كما لو أنها الفرصة الأخيرة

١

عيناي معلّقتان بالنافذة، كل شئ مغبشٌ، النظارةُ على جانب الوسادة، أو ربما وقعت، بدت لي محتويات الغرفة ككائنات ساكنة، عدا المروحة تقلبُ الهواء المحبوس بين الجدران؛ كانت صاخبةً، كأنها تتنفس، أو كأنّي بدأت بالتهيؤ. عندما أسمعُ صوتها، مغمضًا عينيّ، أشعر وكأني عدت إلى المطار، بعيدًا عن كل شئ، محاولًا الإقلاع نحو مكانٍ ما لم اختره. وسرعان ما أخشى أن أغمض عيني أكثر. أبقى محدقًا في الفراغ.
في هذه المرحلة، تتراءى الأشياء لعينيّ ممتدةً وبها عقبات، كجُمَلٍ ثقيلة، كأني أمضغها بعيني لوقتٍ طويل قبل أن أميّز شكلها. أتمكن من تمييز الفجر، الخيط الأبيضُ متسللًا، بهدوءٍ يصبغُ المدى الضيّق، المحاصر بإطار النافذة، كأنها صورة متحركة، وكأنهُ إعلان لنهاية الفرص. 

٢

يذوبُ النُعاس من بين عيني كقطعةِ ثلج، وكلما حركتها أكثر كلما فقدتها أسرع، الآن أنا مستلقٍ على جنبي الأيمن، بعدما جربت جنبي الأيسر، وظهري، وبطني، وربما بعد قليل سأحاول النوم واقفًا. للنوم اشتراطات ومسائل معقدة، ليتها تحلُ بكبس رؤوسنا على الوسادة. حتى ولو افترضنا أن هذه الوسادةَ صدرٌ حنون، أو كرسي تدليك، هناك دائمًا ما هو ناقص. فرصةُ النوم تكمن في مكان ما، وعليّ فقط أن أمسك بها.
للموسيقى دور، لا في جلب النوم أو في صرفه، بل في تزجية الوقت، هكذا اكتشفت، كانت أذناي قد شربت ما يقربُ الأربع ساعات، قائمة التشغيل تفخر بأنها «بيانو الأحلام»، أكاد أن أبكي. هناك ما يخطو على أعصابي، يشدّها، وكأنها على وشك أن تتمزق. شئ خفي، دقاتُ دبوس، أو نداءٌ يحكُ تحت الجلد، ترهقني الاستجابة له. أحدّقُ في اللا شئ، فأرى ما يراه عقلي. الوقت يمضي على حالتي، ينسابُ بلا وعي أو تفاهم.
فقط عندما اعتدل، أشعر أني خسرتُ النوم، والآن أنا أتمشى في الغرفة.

٣

ما إن يتنفس الصُبح حتى أشعر أنّي بالفعل أبعَد عن النوم، عندها أتوقف عن المحاولة، أتجاهل الفشلَ السابق، وحتى يتبيّن لي ما قد يكون، يكون كوبُ القهوة ماثلًا بجانبي، تتصاعد منه أبخرة، ساكنٌ ككل شئ في الغرفة، ومُساء الإستخدام في حينه. 
في الغرفة طاولة بها كل ما يَلزم: سُكّر وشاي وقهوة وينسون وبابونج وزعتر. أحضّر الفنجان، أشربُ قهوتي بالذنب.
عندما تبدأُ الشمس بمدّ أذرعها إلى منتصف الغرفة، أكون إما حلمًا على هيئة شخص، أو جسدًا ملتصقًا بالبلاط، بلاط الغرفة بارد والحرارة بدأت بالازدياد، أستلقي عليه متخفّفًا من ملابسي، أتمتعُ بالتمدّد عليه حتى يصل الضوء وتبدأ موجات الحر بالعبث في كل عوامل الراحة بما فيها التنفس. الوقت يمضي، ما كان قريبًا أصبح الآن مجرد فكرة، بخار ماء، ولا أعني أني مستيقظ، أنا فقط عاجز. ولهذا أقول.
أستبدل خرس الصوت بموسيقى تنطق، تُشاركني يقظةَ المكان من نعاسه، أحبُ وردة، ولذلك أشغلُ وردة. أتذكر المرات القليلة التي زرت فيها القاهرة، كانت معي في المترو، كانت الذكرى إرهاقًا مماثلًا لهذا الأرق، ولكنها قصة أخرى. 
الضوء يستلقي على المكتب، على الأوراق التي لم تكتمل، خربشاتٌ ما إن أمسك بتلابيبها حتى أسارع ببعثها حيةً على لابتوبي أو هاتفي إن أمعنتُ في الكسل. كتب ودواوين شعر متفرقة، بسام حجار، صلاح عبد الصبور، درويش، ستيفن كينج، هامسون! آتراهم يلتقون في حياةٍ أخرى؟
تنطقُ وردة «طبعًا أحباب، طبعًا أحباب، والحب سؤال ومالوش جواب.» أنا في عرضك يا شيخة، طفحان أسئلة والله!

