مواء قطة

  لم تكن ميتتها الأولى.
ثملت في تلك الليلة كما لم تثمل من قبل. سكرت حتى غاب عنها الوجد، وغرقت في ظلمة حائرة، وهاجت الأفكار من رأسها الثقيل، وارتعشت أهدابها وطافت بها الذكريات.
تلمست وجهه في انعكاس ضوء الشمعة عليه، لاح لها كما يلوح طائر في الأفق، يفرد جناحيه، ويذهب بعيداً ويختفي مع بزوغ الشمس كل فجر.
تفيق من نومها ملهوفة عليه، تزيح الستارة السُكرية من على الشباك، وتمد يدها لتنبش في جسدها عن جروح لحقت بها، لا تعثر سوى على قلب مُتعفن، فتتوغل فيه، تنفض الرماد عن قميصها الكتان الكُحلى، فتمتلئ أنفها برائحة الدخان.
تمشي على أطراف أصابعها بوهن إلى المطبخ، ترى الأطباق المُتسخة في حوض الغسيل، كوم من الأوساخ المُتراكمة، تجعلها تشعر بالاختناق. تتقدم نحو آلة صُنع القهوة، تصنع لنفسها كوباً كبيراً منها، وتُضيف إليه حليباً ساخناً، وتتحامل على جسدها المُتعب وتعد سبعة عشرة خطوة حتى تصل إلى الشُرفة مُمسكة بكوب القهوة في يد وفي الأخرى سيجارة بالنعناع، اعتادت أن تُخبأها في ملابسها الداخلية. في الشُرفة، يلفعها الهواء، والنسمات الآتية من شجرة اللبخ، تجلس على كُرسي فوتيه مُتهالك بترولي اللون، تضع السيجارة بين شفتيها، تسحب نفساً عميقاً وتنفثه بتروي، تشرب القهوة وهي ترى سحابة رُمادية أمام فمهما، تتخيلها على هيئة تمثال لامرأة عارية بلا ذراعين، يُقبلها عُمر الشريف، فتبتسم لتخيلاتها على الصُبح. تشعر ببرودة، فتُشعل سيجارة أخرى تاركة طعم النيكوتين يتسرب إلى خلاياها، ويملأ صدرها المُتعب. تستعذب نبضات قلبها السريعة كطلبة تدق، والسخونة التي تعتريها.


تموء قطة في الشارع، يخترق الصوت طبلة أُذنيها، فتُلقي بالسيجارة المُشتعلة على جسم القطة السوداء الواقفة أسفل شُرفتها، وتقف لتراقب القطة التي تموء بلا انقطاع كعزف خارج على النوتة الموسيقية. تبتسم، وتضع رجلها أسفلها، وتجلس مكانها، مُشخصة بصرها إلى القطة، وتُفكر أن تنزل لتسممها، لكن يقطع تفكيرها البلغم الذي تدفق من جوفها، ورائحة غثيان قوية، فتغمض عينيها، وتذرف دمعة مالحة على خدها، تلتقط الوشاح من على المنضدة الخشبية، وتضعه بغير تريث على كتفيها وتبكي بحُرقة وبصوت مبحوح.  يقطع بُكائها صوت عبد الوهاب القادم من بيت الجيران وهو يغني “لا مش أنا اللي أبكي”، فتتدفق الدموع من عينيها ولا تتذكر عم تبكي.
تغيب داخل عقلها، تسرح في كلمات الأغنية، تلتقط الكلمات من الهواء، تتلوها، تتمتم، ترى طفلاً رضيعاً لم يتجاوز الشهرين بعدْ، تقربه أمها من صدرها، تضع حلمتها في فمه، فيصرخ ويتأوه ويشيح بوجهه عنها فتبدأ الأم المسكينة في اللطم على خدها، وهي تبعد طفلها عنها بحذر، مُتمنية أن ترميه أرضاً، أو أن تصفع وجهه الصغير، لكنها تُمرر بأصبعها على وجنتيه الناعمتين وتٌقبلهما في وهن.


