هوامش للّعب (٤): الذهاب إلى السرير وحيدًا بعد الخسارة

١

لأننا سرقنا من تاريخ الأدب شيئين أو أكثر كان علينا أن نقبل حصة ناقصة من حياتنا في المقابل، لقد كنّا نرثي بدموع حقيقية موت المشهد الدرامي العظيم في الأدب، لكننا وفي الوقت نفسه، بعزيمة لا تخيب في تجنب موجة الحرارة المعتادة في الوداعات العظيمة ودهاء خبير يعرف أن ما لم يتم فرده يظل مُكرمشًا إلى الأبد، صممنا أن تخلو النهاية، نهايتنا، أنا وأنت، من مشهد مماثل.

٢

في مطعم مُختبئ في الزمالك، وقت انتظارنا أنا وصديقة قديمة وصول الطعام، نشر المذياع في المُحيط الذهبي حولنا أغنية مشهورة للمُبجل أحمد عدوية. رفعت صديقتي القديمة سبابتها في وجهي وبابتسامة واسعة سألتني عن الأغنية، لم أعرف الإجابة.
حاولتُ أن أغمز الشاب خلف الكاونتر كي يساعدني، بيد أنه كان متواطئًا. في عينيها، ظهر قليل من الظفر، غطستْ في مقعدها وقالت أنت مجرد أميركانايزد إيچبشيان آخر، ابتسمتُ في اللحظة نفسها التي التفت فيها عجوز في قميص مفتوح وفمٍ ملتوٍ على الطاولة المجاورة ساكبًا قلبه على المُقبِّلات بيننا: يا بنت السلطان حِلمك ع الغلبان، ده المية في إيديكِ وعدوية، كالعادة، عطشان.
لم تكن هذه المرة الأولى التي أشار فيها أحدهم إلى ذلك العطب، لطالما كنت مثار سخرية بين أصدقائي؛ فبينما كنت قادرًا على استرجاع كاتالوج پينك فلويد من بابه، كنت أعجز على التعرّف على أي اغنية لأم كلثوم بعيدًا عن ألف ليلة وليلة، وبينما كان سهلًا عليَّ الزحلقة بين أفلام سكورسيزي حسب ترتيبهم الزمني، كنت أتعرّق وأنا أذكر – مجرد الذكر – أفلام محمد خان. في الحقيقة، لم أكن أعير الأمر اهتمامًا، كنت أهز كتفيّ وأنفخ في الهواء، قطعًا لم أكن هارولد بلوم عصري من شقوق القليوبية، لكن الدنيا لا تسير هكذا.
في العائلة تكون السخرية حامضة وموجهة تجاه شخصين، ترفعُ عمة من العمّات حاجبًا أمام جهلي المطبق وخيبة أمي. فمقابل الابن الذي لا يذكر كلمات أغنية واحدة لمحمد عبد الوهاب ولا يعرف أن يعدّ أكثر من خمسة أفلام لفاتن حمامة كانت الأم مكتبة أغانٍ وأفلام عربية على قدمين؛ متجددة ومرتبة بصورة ساحرة. كانت أمي تغالب وحدتها ذات الأسنان في غياب الأب داخل البيت الكبير فتغمس روحها في أفلام عربية من الخمسينات والستينات وأغانٍ عاطفية حارة في المساءات الهادئة مع القهوة. قد يبدو الأمر غريبًا: كيف يمكن أن ينقلب نهارٌ بدايته واعدة كهذه؟ الإجابة شديدة البساطة: لأنّي لم أرد ذلك.
كنت في السادسة، لا رغبة لي في شيء سوى الغرق في مسلسلات الكرتون وأغاني الراب، الخروج والضياع في الشوارع إللى تحت والعودة إلى البيت بعين سوداء وبنطال ممزق، كنت أريد الجرى في حقول البرسيم على أطراف القرية والعبث مع قطة الجيران. لم يكن ما أردته كثيرًا وكانت أمي تعرف هذا، لكن ما حصلت عليه عوضًا عن التعّرف على الأشرار كان الجلوس جوار أمي ومشاهدة فيلم بالألوان لشكرى سرحان يتبعه فيلم لفاتن حمامة وعمر الشريف ثم أغنية طويلة لأم كلثوم مع الفول السوداني. مقابل كل دقيقة من اختياري كان هناك فيلم أو أغنية في الطريق، ففي سبيل صناعة مكتبتها الرائعة كانت أمي تَجرني وإخوتي جرًا على بلاط لامع ونظيف للدرجة التي جعلتنا في النهاية نشعل ثورة صغيرة، وفي ليلة شتوية واحدة نقوم بتخريب التلفاز والمذياع، على غير دراية بأننا لا نلقي كل ما اقتسمناه معها تلك الأيام في النهر فقط، بل أيضًا نخنق في المهد أي محاولة للبدء من جديد.

٣

تشير معروضات يورجوس لانثيموس في خجل إلى مآسيها عبر الكلام الخالي من الشعور والبرودة على الوجوه المُتحفظة، لكنها حين ترقص، تصرخ بالحقيقة دون مواربة وتكشف الغطاء عن كدماتٍ أخفتها عنّا قبل قليل الألوان الفاتحة.
وإن لم يقصد، يُذكرنا لانثيموس بشيئين: الأول أنه يعبِّر عن نفسه بالرقص مَن يمقت الصمت ولا يقبل في الوقت نفسه خارج القسمة المطولة للكلام داخله.
والثاني أن الطبيعة لا تُحرّك ساكنًا تجاه دفء أرواحنا لأننا نوجه إليها الحديث، في الأغلب، عبر لغة خطأ.

٤

في حوار مع جريتا جيروِج، في العدد المُخصص لها بمجلة ڤوج، كانت إجابتها على سؤال متى تعرفين أن مكانًا ما صار وطنًا، حلوة المذاق ومثيرة للاهتمام، وسنتمنتالية. بالنسبة لها، المكان يصبح وطنًا حين يمتلك المرء كُتبًا قُرأت فيه. هكذا إذن، كل تلك الأوطان التي كدستُها في حقيبة ظهري – بإرادة أو في غفلة – كانت هناك بفضل إيماءة بسيطة، كإلقاء تعويذة من لغة مختلقة يتحول بعدها المُحيط إلى شئ عزيز على القلب مقابل كل تلك الأماكن، التي ولحسن الحظ، دفعنا الحدس إلى ابعادها عن متناول الأطفال في المقعد الخلفي. وامعانًا في السنتمنتالية من جانبى، أفكر أنه ليس شرطًا أن تَظلّ الكتُب في أوطانها الأصلية، لا لشئ سوى تفسير حنين جارف شعرتُ به في يومي الأخير بالجامعة، أمام حمّام نظيف في الطابق الخامس، قرأت فيه ذات مرة كافكا على الشاطئ لموراكامي، دفعة واحدة. حدث ذلك في يوم شتوي قبل خمس سنوات.

٥

الذهاب إلى السرير وحيدًا بعد الخسارة لا يمكن تصنيفه في خانة غير خانة الحماقات الكبرى. أن تفقدَ فهذا شئ، لكن أن تقبل أن تسقط لحالك إلى عالم الخيالات الوحشية لما بعد الفقد فهذا شئ آخر.
أفكر الآن في الآباء الذين أمضوا الليل يحكون القصص لأبناءهم بعد رحيل قطٍ فقَدَ أغلب شعره على أريكة غرفة المعيشة، أفكر كذلك في فتيات ليل ما بعد الفاجعة وصرخة الفلاحات الأبدية بعد حدوث موت في العائلة: تعال يا راجل وادفن حُزنَّك فيَّ. تحت سطوة البرد، حتى الأجساد التي لا تتكرم بأكثر من الشهيق والزفير تُمثّل حارسًا أمينًا في مملكة مورفيوس.
لكن ماذا بشأن أولئك الذين تضطرهم ظروفهم اضطرارًا إلى الوحدة في سرير ما بعد الخسارة، هل عليهم أن يختاروا بين أرق لا ينتهي أو تسليم باليد على الأشباح في دغل المساء؟
الجيش قال لك تصرَّف، توفر هذه الحكمة الخالدة مخرجًا من نوع آخر: في سرير من طابقين، يُضحّي المرء بمساحة من الرحابة والراحة لأجل كرب أقل، ففي حين ينام في طابق مُدثرًا بالأغطية والتعب، ترعى العتمة هادئةً في الطابق الآخر.

