروف الممدودة إليه، للفرص الملقاة في ممرات شوارعها، لزحام شارع طلعت حرب في المساء، لسكارى شارع شمبليون، لسأم بائعي الملابس في شارع قصر النيل، النصابين العاطلين عن العمل في المقاهي، والأصدقاء الخونة الذين يسرقون الكحل من العين.
تحول أحمد إلى فراشة، وحلّقت تلك الفراشة في أزقة وممرات وسط البلد، في مبانيها المتصدعة، في شققها العفنة المليئة بالفئران والصراصير. 
طارت الفراشة في كل بقعة وركن من الحي الكوزمبوليتاني. 
تمنى لو يقبل ويلمس كل ركن في وسط البلد، مدينته، ووطنه، أخيرًا أصبح للفراشة حقل، ولأحمد وطن.

٢٥

تناول الزبادي حتى لا يتألم عند التبول، ثم دخل غرفة الاستديو. فكر في العمل، لكن القرف أفسد مزاجه، فشغل نفسه بترتيب الاستديو ولف السلوك وتصنيف المعدات المبعثرة.. بينما هو منهمك في الفوضى، عثر وسط الركام على لوحة مفاتيح الموسيقى الإلكترونية طراز NovationLaunchpad موديل عام ٢٠٠٩. أمسك بالآلة التي تتكون من ٨*٨ زر. تذكر فرحته بها وقتها، كان بإمكانه صنع كل شيء، بدايةً من «اللوب» وحتى المؤثرات الصوتية، إلى جانب إدخال إيقاعات الآلات الموسيقية المختلفة. قلب اللوحة على ظهرها فوجد استيكرز فراشة، وقد خرجت من رأسها أفعى مرسومة، بلون مونيكير أحمر.
كانت هذه أول هدية تلقاها من فرح.
فرح من رسمت رأس الأفعى لتحول الاستيكرز إلى فراشة التنين حيث كان هذا اللوجو والاسم المستعار للشخصية الأولى في بدايته الموسيقية.
اللوحة معطوبة بعدما وقعت عليها كأس نبيذ أحمر، لكنه بحث عن السلوك لتوصيلها بجهاز الكمبيوتر والسماعات ليختبرها، موهمًا نفسه أنها قد تكون أصلحت نفسها.

٢٦

انجذب أحمد إلى موسيقى فريق وسط البلد، مشى خلفهم كالمجذوب، بدأ في المساعدة في حمل الأدوات والآلات الموسيقية، ثم لاحظ شكواهم الدائمة من سوء الصوت في معظم الحفلات، فذهب إلى صديقه القديم نعيم. التقى الاثنان كثعالب تتظاهر بالود، استخدم أحمد سلاح المحن والصعبنة، وطلب من نعيم أن يعلمه كل ما يعرفه عن السماعات والميكروفونات وأجهزة المزج الموسيقي.
اقترح عليهم قبل صعود الفريق إلى المسرح تجهيز الجمهور بلعب موسيقى وأغانٍ تتناسب مع أجواء موسيقى وسط البلد. 
في حفل  في ساقية الصاوي، بحضور يتجاوز ألفي شخص، صعد المسرح، وقف أمام الميكسر، وبدأ في مزج الأغاني والموسيقى. الجمهور الذي لم يكن مهتمًّا وحضر بالأساس لمشاهدة «وسط البلد» والاستماع لهم، بدأ حشده في الحركة مع موسيقى أحمد، انتقل من إيقاع لآخر حتى وصلوا جميعًا إلى القمة، تحول المكان لساحة رقص مشتعلة بالانفعال.
وصارت الفراشة تنينًا. تحققت الولادة الجديدة لأحمد التنين الفراشة. أو كما كررت فرح على مسامعه تلك الحكاية عن ملك يحلم أن يتحول إلى فراشة، وفراشة تحلم أن تتحول إلى ملك.

٢٧

أوصل أحمد لوحة الموسيقى الإلكترونية بالكهرباء، فأضاءت أنوارها.
تفاءل بالضوء، مثلما تفاءل حين دعته فرح لزيارتها. حاول تشغيلها والضغط على أزرارها، لم يخرج أي صوت، فكر في توصيلها بجهاز الكمبيوتر علّه يتمكن من استخدامها إلكترونيًّا من خلال الكمبيوتر، لكن ما إن وصّلها بالجهاز حتى أطلق صفيرًا حادًا. نزع السلك، وسب الدين في سره للآلة ولحياته ولأمناء الشرطة. خرج إلى الصالة، وارتمى على الكنبة، وأعمل يديه في لف الجوينت، علّه يتمكن من النوم ونسيان القلق.

