هوامش للّعب (٧): ملاحظات في الليل

١

المرء في حاجة دائمة إلى عزلة مكتشفة حديثًا. يجب أن تكون هذه العزلة قادرة على أن تبتلع – في لا صخب  – كل عزلة قديمة كانت هنا كما يبتلع مطر الشتاء كل أمطار الشتاءات التي سبقته. لا تعني هذه القدرة أن حدوث هذا شئ محتم. لا تقبل هذه العزلة، بأي حال من الأحوال، أن تسير في جنازة الأمل. غير مفروضة من قِبَل سيمفونية ضخمة من انتصار عظيم أو تراجيديا مدمرة، يمكن الشعور بدقاتها على أبوابنا في المقاهي عبر مذياع أو كتاب قديم.
يمكن للمرء أن يجد آثارًا للبهجة الداعية للاحتفال والتي تكون مصاحبة لهذه العزلة في اصرار الأطفال على اكمال حكاياتهم غير المترابطة أو في كيف أن السائر في نومه يطفو أمامنا وكأن العالم مفتوح للعب.
يمكنك أن تدعو من تشاء إلى هذه العزلة.
المرء في حاجة دائمة إلى عزلة مكتشفة حديثًا، مهما كانت رائعة في المرآة هذه العزلة التي يرتديها الآن.

٢

لأنهم اكتشفوا استخدامات أكثر قيمة للأحزمة الجلدية، استعمل آباؤنا أياديهم العارية في تأديبنا، تلك الأيادي التي صفعت ولكمت وأزاحت أجسادنا الضئيلة إلى الرمادي جوار السرير كتب عليها أن تظل ملطخة هناك للأبد، ظاهرة على مائدة الطعام تطلب في لا خجل أن تقرِّب منها شوربة لسان العصفور وكأن شيئًا لم يحدث.
أمهاتنا، في المقابل، لجأن إلى حيلة بسيطة، جماد في المنتصف بين نوعين من الجلد الساخن، أداة صغيرة لإنجاز المهمة، سرعان ما تختفي في جوف المساء، عصا من خشب تلقى إلى النهر الذي يجرى ولا يعود بإمكانك أن تشير إليها.
في فيلم ذا نايتنجايل لجينِفر كينت، واحدة من أكثر المشتغلين بالسينما اليوم إثارة للاهتمام، يمكن بوضوح رؤية كيف أنه في العنف تتمدد النساء على ربوة من الذعر الممزوج بقدر من التسليم وقلة الحيلة، يراقبن السُحب الثقيلة ويصلين لأجل ليلة بلا مطر، في حين يبقى الرجال في الخارج، يرقصون حول النيران التي تلتهم تضحية بعد تضحية لأجل لا شئ غير المتعة الخالصة و أمواج من التسلية، أجل، الجريمة تطال الطرفين، لكن وحدها الأرواح التي لم تصافح رب العنف يدًا بيد يحق لها طلب الغفران.

٣

أبي يخبرني دائمًا أني أفتقد حس الدعابة اللانهائية.
يقال أنه عندما تضل دعابة طريق أحدهم في المدينة فإن البيت المهجور الذي يقع وحيدًا على طرفها يغطس قليلًا في التراب. كنا في نهاية سبتمبر وكانت دعابة صغيرة ضلّت طريقها في وسط البلد إلى قسم شرطة الأزبكية، مُحتجزة لمدة أربعة ساعات أمام وجوه عابسة لا تفهم كيف تحوَّل ما كان ينتظرنا من الليل الرائع إلى كابوس لا يمكن الإفاقة منه.
كان المُخبر الذي التقطني أنا وصديق بمجرد أن خرجنا من المترو  قد وجد رسالة على هاتفي المحمول، أرسلتها إلى صديق آخر في نهاية محادثة عن السينما والشوارع، كانحناءة قبل الاختفاء من على خشبة المسرح.
الرسالة كانت مقولة بظ يطير الشهيرة: إلى اللانهائية وما بعدها.
المؤلم في الأمر لم يكن المعاملة السيئة أو الموت الحزين لروح الدعابة، المؤلم في الأمر، يا شباب المستقبل، هو أنه لم يوجد في المبنى بالكامل أحد غيرنا يعرف من هو بظ يطير.
عندما خرجنا إلى الضوء الشحيح لأعمدة الإنارة فكرتُ أن أكتب مرثية إلى هيغل ثم حدث وتذكرت ذلك البيت المهجور على طرف المدينة ولأني أعرف جيدًا أن البيت لا يظهر منه الآن ولو سنتيمترًا واحدًا فوق سطح الأرض، كومتُ طاقتي في معدتي وبكثير من المجهود، غطستُ حتى رأسي في الأسفلت.