في الليل، تجلس الأم المسكينة في شُرفتها، وتجرب الكتابة على اللابتوب، تمد أصابعها إلى لوحة المفاتيح، فتظهر في الظُلمة الأظافر الملونة بطلاء أحمر زاهِ، فتبدو كأنها إشارة مرور، تكتب كلمتين، جملتين، فقرتين إلى أن نخر الألم في عظامها، واستقر وجعاً رهيباً في عمودها الفقري وتجمد صدرها الجاف، وتيبس اللبن فيهما.
كل شيء حولها جعلها تشعر بأنها وقعت في فُقاعة، محبوسة، هي والألم، لكنها تغالبت عليه وكتبت قصة قصيرة لتراوغ الألم، عن سيدة مُسنة، تستأجر رجلاً بعد وفاة زوجها، باستخدام تطبيق على هاتفها المحمول، يأتي إليها لتمارس الحُب معه في غرفة في فندق فخم ليعرفها على مُتع وملذات عاشت طول حياتها غير مُدركة وجودها. يفعلا ذلك بعد أن يقضيا وقتاً تحكي له فيه عن مشاعرها الدفينة، وقصصاً قديمة ثم تبكي بين ذراعيه، فيلثم شفتيها بقُبلاته الساحرة ليأخذها إلى عالمه هو. ينتهي من عمله ويحصل على الأجر، هكذا بمُنتهى البساطة.