٢٨

في عالم وسط البلد السري والمكمكم قبل الانفجار العظيم في ٢٠١١ كانت هناك مجموعة من الكهنة، يتولون الإشراف وإدارة النشاط الفني والثقافي في هذا الصندوق المغلق. هؤلاء الكهنة مزيج من أصحاب الجاليريهات الفنية، مديري المؤسسات الثقافية، مالكي المقاهي التي اعتادت استضافة الندوات واللقاءات الأدبية، وأخيرًا بالطبع ممثلين عن الأجهزة الأمنية التي تراقب وترصد وتأذن بأي نشاط أو فعالية.
في غفلة من الزمن قرر هؤلاء فتح صندوق وسط البلد، والخروج من علبهم الثقافية إلى الشارع، طبعًا بعد موافقة الأمن.
تكاتفوا لتنظيم حدث فني، على مدى خمسة أيام تحت عنوان «مهرجان سيدي الإسفلت». شمل عرض عشرات التماثيل في مُختلف الميادين، وتركيب أعمال فنية في الزوايا في ساحات وسط البلد، أقيمت ندوات شعرية مفتوحة في المقاهي، نُصبت الحفلات الموسيقية للعامة في ساحة عابدين، وفي جراج جرى تحويله لمسرح.
فرح التي انتقلت مؤخرًا إلى القاهرة سمعت عن المهرجان، وحينما زارت وسط البلد ظلت تسير ورأسها مرفوع لأعلى تلعق بحدقة عينيها المباني، تتوقف عند كل مبنى وتحاول أن تسجل في ذاكرتها رقم المبنى وموقعه وأهم التفاصيل المعمارية التي أحبتها فيه. بسبب حبها للقراءة والأفلام، نشأت فرح في الإسكندرية وهي تحلم بوسط البلد كمسرح لعشرات الأعمال الأدبية والفنية، وموطن لكل النخبة الثقافية والأدبية التي تعشقها، وحين زارت وسط البلد  أثناء فعاليات مهرجان سيدي الإسفلت، اختلط الخيال بالواقع. ظنت أن وسط البلد هكذا دائمًا. لم تشبع من التجوال، ولا من التهام الجمال.
قرأت عن حفلة الجراج في برنامج المهرجان، ذهبت مبكرًا ذلك اليوم ولم تكن تعرف من هي فرقة «صحرا» لموسيقى الراي، ولا من تكون «فرقة وسط البلد». دخلت الجراج/ المسرح فوجدت شخصًا يقف خلف أجهزة صوتية مختلفة وشاشة كمبيوتر، وخلفه تُعرض على شاشة كبيرة صورة فراشة أجنحتها ملونة. الصور ثابتة لكن الألوان في أجنحة الفراشة، تتداخل/ تنحل/ تتصل/ تلتئم/ تتفكك. 
الموسيقى مزيج مضطرب لم تسمع فرح شيئًا مثله من قبل، أنصتت فميزت صوت أم كلثوم كطيف تغطيه إيقاعات مُتداخلة، أساسها الضوضاء اليومية للشارع.
لم يكن «وسط البلد» أو «صحرا» هم مَن فوق المسرح. بل «دي. جيه الفراشة» كما يعرف نفسه. ولم يكن مثل الديجيهات الذين تعرفهم فرح وسمعتهم في الأفراح، يشغل الأغاني الراقصة والشهيرة، بل يخلطها ويفككها، تبدأ الأغنية مثلاً بمقطع لأم كلثوم تغني فيه من أغنية «أنت عمري» وجملتها «اللي شفته قبل ما تشوفك عينيا»، ثم تعلو أصوات نفير السيارات ومعها يتداخل صليل المعدن ووشيش محطات الراديو.. تليها أصوات الطبول المتعاقبة، ولحن راقص ذو إيقاع أقرب إلى موسيقى الريجي، ثم العودة لجملة لحنية من أغنية لنوال الزغبي، كل هذا وصوت أم كلثوم في الخلفية تكرر كلمة واحدة «اللي شفته».
شافته فرح في هذا اليوم وأحبته. 

٢٩

استيقظ أحمد في مُنتصف النوم، شعر بألم شديد في رقبته وكتفه نتيجة نومه معوجًّا على الكنبة. جسمه يؤلمه، كذلك قلبه. وقف على قدميه، نظر حوله فرأى البيت صفيحة زبالة، أحس بنفسه عفنًا. لا يزال بين الحلم واليقظة، نادى على فرح بصوت مسموع:
– يا فرح وحشتيني بقى.
أمسك موبايله واتجه إلى غرفة النوم، ارتمى على السرير وقبل أن ينام حاول الدخول إلى صفحة فرح على الفيسبوك أو تويتر لم يجدها، ولم يعرف هل أغلقت صفحتها أم مسحته من عندها. تمنى لو يبكي لعلّ دموعه تخفف من شوقه، لكنه نام قبل أن يبكي.