٤

ناشونال جيوجرافيك:
وقت هجرته يتجاهل طائر الخرنشة القطبي رائحة أسماك الرنجة الشهية القادمة تتراقص من خليج مونتيري ذلك لأنه وفي طريق هجرته من تييرا ديل فويجو إلى ألاسكا وكسائر المُهاجرين، لا يستجيب إلى المُدخلات الحسية من نفس المصادر التي قد يستجيب لها في ظروف أخرى على العكس مثلًا من طيور النورس المحلية التي تغطس لتقتنص هذا الصيد السهل بنهم. إن طائر الخرنشة القطبي لديه العزيمة ألا يحيد عن المسار، هو بتعبير بسيط يُقاوم التشتت بحسه الغريزي لأن لديه هدفًا أسمى.
عاشق يعتقد في البراءة الكاملة لشريكه يشبه بشكل ما أسماك الرنجة المسكينة وهي تعتقد في براءة طائر الخرنشة القطبي الذي يرفض أكلها. ما لا يمكن تجاهله، عزيزى القارئ، أن أحمقًا مثل صاحبنا، يسبح على ظهره بسعادة في مياه خليج مونتيري، هو شخص مساق لا محالة إلى التخوزق القاسي والبطئ في مياه أخرى.

٥

أبي يخبرني دائمًا أني أخطئ في استخدام اللغة.
لقد سلكت كل الطرق الممكنة كي لا أنتهي في صورة أبي، كل هذه الحركة لم تعد الآن تعنى شيئًا، كل هذه الحركة لم تسبب إلا هلاكًا ومزيدًا من العزلة وربما لو كنت هجرت قلقي ووقفت ساكنًا أتأمل زهور عباد الشمس في الحديقة الخلفية وأسكب تغيّر الفصول في دفتر ملاحظات لأنتهيت في مكان آخر.
اليوم سألت أمي من أخذ لي هذه الصورة الفوتوغرافية فقالت يا حبيبي من بالصورة ليس أنت إنه أبوك. 
ربّاه، لقد انتهيت حرفيًا في صورة لأبي والآن لديّ خبر جيد وخبر سئ: الخبر السئ هو أن محاولات الهرب جميعها مُنيَت بالفشل، الخبر الجيد هو أنني – وهذا يحدث قليلًا – استخدمت كلمة حرفيًا بشكل صحيح.

٦

لا تكمن الإجابة في أنهم كانوا يؤمنون بالعدالة الشعرية؛ لقد وضع آباؤنا الشطّة في أفواهنا مباشرة بعد تلفظنا لأي كلمة محرمة تخليدًا لتقليد عريق ورثوه عن أبائهم، أولئك الذين كانوا قد ورثوه بدورهم عن آبائهم إلى نهاية السلسلة حيث يوجد من وحّد الله وآمن أن خطأ اللسان لا يكفر عنه غير اللسان. 
من البداية، كانت فرصة نجاح المساعي الحمراء للآباء ضئيلة ولا يمكن ربط ذلك بالثورة على الآباء والتمرد على التقاليد أو ببذرة بذيئة قليلة الأدب خالص في داخلنا، في الحقيقة، لا يتعلق الأمر بكتب فرويد أو حُجرات التحليل النفسي بقدر ما يتعلق بكتب الشيف شربيني وحجرة في المنزل تسمّى المطبخ، ببساطة كل ما نفعله هو أننا نحكِّم ذائقتنا على الكلام البارد فنضع قليلًا من الحرارة الحريفة هنا وهناك.

٧

إنه الصيف،
أغلق بابي في وجه صواب معتاد
وأقدّم القهوة لأخطاء شديد الأصالة
حتى في غياب الموسيقى،
يعبث الهواء بالستائر كأنه يدعونا إلى الرقص.

٨

كان خورخي لويس بورخيس لا يهتم بالموسيقى برغم أنه قال أن الشعر يصله في شكل موسيقى ومن ثم يدفس فيها الكلمات.
أعتقد أن المشي هو هوايتى المفضلة، واختزالًا، المشى هو فَقط وضع قدم أمام قدم وحتى لا أكون ضائعًا أمام الآلاف من الطرق التي يمكن خلقها من وضع القدم أمام القَدم كان عليَّ أن ألجأ لشئ ما. لا يهم طول الطريق أو قصره، الموسيقى دائمًا هُناك لتحدد طريقة المشي.

٩

أبي يخبرني دائمًا أني غير مفهوم.
لا يسع المرء غير الشعور بالكرب إذا انتهى إلى صورة شباب الأب. بإمكاننا مسامحة أنفسنا إن أكلنا التفاح مثلهم، إن قبَّلنا في الظلام مثلهم، إن نمنا بسلام على الجانب نفسه وإن أشعلنا الشموع من الخزانة نفسها لنمنع عنّا الليل، لكن أن تشبه صورة الفرد في شبابه صورة الأب في شبابه فهذا شئ مريع، ليس لأن الأمر يتعلق بمعرفة المكان الذي انتهت إليه محاولات الهرب، يجب أن نتذكر أن صلاح الدين من فيلم الناظر انتهى، كشخصية في تراجيديا يونانية، إلى ما هو مُقدَّر إليه منذ البداية، لكن هل كان هذا مُزعجًا؟ بالطبع لا. يُلقى ما كتبه عجوز رائع الضوء على ما قد يكون مزعجًا حقًا: إن أول أعراض الشيخوخة هو بدء المرء بالتشابه مع أبيه.
آباءنا، لم يكن الأمر قط متعلقًا بكم.

هذا النصّ هو السابع والأخير من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم

صورة الشريط © حيدر ديوه چي