أطفأت الأم الجهاز، وعادت إلى حجرتها، ونظرت بتمعن إلى جسم ابنها الضئيل، رأت عنكبوتاً يزحف على منامته الوردية ويلف خيوطاً حول أصابعه الدقيقة الناعمة، هالها ما رأته، صرخت حتى بَح صوتها فهرب منها العنكبوت واختفى في لمح البصر. هرعت إلى السرير، وضمت ابنها إليها، ونامت في تلك الليلة وهي تشعر بأنفاسه الدافئة على وجهها.
في الصباح، أفاقت على وقع مواء القطة مرة أخرى، أغمضت عينيها وشعرت بالحُمى، فرأت الطفل بين يدي أمه وهي تمسح بمنديل مُبلل على وجهه بهدوء لكن الطفل لا يتوقف عن البُكاء. تركته في السرير وأتت بسكين من المطبخ، وشقت به بطن الطفل الرقيقة إلى نصفين كما تشق البطيخة تماماً. تدفقت الدماء، سالت على المفرش، الخشب، الأرض. مدت يدها ولمست الدم بأصابعها الطويلة ثم وضعتها على شفتها السُفلى ومررت بلسانها الرطب عليها وبكت. صوت القطة يزداد صخباً، ورأس الأم يوشك على الانفجار، وجلدها يغلي. ترى الابن الميت بجوار أمه، فتبدو الألوان شديدة الضبابية، يغيب وجه الطفل، تخلع الأم ملابسها لتمسح الدم من الزوايا ثم تقف عارية في الغرفة، تسمع أنين الابن، تبحث عنه، فلا تجد غير الدم في كفوفها.
تستغيث القطة التي بلا اسم بالمارة بحثاً عن فُتات طعام في الشارع، فتعثر على أعقاب السجائر، وتستغيث السيدة المسكينة فتصرخ، فيرتد إليها صدى صوتها الخائر القوى، مُنكسراً وضعيفاً.
تصنع لنفسها كوب قهوة بلا سُكر، وتجلس في شُرفتها، مُنكبة على نفسها لتكتب حلم الليلة الماضية، أو ربما هي ذكرى قديمة قد حدثت لها بالفعل. فالأحداث عندها تتداخل لتصنع حياة مُربكة ومُتداخلة. في أعلى ذراعها اليُسرى ينفصل الجلد عن اللحم في شكل مُستطيل تماماً، ينفتح ناحية اليمين كأنه باب يكشف عن عالم آخر، فترى حبوباً كأنها عناقيد عنب مُجففة، أو زبيب أحمر اللون بلا بهرجة. فتفتح الباب الذي نُقش بمهارة نحات بارع على جسدها، فتتسع حدقة عينيها، وتمتلئ رُعباً، ويُخال إليها أنها تنظر إلى جسد شخص غيرها. تمد يدها اليُمنى في فزعٍ لتلتقط الحبوب التي نبتت في لحمها، فتشعر بالجذور المُتشابكة أعمق مما تتخيل، فتتألم، وتتجمد أصابعها، وتستجدي العون من اللّه ثم تتذكر أنها لم تعد تؤمن به مُنذ أن تخلى عنها وتركها وحيدة مع رضيعها.
تزداد حدقة عينيها اتساعاً فترى الرجل الذي تزوجته جلياً، تشعر به يجلس بُقربها ويلمس يدها ويُدنيها من شفتيه ليطبع قبلة على باطن الكف بمحبة وسخط على حال زوجته التي ضاعت منه. يحكي لها ذكرى اللقاء الأول بينهما لعله يُنعش ذاكرتها التالفة. في مدينة قاسية باردة التقى الحبيبان على غير موعد كما تلتقي أمواج البحر بالشاطئ فتُحدث ارتطاماً.  صمت فتلك حكاية طواها الزمن ووأدها الحنين الدائم إليها. نامت على رجله، وغابت عن الإدراك، أسند رأسه إلى الأريكة وبدأ يُمسد لها شعرها في هوادة حتى لا يُزعجها. اطفق ينظر إلى شاشة التليفزيون ويُقلب في القنوات ليشغل عقله عن الأصوات في ذهنه. شاهد أجزاءاً من فيلم تفقد فيه بطلته الجميلة الذاكرة فيظل حبيبها يُذكرها كل يوم بنفسه، فتقع في حبه من جديد. تدفقت الدموع في سهو منه وبدأ يحك عينيه المُتعبة برسغه. أفاقت الزوجة النائمة، ابتسمت ثم ذهبت مع المغادرين إلى عوالم خفية. أشعل الزوج الحائر شمعة برائحة الخشب الأبيض، أو ربما كانت تلك رائحة زوجته، لا يعرف. جلس يُمعن النظر في الجسد النائم بُقربه، الغائب الحاضر، الهامد، الثائر في فتوره، الراغب في صمته، الساكنْ في فورته، الجسد الذي فتنه ورغب فيه من اليوم الأول. يُفكر فيها فيستمع إلى معزوفة الرمال، فيقطع اندماجه صوت القطة التي تموء في المطبخ، فيتحرك بهدوء ويذهب لكي يطعمها والغضب يكبر بداخله تجاه زوجته التي تكره وجود القطة في البيت، ولا تناديها بأي اسم أبداً. يخاف على القطة أحياناً من أن تُنفذ زوجته وعدها وتطردها من البيت فعلاً، ويتناسى حقيقة أنها قتلت عشرة قطط من قبل، ترمي لهم السم، وتجلس في شُرفتها تشرب القهوة.


تتساقط زخات المطر فوق رأس الزوجة المسكينة، فيزداد الطنين في أذنيها، تلتحف بالمعطف البنفسجي وتجري إلى الشارع. تسير في أرجاء البيت. تحوم في الحديقة المهجورة، تنغرس قدميها في التربة المُبتلة، تمشي بمشقة. تتقدم خطوة وترجع خطوة. تمسك برأسها، تضعه أمامها، ثم تُمسك بالمسامير وتبدأ في غرسها فيه. تنزف، تمشي، تتوقف، يدور العالم في فلكه بينما تموت هي في عالمها.