٣٠

يمكن أن نضع سببين لدخول التلفزيون الملون مُتأخرًا في حياة عائلة طالب:
أ- أن الحاج طالب والد أحمد محب للراديو ولإذاعة القرآن الكريم، وصوت العرب، وبالتالي لم يهتم مطلقًا بأن يغير بشاشة التلفزيون الأبيض والأسود واحدًا آخر بالألوان في التسعينات.
ب- أن الحالة المادية البسيطة لطالب حالت دون قدرته على أن يغير بالتلفزيون واحدًا ملونًا، ولم يرضخ إلا بعد سنوات من زن زوجته الثانية، أما لو عليه فملعون التلفزيون على الألوان، على العيشة وعلى أهلها.
أضفى التلفزيون الأبيض والأسود إيقاعًا هادئًا وبطيئًا على طفولة أحمد، ما جعله محبًّا للميلودراما، والأغاني الحزينة لعبد الحليم حافظ ونجاة، وهو ما لا أستطيع أن أراه حتى في تلك السن المبكرة إلا تدريبًا على اليتم، أو ربما انعاكسًا لليتم إن أردنا النظر إلى أحمد كملاك /فراشة /تنين كما يعتبر نفسه.
مسألة الملاك تعيدنا إلى صورة أحمد عن نفسه، فواحدة من الأغاني المبكرة التي أحبها بسبب تصويرها، أغنية «يا مرسال الهوى» لنجاة. كلما عُرضت الأغنية يتسمر أحمد أمام الشاشة، ويبدأ في تحريك شفتيه مع نجاة هامسًا بكلمات حسين السيد ومحمد عبد الوهاب، حتى تصل الأغنية لنصفها يصمت تمامًا مُنصتًا لصوت نجاة ومسحورًا من تصوير الأغنية.
في ذلك الجزء من الأغنية يغني الكورال «يا مرسال الهوى روح بلغه مرسالي/ مرسالي شوق ومحبة أكتر من الليالي/ ليالي والله ما كانت تخطر يوم على بالي» بينما تقف نجاة كالوتد. ترتدي فستانًا أبيض طويلاً ينبسط حولها مُشكِّلاً نجمة، وأسفل قدميها وردة تتفتح. نجاة في منتصف الكادر، وحولها أشجار ذات جذوع وفروع فضية.
لا تتمايل نجاة مع الموسيقى، ولا يهتز لها طرف.
يدور حولها طفل يرتدي كلوت فضيًّا ، وأجنحة ملائكية مثبتة في كتفيه، على رأسه تاج صفيح ذهبي. 
يتحرك الطفل نحو شجرة في أقصى الكادر، يلتقط ظرفًا أبيض من فرع الشجرة ثم يعود إلى نجاة ليضعه تحت قدميها. تتناول نجاة الظرف فنفهم أن الطفل يمثل مرسال الحب، في محاكاة لكيوبيد.
يذهب الطفل كيوبيد ذو الكلوت الذهبي  نحو شجرة أخرى، وهذه المرة يقطف قلبًا، ثم يعود إلى نجاة ويضعه تحت قدميها، تنظر نجاة إلى القلب، فتسودّ الشاشة وتتغير ملامحها الهادئة إلى مزيج من الانزعاج والخوف.
لم يفهم أحمد ما الذي يحدث في هذا الكادر إلا حينما دخل التلفزيون الملون منزلهم. يومها كان في الحمام فسمع الأغنية، فضغط على أمعائه حازقًا الشخة ليسرع خارجًا لمشاهدة الأغنية. تسمر أمام الشاشة الملونة، وشاهد كيف أن الملاك حين يضع القلب تحت قدمي نجاة تتحول الإضاءة في الكادر إلى اللون الأحمر، فيتحول لون فستان نجاة من الأبيض إلى الأحمر، ويبدو انزعاجها خوفًا مفهومًا من الهجوم الأحمر.
يتغير الكادر فنرى نجاة جالسة على ركبتيها لتكون في مستوى كيبوبيد الطفل، وتمسك بيديه لتبدأ في الغناء له مبتسمة «حبيبي يا أحلى فكر بيشغلني في أجمل يوم في حياتي»، تضطرب العلاقات مرة أخرى فهذه المرة لا تخاطب نجاة الطفل كمرسال للحب، بل كحبيب يشغلها دائمًا.
– هل تحب نجاة الطفل ذا الكلوت الفضي ؟
– أم تخاطب نجاة الطفل كمرسال وملاك بأجنحة فضية سيحمل رسالتها الشفاهية؟
كلمات حسين السيد تحسم الأمر في المقطع التالي حين تغنيها نجاة «يا أحلى طيف بيحرمني ساعات النوم حبيبي». مؤكد نجاة تحب طيفًا، بل هو أجمل طيف. تؤكد نجاة على إيصال ذلك المعنى لحبيبها كطيف وملاك، كائن نوراني من عالم آخر حين تنحني وتطبع قبلة على جبهة كيوبيد ذي الأجنحة والكلوت الفضي والتاج الذهبي .
يغرق أحمد طالب في بياض بشرة نجاة، وشعرها الأسود الكثيف الذي علقت به نجوم ذات لون سماوي أزرق، فكر في أن أمه لو عاشت بالتأكيد لكانت ستشبه نجاة وستغني له «هي الأحلام حتوريني أجمل من حبك إيه». بل ربما لكانت نجاة هي أمه.

٣١

انفتح عالم وسط البلد لأحمد. بيضة مسلوقة مقشرة.
انطلق يحركه الطموح نحو المجد الفني، وفانتازيا ممارسة الجنس ممارسة صحية كاملة. لاحظ كيف يتمتع المجتمع الجديد ببيئة مُنفتحة تكثر وتتعدد فيها حكايات الدراما الجنسية والعاطفية، اعتقد أن فرصه ستكون ضعيفة مع أي فتاة مصرية نظرًا إلى تحفظهن، وإلى فقره الواضح الذي يحاول التمويه عليه بملابسه البوهيمي، ولهذه الأسباب ذاتها اعتقد أن فرصه مع فتاة أجنبية من هؤلاء اللاتي يظهرن في بارات وحفلات وسط البلد ستكون أفضل.
لكن لم يتمكن من تحويل  الفانتازيا إلى واقع. عانى بسبب حاجز اللغة في التواصل معهن، وحتى حين تمكن من مد حبال الود والتواصل، لم يدرك ما هي الخطوة التالية. يتحدث مع إحداهن، يحصل على رقم هاتفها، يتقابلان مرة ثانية أحيانًا، يضحكان، تحضر الحفلات التي يدعوها لها، يقترب منها حينما يحادثها، ثم يتخشب لا يعرف كيف يحصل على القبلة، وكيف يصل إلى الكس؟ 
ثم ظهرت فرح على الفيسبوك، تضع صورة واحدة، تقف فيها فوق كورنيش إسكندرية ترتدي بنطالاً أسود، يداها في جيبيها، في قدميها بوت جلدي أسود بكعب مدبب وطويل، بلوفر أسود، وجهها مضاء بأشعة الشمس، البحر من خلفها وابتسامتها لا مبالية. أعجبته تقاطيعها، ووجدها أطول مما تخيلها حين قابلها.
في نهاية لقائهما الأول، وقفا في انتظار وصول الأسانسير للخروج من بار فوق سطوح في فندق كارلتون. كان يتحدث في هراء ما محاولاً الاستمرار في إبهارها، أنهى آخر جُملة له ونظر بعيدًا عن عينيها، سريعًا شبت وطبعت قبلة على خده الأيسر. قبلة سريعة خاطفة. أوقفت «زمكانه». وصل الأسانسير ففتح لها الباب، دخلت هي أولاً ثم تبعها. احتاج إلى لحظات بعدما ضغط زر الدور الأرضي لكي ينطق:
– طيب والخد الثاني؟
نظرت إليه بابتسامة بريئة كما ابتسامة نجاة الساهية وقالت:
– أنت طماع قوي.
مال عليها، فالتقت الشفاه في أول قبلة لهما. 

