بعد انتهاءها من الجري تذهب إلى دورة المياه لقضاء حاجتها، تراقب لون بولها، تشعر بالرضا من شفافيته فمواظبتها على شرب الماء أتت بنتيجة. ينسلُ ضوء خافت آتٍ من أبجورة استعاضت بها بعد أن انحرقت لمبة الحمام، وتكاسل شريكها عن الإتيان بجديدة وتركيبها. تأقلمت عيناها على رؤية الأشياء بهذه الشدة من الضوء. ففي النهار يكفي نور الشمس الداخل من النافذة لينير كل الحمّام. تفكر بأهمية وجود نافذة في الحمّام وبأنها يجب ألا تنس هذه النقطة أثناء بحثهم عن شقة جديدة. ترى خيطًا يسبح في المرحاض منغصًا صفاء خليط الماء والبول، تحضّر كشاف جوالها وتوجهه مباشرة إلى الخيط. اه، إنها الدورة الشهرية. تحس براحة من عَرَفَ سبب منغصات الأيام الماضية. تذهب مسرعة لتناول وجبة العشاء وحدها هذه المرة، تفتح الثلاجة باحثة عن مُسكن الآلام لتأخذه مبكرًا قبل هجومها عليها، تستلقي على السرير، تفكر لو أنه هنا الليلة لوضع يده على بطنها فتصير الانقباضات أقل وطأة. تتذكر مرتها الأولى وهما في السينما يشاهدان فيلمًا لم تعد تذكر منه شيئًا واللحظة التي أحسّت فيها بانقباضات مؤلمة؛ أمسكت يده وضغطت عليها بشدة وصمت مضطرة له. غادرت الفيلم مسرعة إلى منزلهما، لحقها، قالت له أنها غير قادرة على مواصلة المشي بهذا الكعب العالي وأن سطح قدميها لا يقل إيلامًا عن الانقباضات. خلع حذائه الرياضي لتلبسه، كان كبيرًا عليها وكانت تجرّه ممسكة بجزءه الأمامي لتحافظ على وجوده. مشى هو بجوارها حاملًا كعبها العالي، تُغطّي قدميه جوارب ذات لون محايد.
تُلقي بالمخدة جانبًا ليستقيم جسدها الذي أصبحت آلامه أكثر ضراوة. تتساءل مستاءة: متى يبدأ مفعول المُسكن. تحاول استدعاء كل أمراض العالم ومدى شدّتها، تتذكر ابنة خالتها التي في كل موعد دورة جديد تسقط أرضًا ويُذهب بها إلى المستوصف المجاور لتعطى إبرة مهدئة، تتذكر خالتها وهي تقول مختالة: لكنها عندما تزوجت خفت آلامها.
كم كانت تتوق لتلك اللحظة، والتي لم تفهم حينها علاقتها بالزواج. لكن لم يتغير شيء، مازالت الآلام هي نفسها منذ أن بلغت الثالثة عشر من عمرها.
حكت له مرة عن اللحظة التي لاحظت فيها تغيّر في حجم صدرها، ظنّت أنه عائد لشدّها ولعبها بحلماته، وكيف أنها كانت تختبئ في الحمّام لوقت طويل ضاغطةً على صدرها للداخل علّه يعود لحجمه الذي اعتادته. كانت عاتبة وفزعة من هذا التحول الجسدي؛ والذي كان سببًا في تغيّر تعامل الآخرين من حولها.
تسلّيها الآن ذكرى مثل هذه.
تفكر بالاتصال به، ثم تتراجع عند آخر لحظة.
لا تذكر متى نامت البارحة، كانت تستيقظ مرات عدة طوال الليل، من شدّة الحر أو من شدّة البرد، يتقلّب جسمها بين النقيضين بسرعة تحاول أن تدركها. تبتسم: من حسن حظه أنه ليس هنا.
عند استيقاظها في اليوم التالي وأثناء مغادرتها السرير رأت بقعة دم أخذت محلها على مفرش السرير بيجي اللون. يتكرر المشهد كل شهر. لم يعد باعث قلق بالنسبة لها؛ تركت المفرش دون مبالاة. قررت أن تأخذ دُشاً ساخنًا ثم ترى ماذا ستفعل به لاحقًا. بعد خروجها من الحمّام طلّت بانتباه مكتسب في بقعة الدم لتقييمها؛ قررت أنه لا مفر من غسل المفرش كاملًا فالبقعة اتخذت لونًا داكنًا ولا يمكن إزالتها بسهولة. الحسنة الوحيدة في هذا هو معرفتها بأنها لابد قد نامت وقتًا طويلًا لتستقر بقعة الدم بهذا العناد.
تبدو الدورة وكأنها شيء أبدي لا ينتهي، فما عادت تذكر حياتها قبلها ولا قدرة لها على تصوّر كيف ستكون عندما تبلغ سن اليأس، اليأس من محاولة الإنجاب.
لا يعني لها الوقت شيئًا الآن فكل ما تحتاج لمعرفته هو أن اليوم هو يوم إجازة وأن بإمكانها الاستلقاء طوال اليوم ملفوفة ببطانية ثقيلة تحمي جسدها من البرد وتشاهد ما فاتها من مسلسلها المصري دون الحاجة إلى تركيز شديد. تتذكر محاولتها لتشجيعه على مشاهدته معها، لكنه ظلّ يقول أنه يفضل أن تروي له قصته على مشاهدته. كان يميلُ إلى مشاهدة أفلام ومسلسلات ذات (أفكار كبيرة وعميقة) وكانت تسخر منها كلما تسنَّ لها ذلك. يُشدد في حديثه اليومي على أهمية أن يكون المرء متصلًا بهمومه الحياتية وألاّ يستغرق في مشاهدة إنتاج هزيل. تعارضه مذكرة إياه بضرورة الهزل، وإن كان جادًا حيال ما يقوله فليتابع الأخبار.
وعت منذ وقت ليس بالقصير بأن عليها أن تحمي مخاوفها، من أن تكبر، من أتصير شيئًا ملموسًا أو مرئيًا. وهذا ما عرفته فيه وما جذبها إليه، فعلى عكسها، كان هو يواجه ما يخيفه محاولًا التحرر منه.
سيلٌ من الخدر يسري داخلها، في حياتها، في هذه اللحظة تحديدًا لا تفكر في شيء وكأنها في هدنة مع كل ما هو في الداخل والخارج. يصير العالم مرجًا أخضر فسيحًا يغمرها. ترتاح دون شعور بفوات الحياة أو اضطرارها في العمل إلى التحكم في قسمات وجهها أمام زملاءها كلما شعرت بتقلصات رحمها المفاجئة.
تقلص مباغت، تتبخر اللحظة، يذكرها بألمها المتكرر اللحظي والذي يبدو أنها لن تعتاد عليه أبدًا.
صورة الشريط © حيدر ديوه چي