هوامش للّعب (٣): قلقي يشرب اللبن ويرتدي عويناتي ليقرأ كافكا

١

أبكي كثيرًا في الأفلام.
لا يعني هذا أنّي إنسان جيد؛ الأوغاد أيضًا يذهبون لمشاهدة الأفلام وفي الظلام يبكون. هذا لا يعني أنّي وغدٌ أيضًا. رغم ظنّي في أغلب الأحوال أنّي شخص سئ، أكون قادرًا في وحدتي على استدعاء قدر من براءة تخص طفلًا صغيرًا ينتظر أمه أمام المدرسة. لو شاهدتهُ على الشاشة يمكن أن أبكي، دون أن أقدر على تحديد ما إذا كنت أبكي عليه أم أن البكاء هنا شئ طبيعي لأني أبكي كثيرًا في الأفلام. لست حساسًا. أفشل في ملاحظة المآسي التي يرتديها أخي الإنسان. أحيانًا أصل إلى المنزل فأجد مأساة حكاها شخص ما قبل ساعة تجلس في الصالون، أفكرُ أن أتصل به ليأتي ويأخذها، لكن بما أنه لم يتصل بي لأذهب وآخذ مأساتي التي تجلس في صالونه، أفكر في حلول أخرى. كل صباح أستيقظ إلى افتراض أني ولدت من جديد.
إن اشتكت الجارة من صوت البكاء العالي في الليل أخبرها أنّي سأختار فيلمًا كوميديًا في المرة القادمة، إن أخبرتني القطة السوداء أن الذكورة السامّة مرتابة وتبحث عنّي في الحي، أخبئ البلل في الوسادة تحسبًا لتفتيش مفاجئ، قد تشيرُ مأساة أخي الإنسان إلى أن هناك شئ ما في عيني، فأقرّب منها طبق المقرمشات وأخبرها أن الشخصية الرئيسية تفقد أمها في المشهد القادم.

٢

الحكايات وحدها هي ملاكك الحارس في عالم ألف ليلة وليلة؛ إذا كان بحوزتك حكاية فلن يتملّكك الفزع حين تكون بين أيادي ثلاث ساحرات قررن قتلك، أو تحت رحمة قطّاع طرق عرب، إن وقعت تحت الغضب العارم لأحد الملوك أو صرت في قبضة عفريت من العفاريت فلا تخف، كل ما عليك فعله هو أن تحكي. لمحمد مستجاب قصة رائعة اسمها اغتيال، تشرب من نبع ألف ليلة وليلة، في تلك القصة يحلّ الوقت ضفائره على ظهر ثلاث حكايات، تُبعد كل منها النهاية عن الأخرى وفي الوقت نفسه تُبعد القصص الثلاثة القارئ عن المقدّر في الزاوية وتذكّره أنه لا سلطة هناك فوق سلطة الحكي.
أن تحكي شيئًا، يعني بالأساس أن تأتي بمثله، إننا لا نقول، حتى إذا توخينا الدقة، الحكاية في داخلنا، إنما ننتج شبيهًا لها. إن هذه الفرضية تنشر اضطرابًا في محيطنا؛ لقليل من الوقت نَطمئن إلى خلود ما بجعبتنا من حكايات، ذلك أننا حين نحكي، نحكي شيئًا آخرًا، ثم يحدث أن نكتشف أن الحكاية داخلنا تنقصفُ بالضرورة أمام ما نطقنا به عنها وأسكنّاه الهواء. جيوبنا ممتلئة بالحكايا، هذا صحيح، لكننا بسبب مقارنات لا يمكن التواري عنها واستدعاءات مكثفة لماضي لا نرغب أن نتذكره، نعجز أن نمدّ أيدينا إليها. إننا، برومانتيكية فاضحة، نعرض أنفسنا لخسارة محتملة، كل مرة نُجيب على من يقول لنا بكل بساطة، احكيلي حاجة.
لا بد أن هناك قدرًا هائلًا من السذاجة في أولئك الذين يودعون كل حكاياتهم في الاختلاجات في وجوه الآخرين، حتى بين عاشقين ولّع حبهما في الذرة يظل الأمر بعيدًا عن الفهم، من يعرف؟ ربما يوجد هنا، بشكل ما، تعريف آخر للحُب: أن تسكب كل ما بقلبك من حكايا على جلد الآخر دون أن تعرف، أو ربما لأنك تعرف، أنك في حقبة ما بعد الفقد قد لا تجد حكاية واحدة تحميك من الساحرات والعفاريت في الشارع.