٣٢

في بداية حديثهما على الفيسبوك، أرسلت فرح إليه رسالة قالت إنها مقالة كتبتها بعد حضورها حفلته، لكن نظرًا إلى عدم اهتمامها بالنشر العام فقد رأت أن تشاركها معه. قرأ أحمد المقالة سريعًا دون أن يفهم معظمها أو ربما لم يفهمها كلها. أخذ يبحث عن أي موضع يرد فيه اسمه، لكن المقالة خلت من أي إشارة إلى اسمه أو الحفلة. عَرَضًا كانت هناك إشارة فقط إلى مسألة الفراشة التي تتقمص صورة تنين، أو التنين الذي يحمل أجنحة فراشة.
بعد سنوات على علاقتهما سألها مرة عن هذا المقال، فعبرت فرح عن خجلها منه. قالت إنها في تلك الفترة تعلقت بكتابات «فالتر بنيامين»، وكانت هذه أول مرة تحضر حفلة تشاهد فيها موزعًا موسيقيًّا يستخدم أغاني قديمة ويعيد إنتاجها، وكانت قد انتهت من قراءة دراسة فالتر بنيامين عن «العمل الفني في عصر إعادة إنتاجه تقنيًّا»، فبدا الحفل وما يصنعه تجليًا لما قرأته، لكن على عكس أطروحة فالتر بنيامين التي تنبأت بأن عمليات إعادة إنتاج الفن تقنيًّا تحوله لمنتج أحادي، فاقدًا هالته التاريخية وخصوصيته الزمانية والمكانية، فإن ما شاهدته فرح في تلك الحفلة مجموعة من الطبقات تنهار وتنهض في اللحظة ذاتها، لتشكل أحجيات من الصور الذهنية، والذكريات الجماعية التي يلهو بها ببراعة.
في بداية تعارفهما اقترحت فرح عليه أن يربي شنبه. رفض اقتراحها ساخرًا، فعرضت عليه صورة بالأبيض والأسود لشاب ذي وجه مثلث ونظارات تتدلى على أنفه، وقالت: «انظر، أليس وسيمًا؟!».
جاملها لأنهما كانا في عسل البدايات، اكتفى بالقول إن الشارب قد يليق بفالتر لكن لا يليق به هو. بدهشة قالت فرح، كيف لن يليق بك؟ أنت تشبهه جدًا، أنا أحببتك لأنك تشبه فالتر.
أحمد لم يعلق. كانا في مطعم القزاز، انتهز فرصة غياب النادل ليمد يده ويحتضن كفها، وما إن لمس كفها حتى شعر بانتصاب قضيبه أسفل ملابسه. بعد شهور من المواعدة والقبلات العابرة في الأماكن العامة، أخيرًا سيتجهان بعد تناول العشاء ليبيتا الليلة في منزل صديق لأحمد مسافر ترك المفتاح هدية له.
أحمد الذي أوشك أن يتم ربع قرن على الأرض كان يمني نفسه بالفتح المبين الذي سيغير حياته، أخيرًا سيفقد عذريته. ضغط بيده كفيها أكثر فابتسمت فرح ونسيت مسألة فالتر. وفي تلك الأيام حين كانت فرح تبتسم، يشرق وجهها كاملاً بضياء من البراءة والحماس للعالم والغد. وأحمد رغم رغبته المشتعلة، أمام ابتسامتها يشعر بأبوة حبوبة تجاهها.
في النهاية، الذكورة ما هي إلا أوجه مُتعددة، بل وأحيانًا متناقضة. قد تجتمع صورتان، صورة فالتر بنيامين وأحمد طالب، صورة العاشق المشتعل بنار الرغبة مع صورة الأب الحامي لابنته، كلها صور متعددة للذكورة، وكلها الحمد لله أوجه بنت متناكة.