٤

على وجهي أهيم في أروقة المنزل، طابِقَين من الخمول والعتمة الساكنة في الزاويا. مررتُ على جميع الغرف في طريقي إلى الحمّام، الكل مشغولٌ في أحلامه، من توقف عن الحلم، بدأ بالتدليل على عمق نومه بالشخير. عدا أمي، يقِظةً دائمًا، عينٌ في الحلم وأخرى في المنزل. عندما عُدت أمسكتُ بمقبض الباب، وردة ما زالت بالداخل، نظرتُ إلى أمي، غرفتها تقابل غرفتي، لكنني لم ألحظ نشاطها إلا وأنا عائد إلى الغرفة. كانت معتدلةً، تستندُ إلى الحائط، ممددةً ساقيها على السرير تقرأُ القرآن. 
كانت يداي على مقبضِ الباب، ترددتُ في فتح غرفتي حتى لا تخرج وردة، نظرتُ إلى أمي، أغواني حديثٌ ما، أشحتُ بنظري عنها وسرعان ما تخيّلت الحديث، لن أسلم من اللوم بأي حال، وربما سأنتهي قائلًا «ماما، أنا شكلي كده نعست خلاص وهنام» أنا من هربٍ إلى هرب وهي تتسلح بأدعية الهداية. 

٥

تنتهي المأساةُ عندما أفقد كل شئ، أتذكرُ فقط ما يتبقى لي منها عندما أستيقظ، وفي العادة لا أفرق ما بين أحلامي وما يحدث لي قبل النوم. لأحلامي النادرة طبيعةٌ مختلفة، أذكر منها أن فوكو في مرةٍ كان يُقنع صديقًا لي بضرورة الزواج المبكر، ولا أعلم لماذا، فوكو بصلعته، يرطن بالفرنسية مع صديقي وينتظر الإجابة وصديقي يرد بـ «معاك حق والله». قبل اكتمال اليقظة يصير كل شئ مموجٌ وعشوائيّ. في مرة أخرى ناقشني صديقي الذي لا يقرأ سوى بوستات الفيس بوك التي عن مشاكل العائلات الأسرية – المطلقات خصوصًا – أن ماركس أفضل من صديقته السابقة، «الإكس بتاعتي» كما قال. أو ربما العكس. في محاولاتي للنوم أجتهدُ في تكوين عتمةٍ إضافية، أحيط وجهي بالوسائد، أو بلحافي الأحمر، لكن سرعان ما يتنبهُ جسدي بيولوجيًا أن الجو صيف، وأن المروحة بالكاد تبثُ الحياة في الهواء الساكن، لا تبرده ولا ترسله نحو جسدي، فقط تحركه كيفما اتفق، ربما – ولموقع السرير دور – تحصل الأريكة في منتصف الغرفة على ما أرغبُ من حصةٍ في الهواء. أرغب في النوم أكثرَ من أي شئ. لذلك أنهضُ نحوها،أسمع حركة في الخارج، عليّ أن أجد الهواء لأنام. أستلقي على امتدادها، ضيقةُ المساحة، لكنها واسعةٌ بالهواء. أتنفسُ كما لو أن رئتيّ سيارةٌ جديدة، شهيق حتى الإمتلاء، زفير حتى الإنكماش، مجرّبًا أقصى ما يمكن، محاولًا بأسلس ما يمكن. تقترب الخطوات، أغمض عيني وأبدأ بالتخلي عن كل شئ. الآن أنعسُ، الآن أنام. أخيرًا. كما لو أنها الفرصة الأخيرة. 


صورة الشريط © حيدر ديوه چي