٣

قلقي يشرب اللبن ويرتدي عويناتي ليقرأ كافكا، وحين تتحرك يدي فوق يدك وكأنها تتوقع انتكاسة مُحتملة بعرض الطريق أنظر إليه في شك. إنه يحمل اسم أبي، وبخدعة في الضوء وأنف في وجهه كأنفي يتمنى لأمي أحلامًا سعيدة بالبراءة نفسها التي يرفع بها يديه ليعلن عدم مسؤوليته عن الاختلال الحادث في ابتساماتي العسراء وعن فتات كعك الخيبة الذي يتساقط على زرقتي. ولأجل قدر من الغموض في الغرفة يترك سيجارته في منتصفها ويمتنع عن مشاركتي قهوة الواحدة صباحًا لأنه يريد أن يشرب الشاي، وبينما أشرح له الفرق بين الوهم والاستيهام يخبرني أنه لا يعرف كيف يضبط الشاي بدون استخدام ملعقة كبيرة، أحيانًا أحسّ رغبته في تغيير اسمه وتبديل أدوارنا، لكن حين أعرضُ عليه بقائي في المنزل وخروجه إلى التمشية في المدينة يشير إلى الكعكات في الفرن وملابسه في الغسّالة ويشعل سيجارة، ربما ينطبق موعد نومه على موعد نومي كما ينطبق موعد عشائه على موعد عشائي، وربما هي عاطفيته الزائدة إثر عودتي المتأخرة إلى البيت؛ تظهر في استيائه الصاخب من نسياني تقديم ملعقة كبيرة إلى المطبخ، وبذلك لا يكون أمامه خيار آخر، مستعيرًا براءته، أرفع يدي لأخْلي مسؤوليتي، قلقي يشرب اللبن ويرتدي عويناتي ليقرأ كافكا.

٤

يقع الناس في الحُب بسهولة في أعمال ديڤيد لِنش. الحب عنده دائمًا ما يأتي في أول الجملة، شئ من براءة الأطفال وفتنة الأحلام – في ألبوم «زا بيج دريم» الكلمة الأولى المنطوقة هي الحُب. إنها سمة خارجة عن تقاليد الحِجر الواسع والدافئ لأمريكانا الرومانيك-كوميدي، غيمةٌ من الغرابة ولون يصعب تحقيقه، لكن ولأن الجملة لا تتوقف بعد أول كلمة، ولأن عدم الامتثال يتطلب – في تعسف – قليلًا من الإيضاح، يحدث أن يتعرض ذلك المفهوم إلى لكمات من الرغبة في تبيّنه والشك فيه بطول الطريق؛ عبر عيون وأجساد شخصياته الرئيسية وما يصنعه الوقت في أنفسهم. لا يتوقف لِنش عن فحص الكلمة الأولى واختبار مدى صلاحيتها وفاعليتها، وسواء أصار ما استقبلناه كشئ يصعب تصديقه نسيمًا ملائمًا أم ظل كما هو بدايةً، ندرك بمرور الوقت، أن المهم هو العناء والمشقة على وجوه شخصياته الرئيسية نتيجة البحث والتقصي. إنه مرسى لم يكن لنا أن نصله لولا وضع تلك الغيمة من الغرابة في أول الجملة.
قد يشبه ذلك ما يفعله – وبصورة مغايرة – ويس أندرسون، حيث يمكن وصف كل قصص الحب في أفلامه بأي صفة عدا أنها معتادة أو مألوفة؛ هناك حاجز يظهر بين العشّاق في كل أفلامه، حاجز من اللغة أو السِن أو البلد أو القرابة، وفي سبيل أن يهدم ذلك الحاجز وينتصر لعشاقه، يبحرُ أندرسون داخلهم على مركب من ورق.
إن تغيّر الشكل والاكتشافات الوجودية متلازمان، يخبرنا ميلان كونديرا. وبينما تُقدم أميركانا الرومانتيك-كوميدي التسلية الرخيصة نفسها مرة بعد مرة، يُعلن الخروج عن وعاء الشكل المألوف لقصص الحب في السينما أو التليفزيون أو الموسيقى بدء رحلة استكشافية داخل الفرد لمفاهيم مثل الذات أو الهوية أو الآخر، وهذه الرحلة بالذات هي ما ترفع من قدر القصة. إن أجمل قصص الحب في السينما في العقد السابق هي قصص حب تعود لمجتمع الميم، إنها أيضًا أكثرها مصداقية وتأثيرًا على كل الأطراف، حتى ولو أمسك طرف منهم بعصا خشبية ووقف في الركن رافضًا أن يصدق ذلك.