٣٣

استيقظ أحمد في الصباح على رنين التليفون. نظر في الشاشة ثم ضغط زر إخماد الصوت، كان هذا المنتج الموسيقي طعيمة. وأحمد مل وزهق ولم يعد يعرف كيف يهرب بلطف منه ومن عرضه.
ثم تذكر أنه سيستيقظ ويذهب إلى البنك ويسحب تقريبًا كل ما في حسابه، لكي يذهب لدفع فدية السيارة واستعادتها، فحسم أمره ورد على التليفون. أتاه صوت طعيمة:
– إيه يا فنان أوتار قلبي، أنت قالبنى ليه؟ ينفع كدا المعاملة دي؟ لا طبعًا ماينفعش. مش معاملة فنانين دي. مع إن والله أنا جاي لك في خير ومصلحة، مش عارف انت مزرجن ليه.
تثاءب أحمد، ورد بصوت بطيء:
– صباح الخير يا حاج طعيمة، ماعلهش اعذرني كنت نايم.
– نوم العوافي يا فنان. دلوقتي هنخلص في الموضوع بتاعنا والا إيه؟ الشيخ اليومين دول في مصر، وراجع آخر الأسبوع طالع على «نيوم»، وعايزين الشغل دا لحفلة كبيرة الشهر الجاي هناك، وعايز يقابلك يتفق معاك على كل التفاصيل، ويشرح لك هو اللحن سكته ماشية فين.
اعتدل أحمد في جلسته وسأله:
– طيب ما ترسيني انت هو عايز الشغل لمين، وإيه الكلمات، ومين هيغني؟
– شوف هو سر، بس أنت علشان حبي.. وبيني وبينك هتبقى أغنية قنبلة. الكلمات كلمات قديمة أول مرة تنشر للخال عبد الرحمن الأبنودي، واللي هتغني ست الكل نجاة الصغيرة.
انتفض من فراشه واقفًا على قدميه ورد على طعيمة:
– نجاة، ازاي ومين وفين؟
-والله زي ما باقول لك.. الشيخ برده بيحبها، وقابلها وقدر يقنعها ترجع تغني الأغنية دي. إطلالة من الزمن الذهبي يا فنان!
تلجلجت الكلمات في فم أحمد، اضطربت ضربات قلبه ومشاعره، ثم أخيرًا خرج الاقتراح من شفتيه:
– طيب سؤال يا حاج طعيمة، دلوقتي الواحد مش هتيجي له الفرصة كل يوم يتحط اسمه على أغنية لنجاة، إيه الكلام لو حطينا اسم الشيخ على اللحن، واسمي ينزل جنبه كموزع موسيقي؟
– مش هينفع يا فنان قلت لك قبل كدا، شرط الموضوع كله السرية، أصلاً أنت كلامك هيبقى مع الشيخ بس. حتى نجاة مش هتشوفها.
– مش هشوفها ازاي؟ أومّال هتحفظ اللحن ازاي، ومين اللي هيكون معاها في الاستديو وقت التسجيل؟
– يا فنان ما قلت لك العرض. بعدين أنت قلقان ليه؟ ما كل الزملاء والناس في السوق هتبقى عارفة ان انت اللي عملت اللحن والمزيكا، هو الشيخ دا له فيها؟ أنت فاكر ان انت لوحدك؟ كل زملاتك على فكرة بيعملوا الشغل دا. والدنيا ماشية.
عاوده حرقان الطيز، أحس برغبة في التبول. وعلم أن أمامه يومًا طويلاً سيبدؤه بمعركة من الآلام والدماء في الحمام.
– طيب تمام يا حاج طعيمة، على بركة الله. نقول نتقابل بكرة في الاستديو عندك؟
– وبكرة ليه؟ تعالى لي بالليل وسهرتك عندي.
– ماشي يا حاج من عنيا.
– ماشي يا فنان مستنيك، أنا هاكون في الاستديو من الساعة 8.
– حبيبي يا حاج ماشي.
– في رعاية الله.

