١
تصف فيبى والر-بريدج البيئة المثالية للقراءة فتضع حالة في مقابل أخرى. الأولى نبيذ وكرسى بمسندين ومطر، والثانية في حجرة مع شخص آخر يقرأ أيضًا. أمام ذلك، نتساءل، كيف يمكن أن تضاهي بساطة الحالة الثانية الكشكشات اللامعة والتألق في الحالة الأولى وكيف لنشاط فردي لا يقبل المساومة أن يعزّز بواسطة وجود آخر حتى ولو كان هذا الوجود هادئًا ومنطويًا على حاله؟
نلتفت إلى الوراء، نحو ليلة مضت. تمطّى أحدهم على كرسي وهو يحتضن كل رجال الباشا لخالد فهمى فيما صديقه على السرير في الطرف الآخر من الحجرة يقرأ بحيرة مساء إبراهيم أصلان. كانت أولى لياليهما في المنزل ولم يكن هناك أي طعام، كانا متعبين وقررا البقاء في الداخل. كانت أولى لياليهما في المنزل وبينما كان الليل يوغل في جلدهما ويزداد التخفف من أثقال تخص النسخ السابقة مع انحناء رأسيهما أكثر إلى الكتابين، لاحظ كلاهما، مرة واحدة، كيف يلمس ضوء النيون فشل صفوف كاملة من الآباء، ولأنهما لم يعرفا ما ينبغى أن يقوله الواحد منهما للآخر، اكتفيا بانتزاع رأسيهما والابتسام لبعضهما.
تشير والر-بريدج إلى ندرة الحالة الثانية وكذلك إلى السلام الذي يحل حال حدوثها؛ فأن يقرأ شخصان في حجرة واحدة يشبه كثيرًا أن يناما في السرير نفسه، بينما يسقط كل واحد في حلم مختلف تمامًا عن الآخر تظل هناك فرصة أن يُفتح باب مشترك يقع في داخلهما في الوقت نفسه.
٢
أستعير اسمًا مختلفًا كل مرة أركب سيارة أجرة، أرسم حياة بسيطة على هامش ذاتي تنعكس عبرها أضواء أعمدة الإنارة بشكل مغاير على الزجاج.
أركب تاكسى من ميدان روكسي إلى النزهة. نتوقف أمام مطعم صغير، أخبره أنه مطعم زوجتي المفضل، في شهرها التاسع من الحمل لا تتحرك من المنزل كثيرًا وأريد أن أفاجئها بشئ تحبه. أترجل من السيارة، يبتسم السائق في وجهي ويتمنى لنا دوام الخير.
في طريق العودة سائق آخر يتوقف فجأة على جانب الطريق ويدفعني للخروج، لقد أحطته باستياء شريكى في السكن لأنى قبّلتُه في فمه الليلة الماضية. الوجبة التي ترقد في حجري مصالحة، تكفير عن الخطأ. يسبّني ويغلق الباب.
كان عجوزًا هذا السائق الأخير. حدثته عن أبناء هذا الزمان وعن ابني الذي رماني على الرصيف لأني سخرت من عمله وصديقته. نظر عبرى بعين شك فعرضت عليه صورة لي وأبي، نُبادل العدسة عدم الابتسام. تنهد وواساني. حلفت عليه أن يأخذ الوجبة لأنها كانت تخصه ولم يعد لها معنى. تركتها له على الكرسي ونزلتُ أمام باب العمارة.
ترتعش يدي وأنا أضع المفتاح في الباب، أراهم بعينى ثلاثتهم، جالسين على الأريكة نفسها في غرفة المعيشة، أياديهم في حجورهم، بمجرد أن أدخل سيصرخون في وجهي
«توقف عن مشاركة قصصنا مع سائقي سيارات الأجرة، نرجوك.»
٣
يتذكر هيمنجواي بدقة المرة الأولى التي أُلقي في وجهه مصطلح «الجيل الضائع»، وأنا كذلك أتذكر المرة الأولى التي قيل فيها عن جيلنا أنه جيل ضائع. في المدرسة الابتدائية قام ولد من مؤخرة الفصل بصنع ثقب في الجدار سمكه حوالي ستة عشر سنتيمترًا، وحين سأله مدرّس الرياضيات عن السبب الذي جعله يفعل ذلك حدثه الولد في براءة عن رغبته في رؤية الشارع لأن النافذة العالية لا توفر له ذلك. عندها، وكرجل حكيم يعرف خبايا الأمور، أصدر المدرّس حُكم الضياع على جيلنا.
يحدث أن أفكر أن أي جيل هو بالضرورة جيل ضائع، سيان إذا أطلق هذا الضياع على نفسه أو أطلقه عليه غيره. أين ذهب ذلك القاضي وإلى أين انتهي الولد؟ لا أعرف، لكنّي أعتقد، لا بل أنا مُتيقن من أن ذلك الثقب لا يزال هناك في الجدار.
٤
خبّئوا الوسادات
لي صديق أصاب عقله العطب، حتى اسمه صار غريبًا عنه، ما الذي كان بإمكاني أن أفعله غير أن أجلس جوار سريره أسعل رماد الأيام التي مضت وأبحث في كرمشة الملاءَات وحركة يده عن إشارة من الضفة البعيدة للتكرار الذي علق فيه؟ ربّاه، كم كان العالم مُبلل بالندى وخارج عن السياق حين خرج فجأة عن صمته وصرخ: «أحدهم طار فوق عش المجانين.»