٥

في أفلام الرعب، كان مالك يفضّل أن يتأخر عدة صفوف عن مكانه المعتاد في السينما معتقدًا بذلك أنه في مأمن من الخضّات والقفزات الغير متوقعة. لا أقول أن الرعب السائل من الشاشة لم يكن يصله، ما أقصده هو أنه فكر في الصفوف المضافة إلى مسافة المشاهدة المعتادة، كماء يقع في محلول ليجعله أقل تركيزًا.
كان يضعُ طقسًا فوق طقس في عالم غريب، لا يهم إذا تكلف الأمر قدرًا من الافتعال وبحرًا من الضلالات كي يساعد عقلًا في وحدته أن يتواصل مع نفسه، بصورة أوضح. لقد كان يساعد نفسه على المشي بعد انتهاء العرض، لقد أجبر نفسه على التصديق بأن المرعب والمفزع، بعد مرورهما بكل تلك الصفوف من الفراغات والرؤوس المشدودة إلى الوراء، لا يعضّان كما يعضّان وهو في مكانه المعتاد. وعلى الرغم من أنه لم يكن يعرف شيئًا عن طريقة العض في مكانه المعتاد، لم يكن يستطيع أن ينظر إلى النصف الممتلئ من الكوب ويشرب برودة أن المرعب والمفزع يعضّان بالطريقة نفسها في أي مكان. كان شيئًا مستغلقًا بالنسبة له، كيف يمكن أن تبتعد وتظل تحس الشئ نفسه؟ ولكي يُثبت لنفسه صحة اعتقاده وليشعر بأمان أكثر، كان يبتعد أكثر كل مرة، جارًّا بالضرورة مكانه المعتاد، الأمر الذي لم يبدو سيئًا بأي حال، لأن المرعب والمفزع لم يكونا مقتصرين على أفلام الرعب، إنه اختياره وهو راض عنه.
لكنه أحيانًا يفكر في المستقبل، في موقفه وهو في الصف الأخير، حينما لا يكون قادرًا على الابتعاد أكثر، حينما ينطبق مكانه المعتاد في السينما على مكان اختبائه، هل يمكن عندها – مع الوضع في الاعتبار كل المسافة التي أمامه من الصفوف والرؤوس المشدودة إلى الوراء – أن يقدر على تصديق ضلالاته، وهو في أمسّ الحاجة إلى تصديقها، حيث الشاشة لا تعرض غير المرعب والمفزع؟

٦

يأكل كرسي المكتب مائة صفحة من الحرب والسلام كل يوم، وفي الرابعة عصرًا تُشير ساعة الحائط إلى حقائب تركها المسافرون الغاضبون تحت إبط السعادة الأبدية، برعاية النوافذ المغلقة تُقدم فناجين القهوة الفارغة عرضًا لرقص إيقاعي على أنغام أعدّتها مروحة السقف، ويحاول السرير في جوف الليل تحقيق زمن قياسي جديد لسقوطي من عليه إلى سجادة غرفة النوم، كل ملصق على الحائط يضع رهاناته في يد دولاب الملابس. لقد انتهى زمن الإطلالات الصامتة والإشارات الهادئة، الأدوار الهامشية لمقبض الباب والأباجورة على الكومودينو أصبحت شيئًا للذاكرة. رواية مخلصة للعزلة هي رواية لا تتوقف فيها الجمادات عن الصراخ.


هذا النصّ هو الثالث من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم

صورة الشريط © حيدر ديوه چي