٣٤

لا يليق توصيف أحمد واختزاله في صورة الذكر الأعمى الذي لا يبصر إلا صورته في البئر. فأحمد إلى جانب كونه ذكرًا فهو فنان، والفن إحساس. حتى لو كان مرآة أحادية الصورة للمجتمع، أو مركبًا شديد التعقيد ممتدًّا في الماضي والمستقبل معًا كما ظنه فالتر بنيامين. حساسية أحمد الفنية جعلته دائمًا يتردد، حتى بعد فوات أوان التردد.
على سبيل المثال، بعد أول مرة مارسا الجنس ممارسة كاملة، رأى أحمد في عيني فرح نظرة خوف ورفض. اعتادا النوم معًا وممارسة كل أنواع الغرام دون تحفظات ما عدا الممارسة الأكثر شهرة بين الرجل والمرأة، وهي الإيلاج التام للعضو الذكري داخل العضو الأنثوي. كانت هناك أشكال أخرى من الإيلاج، لكن أحمد اشتاق لهذا الإيلاج الذي لم يجربه. 
في فورة الهيجان ودون أن يخبرها دفع آلته، أحس بضيق الممر لكنه تقدم ببطء وثبات. توقف لالتقاط الأنفاس، وانتظر حتى شعر باسترخاء عضلات فرح. فرش شفتيه في رقبتها وهو يحتضنها، وهمست فرح «أحمد.. بالراحة، كفاية كدا.. طلعه». مثل غالبية الرجال ظن -أو أوهم نفسه- أن كلمات الممانعة هي نوع من الدلع لاستنفار الرغبة. سكن في حركته وإن لم يتراجع بآلته، وانتظر حتى استرخت عضلات فرح وخرج الشهيق من صدرها، ثم حرك وسطه، هزة واحدة قوية فولج بآلته إلى عمق جهازها التناسلي الأنثوي.
لم يدم بقاء جهازه داخل مهبلها أكثر من عشر ثوانٍ، ثم سحبه خوفًا من القذف داخلها إذ لم يكن يرتدي واقيًا ذكريًّا. ما إن سحب جهازه خارج جهازها التناسلي، حتى دفعته فرح برفق، ثم تكورت على نفسها صامتة. نظر أحمد لعضوه الذكري واندهش من نقطة الدم على حشفة قضيبه.
تصرف أحمد بحساسية الفنان يومها، احتضنها في مزيج بين الإحساس بالندم والتعاطف. شعر باضطرابها فدندن لها هامسًا لحن أغنية «كان فيه فراشة صغيرة» لنيللي، لكن بدلاً من تهدئتها أثارت الأغنية انزعاجها. تحكي الأغنية – وهى أغنية للأطفال أساسًا – عن نيللي المغنية التي شاهدت فراشة صغيرة ملونة أثناء تجوالها في الحديقة، طلبت من الفراشة أن تلعب معها، لكن الفراشة رفضت وطارت هاربة، فطاردتها المغنية للإمساك بها، وفي تلك المطاردة، دمرت الغصون وأوراق الشجر. أوشكت فرح أن تبكي بسبب دندنة أحمد للحن، لكنها لم تسمح لدمعة واحدة بالنزول، وبحدة طلبت منه السكوت.
لم يتحدثا قط عما حصل. فرح أقنعت نفسها بأن ما حدث كان قرارها وإرادتها. 
أما أحمد فعاش فترة من الصراعات النفسية، بين ذكورته كفلاح وابن فلاح من الشرقية، وشخصياته الفنية المتعددة التي كانت في طور التشكل. 
لم يعترف أحمد لفرح بأن ما حدث بينهما كان مرته الأولى أيضًا، فهو الصايع اللي جابها من تحت، والكل يعرف مغامرته التي لا يكف عن سردها.
بانتهاء عذريته الجنسية انطلقت كل قدراته المكبوتة. تغيرت شخصيته فنيًّا وإنسانيًّا، كأنما حلت العقدة من لسانه ومن بتاعه أيضًا. ظل قلبه معلقًا بفرح، لكنه وقد أدرك كيف يكون الجنس اندفع في فضول بحثًا عن تجارب أخرى، فانتهى الأمر بممارسته الجنس مع فتاة فرنسية تعرف إليها في إحدى الحفلات المنزلية بوسط البلد، نام معها مرة واحدة ثم سافرت بعدها بيومين. بسبب هذه الفتاة تعرف بتيريزا، هذه نام معها أكثر من مرة، وبدأت علاقته بها تتطور بنحو سريع، ومعها اكتشف أحمد فضاء أرحب من الجنس، بل يمكن القول إنه تعلم الجنس من تيريزا. 
ظل في هذه العلاقة القصيرة دون أن تعرف تيريزا بأمر فرح أو تعرف فرح بأمر تريزا، حتى اعتذر عن موعده مع تيريزا ذات مرة بحجة سفره خارج القاهرة، لكنها في اليوم ذاته صادفته جالسًا في بار في وسط البلد، مع فرح وشلة من أصحابهما، فواجهته تيريزا بكذبه على مرأى منهم، وصنعت مشهدًا دراميًّا كبيرًا. انتهت الليلة بأن ظل سهران سكران لوحده فوق كوبري قصر النيل، وهو يحاول الاتصال بفرح لكنها لا ترد عليه.
لم يحاول أحمد الاتصال بتريزا. «هذه امرأة مجنونة» قال لصديقه، وفي داخله فَرِح بالتخلص من أمر تيريزا. أما فرح، فظل الحب داخله يركل معدته ويجبره على محاولة الاتصال بها. 
لم ترد فرح على اتصالاته لمدة يومين، ثم ردت وهي منهارة من البكاء. قالت إنها متألمة، وإن ثقتها به اهتزت، وإن ما جرحها ليس الخيانة أو ممارسته الجنس معها، بل كذبه عليها. وصف تيريزا بالمجنونة، وأنها من طاردته وأغوته. قالت فرح إن كل هذا لا يهم، هي فقط لا تثق به ولا تعرف ماذا تفعل. بكت أكثر في نهاية المكالمة وهي تردد «أنا لسة باحبك.. رغم كل الوجع دا باحبك».
راهن أحمد نفسه على عودة فرح، لا بسبب الحب، بل لأنه رآها في موقف ضعف واحتياج، فبحسبته ومنطقه هو من افتض فرح، وبالتالي فرح تحبه وتحتاج إليه، وإلا ماذا ستفعل وسط الغابة المصرية ببكارة مفضوضة؟
 في الوقت ذاته تضاعف إحساس أحمد بالذنب باستمرار هجر فرح له، شعر في الأيام التي ابتعدت فيها وطلبت ألا يلتقيا بانهيار عالمه، لم يتوقف عن مطاردتها والاعتذار والسهوكة والدهلكة، حتى استعادها، ولم يستمر انفصالهما أكثر من أسبوعين.
بعد مرور شهرين على عودتهما، كان يستلقيان عاريين وكلاهما في حضن الآخر، حين نهض أحمد من السرير، وتناول علبة قطيفة من المكتب وفتحها، فيها دبلتان من الفضة. قال لفرح: «تتجوزيني؟»
 ثاني يوم قامت الثورة.

٣٥

أنهى مكالمته مع الحاج طعيمة، نظر للهاتف فوجد «ميسد كول» من رقم خدمة السيارات المسروقة. ذهب إلى الحمام، تعذب محاولاً التبول حتى أخرج قلوطًا واحدًا ثم اشتعلت النيران في صُرْمه. ملأ البانيو بالمياه الدافئة وجلس فيها، ثم قام واستحم.
أثناء خروجه من المنزل، هاتف أحمد رقم التليفون الذي اتصل به. جاوبته فتاة بصوت مختلف، وقالت إنها تتصل بخصوص سيارة كيا سوداء. سألته إن كان المال معه، فقال  سيكون جاهزًا بعد ساعة بالكثير. طلبت منه الفتاة أن يتصل بها حينما يصبح لديه المال لتعطيه التعليمات.