كوب الماء يهتز في يدي، هل أجاب أخيرًا على سؤالى المتكرر عن فيلمه المفضل أم إنه يطلب مني أن أصير زعيمًا هنديًا قصير القامة ويصير هو ر. ب. ماكميرفي في عليائه؟
٥
في قائمة أدوات المطبخ الأكثر شاعرية يحتل السكين المركز الأول. هو الخيار الأقرب إلى الاشتراك في تراجيديا صغيرة في غرفة النوم ومن أي نافذة على الشعر، القديم أو الحديث، يمكنك أن تراه يُجرّ جرًا على الأرض في القصائد.
أي آداة في المطبخ تقدر هنا على المنافسة؟ هل تستطيع الدموع التي تثيرها المبشرة إذا استخدمت مع البصل أو آلام الأسنان من الاحتكاك بأطراف الملاعق والشوكات أن تصمد أمام الأحمر في سبابة مجروحة أو في قميص أبيض؟
ربما هنّاك فرصة للأدوات البريئة كعصّارات البرتقال أو عصّارات الليمون أو حاملات البيض، تلك الأدوات المخصصة لشريك واحد والتي يضيع صوتها الهادئ في الظهيرة وهي تنتظر بلا ملل على الرفوف الخشبية، كعاشق شديد الإخلاص لنصفه الآخر، لكن لأن طبيعتها تقتضي قدرًا من الغياب، تظل الكلمة العليا للسكين، الحاضر دائمًا، في النهاية.
٦
يصنع المرء حديقة لأنه يشتاق إلى أحدهم، لأن دُبّ الوحدة لم يعجبه عشاء الأمس، لأنه اصطحب وجهًا من الجص إلى موعدٍ أول ولأن شكًا كالورق المقوى يعشش في المرآة وجرس الباب.
يصنع المرء حديقة لأنه لم يعد يرتدي الجينز، لأن قلقًا يسكن بالجوار يجعله غير قادر على تسمية الأشياء، لأن صَدَفة بحجم ثمرة خوخ نبتت في وجهه، لأنه اشترى خصمًا على أخطاء بالجملة من بائع متجول ولأنه خسر مرة أخرى أول مطر في الشتاء.
يصنع المرء حديقة لأنه توقف عن تدخين السجائر لكنه لا يزال يحرق تبغ الماضي، لأن مأساته من الدرجة الثالثة ونكاته لا تتخطى الصف الأول، لأن طعم الملح في ساعديه، لأن قطًا روميًا انتحر في باحته الخلفية وعليه أن يخفي الجثة قبل مجئ شرطة الزرقة.
يصنع المرء حديقة كى يتمدد من التعب، لأن الوجود شئ سئ…
سئ..
سئ.
٧
العودة إلى البيت تتضمن فراغًا في قطار أنفاق، مقعدًا في سيارة أجرة وأشياءً حدثت في البعيد والهادئ، قد تعطي الشمس ضوءها لظروف مشابهة تخدع أحدهم وقد لطخ بسأم عمال النظافة أو تعب نهاية اليوم، بالنسبة لي، العودة إلى البيت دائما ما تحدث عميقا في الليل، نهاية حلم، تحكيه في الصباح، دون قلق، قبل الإفطار.
شئ مثل هذا، لشخص مؤمن بالخلاص الذي يسكن النسيم، لطفل ممسوس بالحركة التي تغنيه عن ساعات ما بعد المنتصف، لقروي سلم نفسه إلى الضجة في والشارع الرئيسي في المدينة، يكون اعتياديًا كحركة النعسان إلى المألوف وواحدًا كليالي المقاهي المتجاورة، يشبه الأمر ما يحدث مع أولئك الذين حصلوا على نهاية اسبوع واحدة فقط في العمر، طويلة ومغبرة، تنهار فيها الساعات داخل الساعات وتنحف فيها الإجابات بحيث تصير الإجابة على سؤال مثل ما الذي لأجله تعود إلى البيت مجرد هزة رأس في الليل.
يرى هيمنجواي أن على الكاتب ألا يفكر في العمل قيد الكتابة إلا وقت جلوسه إلى الورقة والقلم. أن يترك الكاتب العشب ينمو داخله دون استمرار النظر إليه هو نوع من القربان المقدم إلى الحياة الحافلة، باستخدام المنطق نفسه، هل يمكن التوقف قليلا عن الانغماس في هذه الحياة الحافلة لأجل كتابة من نوع آخر؟ الانسلاخ من أضواء الحفلة لتجنّب صباحات طعمها كالإسفنج لا يمكن أن نلمس فيها انتصارات وهزائم الأمس، بشكل أوضح، هل يمكن أن تصبح قبلة كانت بالأمس حدثًا يحتمل ثقل الفراغ المحتم في الصباح التالي؟ لا بد أن ما استيقظ إليه ميتش كرايمر، الشخصية الرئيسة في «دايزد آند كونفيوزد»، كان موغلا في العادية واللاطعم، لكن هل كان بإمكانه انتظار شئ غير ذلك هو الذي غطس في الوسادة مسحورًا بالزخم واللاعادية على أمل أن يسحب تلك الليلة الممتلئة إلى الباحة الخلفية للعم مورفيوس؟ لنفترض ميتش كرايمر آخرًا في شوارع وسط البلد، يضطر بعد ليلة مماثلة في الزخم واللاعادية أن يتخفف من ذلك السحر شيئا فشيئا في طقس كالتترات في نهاية الأفلام، طقس يتضمن فراغًا في قطار أنفاق ومقعدًا في سيارة أجرة، هل كان سيستيقظ إلى الفراغ نفسه؟ ربما يكمن في خيانة السحر الذي حدث منذ دقائق نوع من الإخلاص الشديد، لأنه لو كنت قادرًا، فى الصباح التالي، أن تحدّد بدقة على وجهك طريق شفاه قبلتك بالأمس فستكون قادرًا أن تحدد ذلك الطريق طيلة حياتك.
هذا النصّ هو الخامس من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم
صورة الشريط © حيدر ديوه چي