هوامش للّعب (٦): فضاءات محمومة ومُلطّخة

١

ليست الورديات الليلية لنوبات الفزع ولا الألم المرقّع الذي أخفي عنّا أحذية المشي في المغيب، ليست قهقهات القلق حيثُ اشترطت أيّ ولادة جديدة نفيًا دراماتيكيًا لكل الولادات السابقة وليست الساعات التي كنّا فيها نفشل في تهجّي وجوهنا من السُكر، حينها كانت كل نافذة بابًا مفتوحًا إلى المطبخ وكانت كل ركبة عارية مرمدة تتكوم فيها أعقاب السجائر. لقد خسرنا في طريقكِ ما لا حصر له ولا يخصّنا من المجازات، تلك التي، في غفلة من القرّاء الجادّين وأمناء المكتبات، حشرناها في جيوب قمصاننا الأمامية ولم نكن نعرف أننا لو عطسنا أو تعثرنا في حجر فستقع كلها على الأرض، لقد سكبنا على رأسكِ كل ما في حصّالتنا من الصور الملونة تاركين ضآلة جسد فارغ لمساء غرفة باردة، بجيوب فارغة تمامًا، وكصغير يتعلّم للمرة الأولى كيف يُشير إلى الأشياء تقبّلنا الكدمات التي سببتها لنا الحركة في مواجهة الجدران. إنها الأصالة الناتجة من تتبع اللسان لتحوّل الأحمر إلى أزرق، لانقلاب الأزرق إلى أخضر شاحب وللانتقال الهادئ للبني إلى لون الجلد، من أجل تلك الأصالة وحدها نتخذ الآن موقف الرفض القاطع، جدًا جدًا، تجاه أي محاولة للعودة.

٢

كبائع متجول في آخر النهار نبسِط ما بجيوبنا من حِيَل على طاولة العزلة، نبدّل ملابسنا في الزفرات الأخيرة لرحلتنا اليومية التي تبدأ وتنتهي بالمكان نفسه، نطمسُ الألفة في وجوهنا بالصابون والماء البارد، نفرّشُ أسناننا جيدًا من كلمات جيرية قالها أحدهم عن شئ وهو يعني شيئًا آخرًا ونستخدم خيطًا لتصفية استعارة من شفاه مكّارة علقت بين ضرسين في ناحية لا نأكلُ عليها. زيادةً في الحذر، نرتدي جوارب ثقيلة ونظيفة ونغلق كل باب في المنزل، يضمّنا الارتياح في أن الوجوه الزائرة لا تعرف كيف تطرق الأبواب.
مع ذلك يظلُ هناك احتمال ضئيل، أن يستطيع وجهٌ ما التسللَ بمساعدة الجمادات التي كرهت الاستبداد في حركاتِنا والقطط التي سئمت من المعلبات، وجه مُتعب للغاية من المحاولة، لدرجة أنه بمجرد أن يظهر في طريقنا، يختار أن يتوسّد الحلم وينام.
لو أننا تركنا الباب مفتوحًا من البداية لكان سهلًا علينا تخطّي ذلك الوجه إلى صخب اليوم في الصباح التالي، لكنّنا الآن، يُحركنا ثقل المعنى حين يتحول حلم بسيط إلى رؤية، نجد أنفسنا لا نفعل شيئًا غير البحث عنه في كل الوجوه.

٣

تظلّ الأرض المكان المثالي لاحتضان الكُتب التي تستغرق وقتًا طويلًا. في رقدتها هناك على سجادة من البوليستر جوار السرير أو على سيراميك غرفة المعيشة تتحول إلى فصل صغير ومهم في جغرافيا المنزل، هكذا تصير العودة إلى صفحاتها كل يوم كوضع معطف العمل على مشجب قديم ويصاحب إرجاعها إلى موضعها في الأرض رعشة في ضوء النيون استعارتها الغرفة من فيلم لديڤد لِنش. حتى عندما تفرغ منّا فنفرغ منها ونعيدها إلى فراغها في المكتبة يظلُ بمقدورنا رؤية إشاراتها إلى مكانها المؤقت القديم تساعد بذلك الجريانات المتسارعة لفعل التذكر في سرقة وقت أطول من الماضي.
يحدث أن تعود أغلبية تلك الكتب إلى الشعر. بالطبع، لا توجد كتب تستحق الوقت الطويل أكثر من كتب الشعر، ولأننا لا نعرف تحديدًا ماذا يحدث مع أثاث البيت في غيابنا ولأننا أيضًا حين كنّا نصطدم بها كانت تلك الكتب تصدر صوتًا وكأن قصيدة انسكبت منها، يكون إنزال القدمين من السرير إلى الأرض بالضبط كالانزلاق إلى عشب أخضر في حديقة.

٤

تحكي فصول الدراسة الحوادث من وجة نظر المؤسسة بينما الشعر القاسي الذي يغنّي الحقيقة لا يمكن إيجاده إلا في قسم التدخين السرّي للمتمردين: حمّامات الطلبة. لقد تم تنحيتها عن مهامها المعتادة لتصير شيئًا أجمل: يطل من الزاوية خوفٌ من الانكشاف فتُغرق اللعنات على كل شئ الجدارَ المقابل، يظهر سطر يفشي سرًا للعائلة أو إحباطًا يعود إلى الطفولة فيُستخدم دخان السيجارة لمنع الرؤية. إنه شارع ذو اتجاهين.
لا يمكن للسيجارة أن تنبش في غير سياق. رغبةً في لمس نسخ سابقة، قد يعود المرء إلى التدخين في الحمّام، ولأنه الآن لا يقدر على كتابة ولو سطر واحد مما قد يَدل عن مأساته، يختار الخوف القديم المستدعى – الذي لا يمكن مواجهته – أن يُظهر نفسه في شئ له دلالة: إفراغ الأمعاء.

٥

عرفت جدتي تأثير يد تكاد تلمس البعيد لحظات قبل الاستيقاظ. كروح أبحرت من غير المألوف إلى الرسو في المعتاد، ارتدت جوربين غير متماثلين كلما آوت إلى النوم مؤمنة أنها بذلك تحبس الرؤى الملونة داخل مدارها وتحمي أحلامها من اللصوص.
ما كان أغنية حارسة تمنع لصوص الليل عند الجدة تحوَل عند الحفيد إلى طقس قد يجلب الحظ وما ظنّه الأصدقاء نوعًا آخرًا من التدهور كان حركة شطرنج يائسة سرعان ما ظهر عدم جدواها في مواجهة صخب المدينة.
النعمة قد تكون إيماءة من سوء الفهم وخطأً بسيطًا في الترجمة؛ بجوربين غير متماثلين كانت النهارات الطويلة، التي استهلكت في التصعلك والقراءة، فضاءات محمومة ومُلطخة بأحلام يقظة ساخنة حبست تحت الجلد، يخاف المرء فيها، أن يفتح باب قاعة القراءة لإحضار القهوة فيصطدم به مستر هايد قاصدًا بابه متقفع الطلاء.

٦

كان يحيى حقي رجلاً رائعًا بحق. يعود إلى البيت آخر اليوم وبيده حقيبة من الشباك ممتلئة بالقصائد والقصص أو يجلس إلى طاولة الكتابة زاهدًا في صخب الحياة ليخبرنا بطريقة كاجوال للغاية أن سعادة الأفراد لا وزن لها في تسلسل الأجيال وكأنه لا يعرف أن معرفتنا بشئ كهذا قد تشكل استقبالنا القاصر لبعض الأمور.
في حركة متوقعة للغاية، يقرر حسين، الابن الأوسط في رواية بداية ونهاية لنجيب محفوظ، أن يهجر حلمه في الالتحاق بالجامعة، الابن الأوسط، الذي لا يمتلك ضمن ميكانزم العائلة الإرث المعربد للأب في الأخ الأكبر ولا استبدادية الأيدي الناعمة للأخ الأصغر، يختار، لأجل العائلة والمرحلة الانتقالية وملبس الخريف، أن يتوظف بالبكالوريا في مدينة بعيدة، فاتحًا الباب لخروج هادئ، لاختفاء مناسب، من الصفحات القادمة.
يتقفى الفيلم الذي أخرجه صلاح أبو سيف خطوات الشخصيات في الرواية. في طنطا، يبدأ حسين حياة تخصه وحده. بمرور الوقت، لا نسمع عنه سوى من خطاباته، التي يعبّر فيها عن شوقه للعائلة وأسفه الشديد لأن النقود التي أرفقها قلّت عن المرة السابقة. أمام تضحيته السابقة، لا يمكننا أن نلومه على تجاهله للبعيد، إنه يحصل على نهاية سعيدة صغيرة جدًا على قدّه ويبرّر – باستخدام لسان عم يحيى – اختفاءه، الذي يمكن اعتباره في أصيل بارد نهائيًا، من الصورة، لكن نجيب محفوظ كان يُجالس الناس الخطأ، يضع رموزه دون إخفاء على الطاولة ويؤمن على استحياء بالأمل؛ بعد وقت، ليس بالطويل، كاعتزال كاذب لفنان مرتاب، نجد حسين يعود إلى الصفحات، ليقضي إجازته السنوية في القاهرة، في الفيلم، نراه يجلس بالبدلة الكاملة على مائدة أبي بهيّة، عائدًا إلى الأبد، يعوض الغياب المستهتر للأخ الأصغر، في مشهد لاحق، يعترف في توتر للأب نفسه برغبته في الزواج من بهية التي تركها أخوه، ورغم أنه يقُسِم له أنه لا يفعل ذلك كي يُصحح غلطة أخيه، إلا أننا نعرف حقًا ما يحدث: إنه الإطفاء المتعمّد للسعادة الصغيرة جدًا، يقحم مرة أخرى، الابتسامة الخجلانة لحسين في مآساي العائلة، دائمًا وللأبد، أمام أمه الوحيدة بعد تترات النهاية.
أتحرك بين الذاتي والذاتي جدًا، أفضّل أن أقرأ عن الحزن لا أن أكتب عنه وأقع دائمًا في الفهم الخاطئ. إن المفاجأة تحدث أمامي كل مرة يعود فيها حسين إلى الصفحات أو يظهر على مائدة الطعام، لأنه بالنسبة لي اختفى للأبد، من الرواية والفيلم، من تسلسل الأجيال وملاحظاتي المعطوبة، في اللحظة التي ازدحم الخلق حوله في محطة سكك حديد طنطا.


هذا النصّ هو السادس من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم

صورة الشريط © حيدر ديوه چي