٦

كادت تفسد محاولة رشدي حمامو لدفع زوجته فاطمة البوريني بعيدًا إلى الجزائر، في نهاية التنويعة الأولى من كتاب حديث شخصي لبدر الديب، كادت تَبكي وهي تقول له ولكنني أنا، ثلاث نقاط قاسية بطعم الخل، سأتعذب. أحسَّ رُشدي بروحه تَميل إليها وأن قسوته التي حصل عليها مهددة بأن تتلاشى وهو يستعد لأن يأخذها في يده وأن يقبّلها. ولأننا نعلم أننا لن نحصل على تلك النهاية، يقوم رشدي، الاسم الغريب، حمامو، فجأة، ولا نعلم أيُ فجأة من السلة تُناسبه، هل كفجأة حدوث الثورة أم كفجأة انعطاف أحدهم إلي شارع جانبي؟ المهم يقوم رشدي حمامو فجأة ويُدير ظهره لفاطمة، التي غالبًا يسيل دمعها الآن، ثم يقوم بشئ يَكسر ما ظَنّناه لوهلة صدقًا وسط كل ذلك الكذب الميت، في وقت يتوقّف فيه السرد عن إعادة تشكيل نفسه بمطرقتة الدقة المائعة، يسير رشدي حمامو ليضع كتاب الدُب الأبيض في مكانه على الرف في المكتبة ويصمُت. على الرف في المكتبة؟ 
الكتاب عزيز عليه، كأنه سر، وكان يعطيه من الوحدة ما يريد، ويضعه في مكانه على الرف في المكتبة كلما انتهى منه، ليس على الكومودينو جوار السرير في غرفة النوم، ولا ظاهرًا على كرسي في غرفة المكتب، بل في مكانه علي الرف في المكتبة؛ هناك بين الكتب والمراجع التي كان يستخدمها في التأثير فيمن يزورونه من الأعوان في الوزارة أو الأجانب، مجرد حركة في لعبة شطرنج الكذب التي برع فيها. 
كان الخروج من الدائرة إلي الخط المستقيم مستحيلًا دائمًا بالنسبة لحمامو، فالأماكن الخاوية محل الكتب قيد القراءَة تكون جروحًا في صدر المكتبة حتى عودة الكتاب، وما كان رشدي حمامو يفعله – والذي ربما لا يزال يفعله إلى الآن – هو الحفر بمشرط على صدر الكذب الميت في الصباح ثم يأتي في المساء ليجد نفسه وقد ضمّده بيديه.

٧

بقدر من الحيلة والضياع في المدينة يمكن نسيان وجه هان عليه الود لكن قد يتطلب الأمر كل الوقت الذي في العالم ونصف الكرة الشمالي ليعيد المرء إلى مملكته أغنية واحدة تقاسمها مع الراحل.

٨

عضّات الحب في الكتب هي آثار الثَنَيات القاسية أعلى الصفحات وبقع الشاي والقهوة الكلاسيكية المعتادة تبدو كنساء يقفن في قمصان نوم في شُرَف أربعينيات كتّاب الستينيات. إنها هوسنا الملون بالتشكيل على كلمات واضحة أصلًا وفشلنا في التخطّي جالسًا على الهامش كبحر حين يتحدث الكاتب عن حديقة كبيت حين يتحدث الكاتب عن بحر وكعلامتي استفهام حادتين حين يتحدث الكاتب عن بيت. هي الشرطات الصغيرة تحت اكتشاف في اللغة لفرد واحد يرقد تحت ملاءات الإخفاء وهي الإحالات الهادئة في الفراغ بين قطعتين إلى بحثنا المستمر في النهايات الصغرى والنهايات الكبرى.
يتبعُ السهل والآمن من يُهْدي كتابًا جديدًا لأحدهم بينما يضع من يُفرط في عضّات الحُب تلك، سواء عرف أم لم يعرف، قلبه بين كفين لا تعودان إليه.
إنه قتلٌ بلا جلبة لغزال مقدّس.


هذا النصّ هو الرابع من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم

صورة الشريط © حيدر ديوه چي