٣٦

خرج أحمد من البنك مرتديًا حقيبة ظهره على صدره، وداخلها كيس أسود به المبلغ المطلوب. هاتَف رقم خدمات السيارات المسروقة، فرد عليه صوت أنثوي ثالث، وهذا المرة بدت امرأة ذات لهجة فلاحى. لم تعرف سبب اتصاله ولم تفهم ماذا يريد في البداية، أخذ يعيد ويزيد حكايته ويذكر أسماء مثل الأمين صبري صبرك، الدقي، حتى تذكرت وسألته «إنت الراجل بتاع الدقي، أبو عربية سودا؟» فقال «أيوة أنا». أعطته التعليمات بالتوجه لميدان سليمان جوهر، حيث سيجد كوم زبالة هناك، وكل ما عليه أن يرمي الفلوس في كيس أسود بجوار كوم الزبالة، وبعدها سنتصل لإخبارك بمكان السيارة

٣٧

استنفر أحمد كل طاقته في تحديه ضد عائلة فرح. في البداية توسع في الأعمال التي تزيد من دخله، وبعدما كان يلعب الموسيقى في أماكن ثقافية وفنية، أو نوادٍ ليلية راقية، أصبح يقبل عروضًا للعب المزيكا في الأفراح والحفلات العائلية.
وصل به الأمر أن وجد نفسه في فرح في الشارع في حي عين شمس. يومها لم يجد أي تجاوب من الجمهور مع أي موسيقى يشغلها، جرب حكيم، شعبان عبد الرحيم، حتى أغنية عماد بعرور الأكثر شعبية وقتها «العنب» لم تؤثر فيهم. أحد الشباب تقدم وطلب منه حاجة لدكتور حاحا، لم يعرف من هو حاحا. فهز كتفيه متأسفًا وقال للشاب «مش عندي». بعد دقائق أتى الشاب بفلاشة وطلب تشغيل مهرجان «خلاص يا دنيا انسي حناني» لدكتور عمرو حاحا.
شغله أحمد فكان لقاؤه الأول بموسيقى المهرجانات. 

٣٨

حدث اللقاء الثاني بموسيقى المهرجانات يوم تنحي مبارك. كان مع فرح يحتفلان بنجاح الثورة، وفي غمرة الزحام والضوضاء وجد فرح ترقص وسط دائرة من الجمهور، أمام شاب آخر على أغنية من أغاني المهرجانات.
دهش أحمد مما رآه، وجه آخر من وجوه فرح لم يتوقعه، تشوح بيديها كأنها ممسكة بمطواة، تخوض معركة عنيفة مع شاب آخر وقف محاولاً مجاراتها. في البداية تكاملت حركات الاثنين، تميل فرح باتجاهه، تحرك ذراعها مفرودة لتشكل نصف قوس كأنها ممسكة بمنجل تحصد به الرؤوس، ينحني الشاب ليتفادى ضربتها. في العادة يُرقص المهرجان بالأسلحة البيضاء المتنوعة من المطاوي القصيرة وحتى السيوف المصنعة محليًّا، رقصة المهرجان هي مزيج من أداءات الجسد في الفراش وعراك الشارع، في غياب الأسلحة تبدو الأيدي والأذرع كأنها أسلحة متخيَّلة.
سرعت فرح من حركاتها، وبدلاً من قتالها الراقص المتخيل مع الشاب الذي لم يستطع مجاراتها، ترقص الآن مع نفسها كمن يعارك شبحًا، عركة يتحرر فيها الجسد، وتترك فيها فرح المجال لطاقتها السحرية تنطلق في يوم انتصار الثورة المتخيَّل.

٣٩

تعطلت مفاوضات فرح مع عائلتها بسبب الثورة. أو كما وصفتها أمها بالنكسة.
والد فرح الرجل العسكري، طالب فرح بالعودة فورًا إلى المنزل في الإسكندرية مع اشتعال الأحداث. لكن فرح بصوت جاف ردت عليه «آسفة يا بابا». تبرأ منها في التليفون، لكن ثاني يوم حين شاهد الجمال تقتحم ميدان التحرير سافر بنفسه إلى القاهرة. دخل الميدان وأصيب بالاشمئزاز والقرف مما رآه. قابل فرح واطمأن أنها بخير، قالت إنها بعيدة عن الأحداث وتعمل في المستشفى الميداني لأن هذا واجبها المهني، لم يهتم إلا بسؤالها كيف تذهب إلى منزلها؟ فقالت إنها تبيت عند صديقة تسكن في وسط البلد. وفي أثناء تمشيهما في وسط الميدان أمسكت والدها من يده، وقالت وهي تقدمه إلى شاب طويل اللحية يرتدي معطفًا أجرب «بابا دا أحمد اللي حكيت لك عنه».
أحرج إسماعيل بيه من الموقف، وأحس بالخجل وكسرة النفس لأن ابنته فرضت عليه شروطها. صافح أحمد بقرف ولم يرد على أسئلته أو الحوار معه. انصرف من المكان وعاد إلى الإسكندرية، وقال لزوجته «عليه العوض ومنه العوض، البنت ضاعت يا رب نلاقي أي حد يتجوزها انشالله الصايع اللي عايزه تتجوزه». ولولت الأم وأخذت تحسبن وتحوقل وهي تقول «يعني خلاص هنرمي البنت يا إسماعيل، دا بدل ما تقول نشوف لها جوازة محترمة تسترنا» سكت إسماعيل محصورًا، لم يعرف كيف يقولها لزوجته، التي صرخت فيه وعاتبته لأنه أتى من القاهرة من دون البنت.
ركب الذل ابن المؤسسة العسكرية، فابنته رفضت الانصياع له، ولم يكن بإمكانه سحبها أو جرها من شعرها من ميدان التحرير كما طالبته الأم، لأن رفاقها بإمكانهم دفنه في قلب الميدان. هؤلاء ليسوا خونة، بل مثلما وصف لصديق له شياطين تحت تأثير المخدرات، لا يفكرون إلا  في الجنس الجماعي والمخدرات تحت دعوى الحرية، وهؤلاء الشياطين ركبوا البلد خلاص. يعذبون ويقتلون ضباط الشرطة، بل شاهد بنفسه كيف يتطاولون على رجال جيش الواقفين على أبواب الميدان. بالتالي فالحل الأسلم أن يزوجها بأسرع ما يمكن حتى يتخلص من عبئها ومن أي فضائح مستقبلية، فإن خسر ابنته على الأقل ليتخلص منها بطريقة شرعية ويتحمل مسؤوليتها رجل آخر. 
هوّنت عليه خسارته متابعة تدهور حال زملائه ورؤسائه، يخسرون كل شيء من مناصبهم القيادية في الجيش والشرطة والدولة، وحتى نفوذهم وعلاقاتهم. فقال «قضا أخف من قضا».
 هاتف بنته بعد تنحي مبارك. قال لها من تحت ضرسه «مبروك يا حبيبتي يا رب تكونوا مبسوطين، روحوا بقى إنتي وزمايلك». وقتها أحست فرح بحب لا نهائي تجاه والدها. عرفت بداخلها دائمًا أنها دلعوته، لكنها الآن سعيدة باكتساب احترامه. فهو يحبها لا كدمية يملكها بل كابنته التي اكتشف صواب أفكارها، ولم تصدق حين أخبرها أنه مستعد لأن «يقابل اللي بتقول عليه أحمد، وعايز يفرح بيها ويجوزهم».

٤٠

مشى أحمد بجوار كومة الزبالة التي تزين منتصف ميدان سليمان جوهر، ورمى كيس الفلوس الأسود. ذهب إلى قهوة مطلة على الميدان، جلس في الخارج مراقبًا المشهد. لم تمر دقيقتان حتى وجد موتوسيكل عليه شابان يقترب من هرم الزبالة، ودون أن يتوقف الموتوسيكل مال الشاب الذي يجلس في الخلف والتقط كيس أحمد الأسود، ثم انصرفا وغابا في الشوارع الجانبية. لم يتحرك أحمد من مكانه، تظاهر بالثبات الانفعالي حتى لا يلفت الأنظار، طلب شايًا وجلس في انتظار المُكالمة.
لم يتأخر الهاتف عن الرنين. رقم مختلف. قال «ألو». أتاه صوت ذكوري:
– أول ما تقوم من القهوة وتخرج تمشي في الشارع اللي يطلعّك على شارع التحرير، مئة متر وستجد عربيتك.
نهض أحمد، حاسب على الشاي دون أن يشربه. وسار كما أخبره الهاتف، من بعيد لاحت له سيارة «كيا سوداء»، سارع في خطواته مهرولاً حتى وصل إلى السيارة. هدّأ من خطواته حين اقترب، كان جلد المقاعد من الداخل بلون أحمر مختلف عن لون مقاعد سيارته. تيقن أنها ليست سيارته. نظر حوله فلم يجد أي سيارة كيا سوداء أخرى، بل لم يجد أي سيارة سوداء. حاول إيلاج المفتاح في باب السيارة لكنها لم تفتح، أَحُّوه. خبط على سقف السيارة. رأى حارس عقار في الشارع ينظر إليه بريبة، فابتعد عن السيارة. 

٤١

هاتَفَ آخر رقم اتصل به، رن الجرس أكثر من مرة بلا أي رد. اتصل برقم خدمة السيارات المسروقة. رد عليه صوت المرأة الفلاحي بلهجتها الثقيلة ذات الأحرف الممطوطة في نهاية الكلمات. قال إن كله تمام، لكن فيه غلط، هذه ليست سيارته. ردت عليه المرأة بزهق: 
– أنت عايز إيه دلوقتي؟ مش عربيتك كيا سوداء؟ 
– آه.
– والعربية اللي قصادك مش كيا سوداء؟ 
– آه. 
– خلاص خدها.
 أعاد حديثه من البداية، إنها ليست سيارته، وإنها .. وإنه. فأغلقت المرأة الخط. حاول الاتصال مرة أخرى فلم ترد، اتصل بالرقم الثاني، لم يرد عليه أحد. لا يعرف ماذا يفعل، وقف حائرًا، ثم شعر ببلل على قفاه، وضع يده ليتحسس قفاه، ملمس لزج في أصابعه، سحب يده ونظر لأصابعه فشاهد سائل أبيض لزج، قربه لأنفه وشمه، ثم رفع رأسه إلى أعلى، شجرة كثيفة الأغصان، وعصفور يشخ فوقه فتسقط الشخة في قفاه.

هذا النص هو الفصل التاسع من رواية «والنمور لحجرتي» الصادرة مؤخرًا عن دار المحروسة


صورة الشريط © حيدر ديوه چي