هوامش للّعب (٢): خريطة للمدينة باستخدام المطاعم فقط

١

يُمكن للمرء أن يأخذ إلى فراشه الكُتب والعاهرات، يصرخ فينا ڨالتر بنيامين.
أرجع إلى الخلف قليلًا مع نصف قطعة مُتعبة من كعكة جبن بالكراميل أنتظر إيضاحًا بشأن الأَسرّة المكوّنة من طابقين والتي لا يمكن للمرء أن يأخذ حتى نفسه إليها في نهاية اليوم. ما الذي يمكن أن تنتظره بعد طنين لا يتوقف من الخامسة صباحًا إلى التاسعة مساءً؟ من الخامسة للتاسعة، من التاسعة للخامسة، ومن الخامسة للتاسعة.
بكاوسكي يتقلب في قبره وملاحظة تقولها لصديق في فسحة للتدخين عن أنك صرتَ لا تحتاج أن تخلق قصصًا تقتل فيها نفسك مرة تلو مرة كي تنام، أن تتكدس على حالك وتتلو أبيات پودلير الحارسة، لا أكثر. 
من الجريمة والعقاب إلى آل بودنبروك، ومن الأعمال الكاملة للطيب صالح إلى مُختارات من قصص كِبلنج، ومن رباعية الإسكندرية إلى قراءة ثانية في كتاب الضحك والنسيان ومالك الحزين، قائمة من الخيانات المُخزية. قرأتُ كل هذه الكتب السنة الماضية وفي الوقت نفسه لم أقرأها، لأنه ما لم يقتسم سريرك يظلّ غريبًا في رأسك، عصيًا على الإمساك وجادًا بشكل غير ملائم. من المنظار نفسه يمكن رؤية كيف بقت قبُلات كل الأعمال الرائعة التي أخذناها إلى أَسرَّتنا، دون استخدام ولو بقدر ضئيل جدًا من سحر ما قبل البلوغ، على خشب السرير والوسادات التي جرى غسل لباسها مائة مرة.

٢

يتّبع بائعو الكتب في بِنها الاستراتيجية نفسها: هذا الكتاب الذي تُمسكه بيدك لن تجده في أي مكان آخر. ولأنك مُعتاد على اللّف والدوران ولأنك لا تثق في الأشياء من حولك فما إن يمر قليل من الوقت وتجد نفسك في مكان آخر حتى ينزلق في حجرك الإعلان نفسه عن الكتاب نفسه الذي، وشرف شنبي يا أستاذ، لن تجده في مكان آخر.
بالطبع لا يفوت بائعو الكتب أن شخصًا يقدّس طقس المرور اليومي على أكشاك ومنصات الكتب غالبًا لن يكون مهتمًا بوضع قرش واحد في عملية الشراء، إنه هناك لأجل المتعة المنهكة حبتين للفعل ذاته وعلى وجهه ابتسامة تجدها على وجوه عجائز قد يمضون صباحًا كاملًا يزنون ثمار الرُمّان في سوق الجمعة، ذلك أن شخصًا استثمر كل ذلك الوقت في تقليب صفحات كتب مائعة لن يشتريها؛ يعرف جيدًا أن ما يحصل عليه المرء من احناء الرأس للمعتاد يكون في أفضل الحالات كطعام المستشفيات.
بائع الكتب الجيد يعرف ذلك، بائع الكتب الجيد بدوره يخفي ما لديه ولا يدع أحدهم يدخل هكذا إلى مجتمعه الصغير لأنه ببساطة يمر عليه كل يوم في الثامنة والنصف صباحًا، إلى أين يمكننا أن نذهب الآن؟ 
بالنسبة لواحد من أولئك الذين يتوقفون مرارًا لتأمل الأثر الذي تركوه على الأرض قد يكون ضروريًا الإشارة إلى تلك الانعطافات الحادة إلى متاجر الكتب في ظهيرات حارة، الرجوع المُباغت أربع خطوات للوارء إلى بائع لا يؤتمن، الإنحراف المفاجئ عن بحر المعاطف والتظاهر بالعته وإيقاع رف كامل من الكتب لأننا هكذا وجدنا نسخة نادرة من آنا كارينينا في ديسمبر الماضي. باستخدام هذه الطريقة، لا ننجح فقط في تكوين مكتبة من الاكتشافات الرائعة، بل، وذلك بالطبع الشئ الأهم، نعزّز احتفاظنا بحقنا الأصيل في الوقوع غير المبرر، تكراريًا، في برميل التفاهة الرائع لما يمليه الحدس.

٣

تعلن المدن ، في مناسبة وفي غير مناسبة، صلاحيتها للمُحاولات الثانية والرجوع إلى حيث يريد الكل أن يلعبها من الأول، إنها تضع أمامنا، حينًا في فجاجة وحينًا في وداعة، الاحتمالية الجميلة للضياع في أضيق حيز والتي تُناسب – أقل بنمرة أو أكبر بنمرة في المقاس – الهاربين من الخطوات خلفهم في أحذية خاطئة، مع خصم محترم ولأنك قاطنها المفضل تخبرك المدينة أن عشاء حب البارحة سيتكرر مرة أخرى مع شخص آخر تحت انفلات أضوائها الأمني.
بالطبع لا توجد ضمانات على هذه الوعود غير ما يعرفه القرويون عن القرى بحكم التجربة، بيد أن أي قرية لا تحتمل أكثر من قصة حُب واحدة للشخص نفسه، إن الحمقى هناك لا يدركون أنهم يغامرون ويشترون تذاكر أتوبيس الرحيل مع دواوين الغزل.

٤

يفخر أبي بأنه يستطيع أن يرسم خريطة دقيقة لبنها باستخدام المطاعم فقط. فباتباع تعليماته التي تكون مصحوبة بريڤيوهات قصيرة ولاذعة غالبًا، يمكنك أن تنزلق من أشدّ أركان المدينة برجوازية و ميوعة إلى أكثر المناطق المعتمة صخبًا، من الدفء في شارع الشبان المسلمين إلى الهيتشكوكية في شارع عبدالسلام عارف ومن الطواف ضدّ كل ما تخطّى العشرين في الميدان جوار النهر إلى الجانب المظلم للقمر في كفر الجزار، بهذا لا ينجح أبي فقط في اثبات أن الطريق إلى قلب الرجل لا يزال عبر معدته، بل أيضًا يشير بخجل إلى الطريقة البدائية التي يستكشف بها الفرد مدينة جديدة، ففي الوقت الذي يكون فيه الفرد ضائعًا في لذّة استقبال الغريب، مفتونًا بالحركة والعنف في الإيقاع ومغمورًا بمزيج باهر من الروائح والأصوات والألوان، غير قادر تحت ثقل الانطباع على الاكتفاء وبالقطع عاجزًا عن أخذ ملاحظات قيّمة عن جغرافية المكان، تكون معدته على الناحية الأخرى في حالة استعداد وترقّب، فبينما كل شئ جالس في مدرّجات الدرجة الثالثة، تكون المعدة على العشب داخل الملعب، جاهزة للتعامل بطريقة مباشرة ومستعدة لدفس ذكريات عن تجارب مُقبلة سيئة في مطاعم متوسطة وعربات أكل مشكوك في أمرها على النواصي.
فعبر شوارع ذات اتجاهين من المشي بحثًا عن أفضل مكان يصنع كعك الجبن بالكراميل والمشي للتخلص من الجريمة التي ارتكبناها في حقها، تقوم المعدة، بكرم كبير وتضحية بريئة، بتثبيت نقطة مرجعية وراء نقطة مرجعية في عقولنا مانحةً إيانا مصروف يد يمكن استخدامه حتى لا نضيع في المدينة عندما تنتهي، عاجلًا أم آجلًا، كل تلك الفتنة.

٥

يخبرنا نجيب محفوظ أنه من غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه. لوهلة يبدو الأمر منطقيًا بحجم كف اليد ومستساغًا يمكن تقديمه بدل البسكويت مع الشاي، حركة شطرنج واحدة لتخطِّي الجلبة التي أحدثتها بيادقنا في الخلف، إغلاق باب خشبي في حذر على الأفيال البيضاء في الحُجرة وانتقال متأخر قليلًا من بيت العائلة إلى ما يطلقُ عليه ستيڤنسن: الحياة البهيجة.
هكذا، بشكل قاطع كما يتطلب المشاهد الشغوف بالبدايات الجديدة، تُمحى الآثار التي رسمت بالطبشور في أمتارنا الماضية وتصير الخفة، تلك القحبة اللعوب، في متناول اليد. لكنّه السهل دائمًا ما يثير الشكوك، من هنا يبدأ السؤال صغيرًا على سجادة غرفة المعيشة إلى أن يصبح عملاقًا يلتهم لافتات الإعلانات في الشارع وأتوبيسات النقل العام: كيف يمكن لفعل يحمل قدرًا عظيمًا من التطهر أن يكون على هذه الدرجة من السهولة؟
مرةً قال لنا أستاذ اللغة العربية في الثانوية العامة أن نجيب محفوظ ابن مرقعة قديم وعربيد من الدرجة الأولى وأن قراءته تتطلب بستانًا من الظنون السيئة والارتياب في رأس القارئ الذي عليه أن يتوقع رقصًا مُتقنًا على الدَرَج ونوعًا من الخداع في كل منعطف، مالم يخبرنا به نجيب محفوظ أنه علينا أولًا أن نصنع سلامًا مع الليل قبل أن نرحل مع أشعة الشمس، أن نمسك بملقاط ما ندى عنا من حرارة في الأثير وأن ندور على الأبواب نمسح بصماتنا التي أودعناها بحسن نية أكّفَ الآخرين.
أولئك الذين يفعلون عكس ذلك، مَن يخرجون إلى الكشك على ناصية الشارع لشراء علبة سجائر ولا يعودون أبدًا مُقدرٌ لهم أن يجدوا ما هربوا منه في حقيبة ظهرهم. بهذا تتحول الوجوه الغريبة التي كانت تَعِدُ بالحياة البهيجة في المدينة الجديدة إلى وجوه مألوفة بشكل غريب، هكذا يدرك المرء أن الباريستا التي ابتسمت له منذ دقائق تحمل وجه الفتاة التي كسر قلبها في السابعة عشرة وأن الولد الذي يلعبُ الكرة أمام العمارة يتحرك كالطفل الذي اعتاد أن يتنمّر عليه في المدرسة الإعدادية، وحين يكون في طابور الدفع في محل البقالة، مُمسكًا بعلبة شوفان وبيبسي دايت، أمامه رجل يصرخ في ابنه، يجد نفسه مدفوعًا أن يسأل: بابا، انت إيه اللي جابك هنا؟ 


هذا النصّ هو االثاني من سلسلة تضمّ ٧ نصوص ننشرها كل يوم

صورة الشريط © حيدر ديوه چي