ماتت بصورة مُبتكرة، وأكثر حُزناً هذه المرة، واستيقظت في الصباح التالي كأن شيئاً لم يكنْ. بدأت في ممارسة حياتها العادية بهدوء وحفاوة. رجعت للتماهي مع الحياة كما ينسجم اللبن في كوب الشاي الساخن. ارتدت فُستاناً أسود اللون، رسمت عينيها بالكُحل، صبغت شفتيها بالأحمر القاني. أدارت موسيقى “عزيزة”، دبت الروح في جسدها المُسجى بالدماء، تحركت بنعومة ورشاقة، شعرت بكل خلية في جسدها وهي تنبض، وتعود للحياة.
أرسلت إلى زوجها رسالة عبر الواتساب تخبره فيها بألا يتأخر على موعد الغذاء مع قلوب حمراء، ووعدته بأنه سيكون شهياً كما يحب. دخلت إلى المطبخ، فاستقبلها ضوء الشمس بحنو ورفق. أخرجت قطع الدجاج من المُجمد، تركتها تتفكك لتصبح مُستعدة للتوابل. خل بلسيمك، ملح، فلفل أسود، بودرة بصل، بودرة ثوم، زيت زيتون. تتركها بعد ذلك في التتبيلة لمدة ساعتين. في تلك الأثناء، نزلت إلى الحديقة، وبدأت في نبش التربة بأصابعها الطويلة، مُيممة وجهها في كل اتجاه، ثم ألقت بالابن الرضيع الذي بلا اسم، جُثة هامدة في حفرة ضيقة، والدموع تنسكب من مُقلتيها. هالت عليها التُراب. عاد المطر للتساقط فوق رأسها، والطنين للنخر عميقاً في داخلها، والجوع راودها. فتذكرت الدجاج المُتبل، أزاحت التراب عنها وعادت إلى المطبخ.


بينما تصطك أسنانها من البرد والخوف، يجلس الزوج على طرف السرير وتقف الزوجة حافية القدمين على الأرضية الباردة، مُرسلة عينيها إلى ضوء القمر المنير في السماء الشاسعة وانعكاسه على زجاج النافذة.  تضع السيجارة بين شفتيها، وتمتصها بتلذذ. تموء القطة السوداء، فتضغط بغضب على السيجارة حتى تشعر بطعم النيكوتين في فمها؛ وتأخذ نفساً عميقاً يملأ صدرها، فتشعر بخدر بسيط في روحها، وانتشاء. تقترب من زوجها، تعانقه ثم تخلع عنه قميصه الأسود وتجلس على السرير خلف ظهره. تمد ذراعيها، وتغمض عينيها، وتلتحم بجسده، انغمس بدوره في الدفء المُنبعث من خلاياها، بينما هي ترسم على الظهر المشدود، وبالتوازي مع العمود الفقري، ثُعباناً، يتلوى، ويبكي، وهو يبخ سُمهِ في فريسته بينما تزداد النار توهجاً واشتعالاً والقلب في الدق حتى يكاد ينخلع من مكانه. سال الدم الثخين على ظهره، فأبتسمت، ولعقت القطرات بلسانها، ثم قربت وجهها من وجهه وقبلت شفتيه المُرتعشتين.


فتحت عينيها، خرجت إلى الشُرفة، أحاطتها النجوم في تلك الليلة كأنها تحضنها. شردت، رأت الأم السكينة تقف على سور البلكونة، قالت لها تعالي إليّ، أو ربما لم تقل. مدت يدها إليها، أمسكت بكفها الأملس كغيمة. أحكمت القبض على الأصابع، اتوغوشت الرؤية، وارتجف الجسد. تراءى لها الابن الميت مُدثراً بلحاف أخضر، نائماً بينما الأعين مصوبة في اتجاه السماء. رأت العنب وهو ينبت من جوفه كما يخرج من جوف الأرض، فغرقت في حزن يثقل جسمها، ويجذبه إلى أسفل، فيختل توازنها، وتسقط من شُرفتها، فتصطدم رأسها بالأرض مُحدثة دوياً صاخباً فتنزعج القطة السوداء التي بلا اسم وتموء في سُخرية.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي