غفرة

١

هناك بيننا من يعبرون الحياة، من أولها لآخرها، بقناعات لا يخدشها الاختبار. آمنة هي معتقداتهم، لا يهم كبيرة أم صغيرة، لا يبعجها الاحتكاك ولا يطرأ عليها الصدأ، محفوظة في بئر عميق حتى هم، أعتقد، لا يعرفون مكانه. أكذب لو قلت لا أحسدهم. ذلك السلام، وإن كان فقط صورة رسمها عقلي. تلك الوداعة، وإن عرّفتها كثرة الانهيارات من حولي. الأفكار التي لم تنقصم في خيالهم لكن حدث وانفتت بين أيدينا. الانتصارات التي جعجعت بها الميكروفونات والهزيمة التي نبتت تباعا في سقوف الحلق. آه، كم أحسدهم؛ الناس في المساجد والكنائس، الأجساد في ردهات الشركات المكيفة، الوجوه السعيدة في التليفزيون وقت الظهر، أبي المنتسب إلى نقابة، صاحبي من تسعة لخمسة المؤمن بالسعادة العائلية، كل نور عمرو دياب وكل أحمد عبدالمعطي حجازي، وبالطبع، وقبلهم جميعا، أستاذ اللغة العربية في ثانوي، أخبرنا أن كل شيء في هذا العالم يبدأ وينتهي في كتاب.
تفاجأنا. تقول إيه يا أستاذ؟ الكتاب الذي حمله في يده لم يكن القرآن أو الإنجيل. لم يكن كتاب الدين أو النحو أو التربية الوطنية. هذا كلام كبير، أنت متأكد؟ نقر بظفره على غلاف المعجم الذي تسلمناه من فترة وجيزة. قال أتكلم جد، كل ما حدث أو يحدث أو سيحدث، موجود هنا، أليست كل الكلمات هنا؟ أفقنا من غيبوبة الحصص الأخيرة ونظرنا لبعض. والعالم إيه غير كلمات تخرج من هنا وتتشكل؟
لم نعرف كيف نجاوب. سألناه لكن هناك أشياء لا تعبر عنها الكلمات، حاجات تتحس وماتتقلش، بحسب الأستاذة نانسي عجرم؟ قال لا يهم، إن لم يعرف الواحد الكلمة فذلك لا يعني أنها ليست موجودة، بكرة يكبر ويعرفها.
قلنا ماشي لكن هناك كلمات نقولها ولا توجد في المعجم، نقصد نقول كلمات بالنسبة للمعجم غلط يعني، لمّا الحصة تخلص ونمشي هنتكلمها، لمّا نروّح البيت هنتكلمها، حتى انت يا أستاذ بتقول الكلمات دي، كلمات لو فتحنا مش هنلاقيها، ومع ذلك تبدأ وتنتهي أحداث منها في العالم.
ضحك. انحنى على الديسك وقال العالم اللي بتشيده الكلمات دي ببساطة غير موجود، وكل إللي مش موجود هنا، نقر على الكتاب مرة أخرى، مش موجود في العالم.
خلص الكلام. انتهت الحصة. أولئك الذين بحثوا سابقا عن الكلمات المحرمة ولم يجدوها تبادلوا النظرات في فزع.

٢

في البدء، كي لا نضحك على بعض، كانت الكلمة. وكانت الكلمة غلط. أقصد غفرة. غفرة غلط. لكننا لم ننتبه. وإذ انتبهنا كان الوقت متأخر.
لو فتحنا المعجم الوجيز، كناقد يبحث عن عمق في عنوان كتاب، باب الغين فصل الفاء مع الراء، لن نجدها. لكن لو استمرأنا الغلط وتسكعنا قليلا في الصفحة، نلاحظ، مع متابعتنا للقراءة، كيف تشير الكلمات الموجودة بفداحة إلى الكلمة المفقودة. هناك (غفر) بمعنى ستر وخبأ، وبجانبها (غطّى) للتأكيد، (أغلس القوم): دخلوا في ظلمة الليل، و (أسود غطيس): بالغ السواد، هكذا توجد (غطّ) بمعنى ينام، وأيضا (غفا) و(غفوة). (غفر) تعني أيضا عفا، لكن، كما نعرف كلنا، العفو الإلهي لا يأتي وحده عادة؛ (غلب) فلان على الشيء يعني أخذه منه كرها، و(تغلّب) – طبقا للمثال المذكور – على بلد كذا: استولى عليه قهرا. من جهة أخرى، يظهر تدريجيا التواطؤ في (غفل)، (أغفل)، (تغافل) و(استغفل)، الأخيرة من الأهمية بمكان لأنه ثمة (غفير) كما في الجمع الغفير وترب الغفير، و(الأغلب) بمعنى الكثرة، أي الأغلبية، الأغلبية المطلقة حرفيا، والمثال المذكور: الانتخابات والاقتراع. هذا يرجعنا إلى (غُفْل)، أي ما لا علامة فيه ولا أثر يميزه، مادة لم تصنع. مادة خام. وكل هذا دون أن نغادر الصفحة، دون أن نذكر تنويعات مثل (غرف) – بكل معانيها الممكنة، (رغف)، (فغر)، و(فرغ). تتبقى فقط الكلمة التي نبحث عنها. أين هي؟
كنّا عيال صغار لا نحسن النطق. نركب على الأحاديث ونقلب الحروف في أغانينا. سحبنا الليل وطلحنا الفجر، ومَن لم يقدر منّا على الشخر لجأ إلى الغرغرة. راكمنا سوء الفهم حبا في المغامرة، فاستغرقنا الكثير حتى انتبهنا، وإذ انتبهنا كان الوقت متأخر.
لو فتحنا المعجم الوجيز، باب الخاء فصل الفاء مع الراء، ربما اقتربنا خطوة. (خفر): أجار وحما، فهو خافر وخفير. يعني قريب من المعنى المطروح، لكن، في الوقت نفسه بعيد، يسحب الكاريزما عن الكلمة، مُرسخا الفكرة التي تقول أن اقتراحا متعلقا بالشيء أفضل منه وقد تحقق. لندع مطابقته للحقيقة جانبا، الصراحة تُقال، دون الأصابع المرفوعة والمقطوعة، والتي عثرنا عليها بطريق الغلط في صفحة سابقة، يبدو الوصول شاحبا، حتى الكلمات المحيطة بالأصل كانت بلا فائدة أو دلالة، بما أن الأصل موجود هناك أصلا.
ماذا إذن يتبقى غير نوع من الأسئلة التي، بمجرد الانتهاء من طرحها، بطريقة مؤدبة لكن ساخرة في الأغلب، نجدها تجاوب عن نفسها؟ ما الاسباب التي أدت إلى انقلاب الخاء إلى غين؟ لِم نقول غفر في البرية والحضر ونقول خفر في السواحل؟ كذلك (خفر) العهد: وفى به لكن (أخفر): نقض عهده وغدر به، وفي الآن نفسه، أرسل معه خفيرا. ماذا يعني كل هذا؟
عند هذه النقطة، عادة، تكون الغفرة قد جاءت لتعرف نفسها.

٣

– أيوه، سمعت الكلمة لكن تقصدوا إيه؟ قال واحد ولعله كان أنا.
كنّا وصلنا إلى مكان خارج القرية، يمتلكه أحد الأصحاب ويقع وسط الحقول. أولئك الذين غادروا إلى المدن يسمونه الكوخ بينما من تبقّى وراء المواصلات يقول الأرض. هناك كنا نشاهد منظرا لا يتغير من نافذة نهايات الأسبوع؛ تقليد حافظنا عليه كبالغين، لا يبغي استكمال البناء أو إضافة جديد إنما إمساك لمحة من حياة مضت. نجحنا في هذا، وبمرور الليالي، استطعنا حتى أن نتظاهر ونضحك على كلمات قيلت آلالاف المرات: يا أصحاب، انظروا إلى طيور أبي قردان ساكنة على الشجر من المغرب، أخبروني متى ينيكون بعضهم. على هذا النحو كانت الأمور، نسترجع القصص نفسها ونعود بصدور ثقيلة إلى الجداول المعلنة والقماطات المبلولة.
تلك الليلة كان القمر على وشك الاكتمال، وفي الهواء نسمة غريبة أغرتنا بالمشي إلى وجهتنا. عبرنا القنطرة القديمة وتخطينا لافتة زرقاء قالت: مرحبا بكم في قرية (م…)، دعونا يا ولاد الوسخة نعيش عصورنا المظلمة في سلام. من آن لآخر، تكون حركة بين الحلفا بر أو في حقول الذرة، يقطع الطريق الخالي كلب بلدي أو حدأة تختفي سريعا بين الغاب. باقترابنا، تباعدت المصابيح السليمة في الأعمدة عن بعضها، ساءتنا خطواتنا و تعثرنا في ضفادع في كل النواحي. ما كل هذا الوسخ ومن أين أتى أولئك الملاعين كبار الحجم؟ اتضح الأمر إذ رأينا جرافة بلون البرتقال نائمة في قاع الترعة. كنّا نعرف أن الحكومة تريد تطهيرها؛ قطعوا شجر الكافور عن ضفتيها وتركوا الجذوع الميتة في شبابها تدخن لأيام. الغرابة كانت في رجال حول نار يشوون ذرة ويتضاحكون، من يكونون؟ تساءلنا، هل هم تبعهم، وإن كانوا، لماذا هم هنا في منتصف الليل ولا عمل تقريبا؟
لم أر وجوههم. لبسوا كابات قاتمة وظهرت تحت جلابيبهم بناطيل كاكي. قلنا سلام عليكم ونحن نتفادى الأحذية ذات الرقبة أمام الحصيرة التي جلسوا عليها. قالوا وعليكم السلام، اتفضلوا. وضعنا أيدينا على صدورنا وقلنا شكرا. أول ما وصلنا سألنا عنهم من سبقونا من أصحابنا. كانوا أشعلوا نارا وعملوا شايا، رشفوا منه وقالوا لا تقلقوا إنهم غفرة.
– سمعت هذه الكلمة من قبل، لكن لا أتذكر أين؟ قال واحد وأضفت أنا، تقصدوا إيه؟
شرح الحاضر للمتأخر أن الغفرة هنا لتحرس المعدّات، ألم تسمعوا عن أمثالهم في الصحراء؟ يكون هناك مشروع أو حاجة يطلع أنفار يقولون إن المشروع غفرتهم، يعني في حمايتهم، يفرضون أنفسهم ويتقاضون أجرا على هذا، لمّا بدأت الأشغال في الترعة جاء هؤلاء وقالوا إنهم غفرة على الليلة دي كلها يا باشا. مصلحة، يجلسون هنا بالليل هكذا. لا أحد يقدر يتكلم.
– هكذا ؟ لكن من يفكر في العبث بجرّافة في قعر الترعة؟ يحمونها من إيه؟
– الغفرة نفسها. لو قال الناس لهم لا، ثاني يوم تلاقي الدنيا اتخربت. والناس يتعلموا الدرس.
لم نكن في الصحراء لكن كنت رأيت شيئا مشابها. كانت القرية تعيش دون أبراج تقوية لشبكات المحمول. كلما توصلت إحدى الشركات لاتفاق على مكان، قام غاضبون، بتحريض من آخرين في الظل، بالتهديدات اللازمة لفظيا وجسديا لإجهاض الاتفاق. قالوا تجلب السرطان وأمراض كثيرة، لكن بعد زمن مناسب وعمولة مناسبة، رجعوا في رأيهم وصفقوا للبرج فوق مركز الشباب. لم أعرف شيئًا عن الرجل الذي نصّب نفسه حاميا للبرج حتى قرروا قطع المال عنه. زعق وشتم الجميع في الصالة الرياضية، قال أنه لن يذهب إلى مكان حتى يأخذ حقه. بالصدفة كنت في الشارع يوم أخرجوه، وجهه حليق ومدّمي، ينظر حوله ولا يفهم ما الذي يجري.
– الدنيا ماشية هكذا. شخلل علشان تعدّي. على العموم استريحوا.
نظفنا أحذيتنا وجلسنا أمام الكوخ. ظهورنا لامست الحيطان الخشنة ولعبت أيادينا في الحصى. كنّا لا نزال على قلق، يبين هذا في كلامنا وتطلعنا كل شوية إلى الطريق. النار عندنا خمدت، ولأن الأخشاب المتبقية كانت رطبة، فشلنا في إعادتها وعمل دور شاي جديد.  
– لا أستطيع تذكر أين سمعت هذه الكلمة، قال واحد واقترح آخر أن نذهب ونطلب أخشابا من الغفرة، كذلك نسألهم عن الذرة، مين أين أتوا به؛ الحقول كلها كانت قُلّعت. ضحكنا، وأخذنا ننشغل.
فجأة قلت فاكرين مدرس اللغة العربية من ثانوي؟
تعاقبت الحوادث بعد ذلك.

٤

كانوا خيالات غيلان جاءت من الجهات كلها، أشباح تمايلت في السَحر على أطراف الأقدام. أشرنا إليهم بأصابعنا ولمّا اقتربوا أكثر قام بعضنا ليفهموا منهم، أياديهم مفتوحة وابتساماتهم عريضة، سألوهم خير يا حضرات؟ لو كانوا لمحوا مثلنا العيون ضاقت أو التماع الأدوات في الأيادي، لو كانوا دققوا في الإيماءات الجامدة العازمة على شيء محدد والجلابيب المرفوعة داخل البناطيل، لو كانوا سمعوا صرخاتنا المحذرة، نحن البقية، لكانوا على الأقل تفادوا ضربة أو ضربتين.
أصابنا الشلل، رأينا المناقر الصغيرة ترتفع وتهوي على أنوف أصحابنا، الجواكيش تطحن أعضادهم وتقصف ركبهم، الفؤوس بظهورها تسوّي أبدانهم في الأرض والأحذية تفدغ وجوههم التي سقطت كالشمام على الدبش الأبيض. السوائل التي انفجرت كان لها صوت مرور الماء في الخراطيم، حطّت على الضفادع التي تقافزت جنونا، تحت الصمت الأبدي لطيور أبي قردان.
لم نصدّق، كانوا أصحابنا ووقعوا بسرعة.
قبضنا على الحصى وصفعنا خدودنا، صدرت عنّا زعقات مبحوحة بلا معنى. انتبهت الغفرة إلينا، قمنّا بالكاد على ركب سائبة وأذرع فقدت أعصابهم، حيوانات وليدة أسرعت إلى باب الكوخ. لحقونا، ضربونا فشتمناهم، ساحبين أنفسنا مسافة أبعد. قذفناهم بالحصى وركلناهم من على الأرض ونحن نأكل التراب. شخرنا فكانت غرغرة. أمسكنا الباب في حين لم نكن كلنا بالداخل بعد. تدافعت الغفرة وسحبت أقربنا إليها، دفعنا الباب بصعوبة وأغلقناه، طقطقت أصابع علقت في الإطار الحديدي، لم نعرف لمن بالضبط كانت.
تنفسنا وبكينا، سمعنا أصوات كما لو كان شيئًا يسحق بإيد هون، أنّات خفيضة كالتي يصدرها الرجال في الحلم. تبادلنا النظر. وعرفنا إننا صرنا غفرتهم.
الحركة في الخارج لم تهدأ. كان الكوخ حجرة مبنية بالطوب، خاضعة لعملية التصالح. ماكينة مياه ومكتب قديم، أدوات زراعة صدئة، شكائر فارغة وحزم بصل، كتب قديمة من أيام الدراسة وحاجات لم نعرف كيف نتعامل معها. دارت الغفرة حول الحجرة، وكلما تحدثنا بصوت أعلى قليلا كانت الخطوات تتوقف وعندها كنّا نشتمهم. ديك الكلب، ما الذي تريدونه منّا؟ ديك الكلب سيبونا نروّح. هواتفنا معطّلة أو تُركت وراءنا، تهامسنا فيما ينبغي علينا فعله. كنّا دون استثناء مصابين، أقل واحد فينا فقد نصف أسنانه.
استقر الأمر على الانتظار، طالما إننا هنا فنحن في أمان، قريبا يعني سيطلع الصبح ويظهر خلق في هذه المنطقة المقطوعة. حفرنا في الأرض وأخذنا نطبب جراحنا بالتراب.
كم مر من الوقت؟ لم نعرف. فقدنا الصلة، وأمام تلكؤ الزمن حاولنا التعويض بالكلام، عن مدرس اللغة العربية وشبابنا الذي يروح، عن تحولات الكلمة وظهورها في أماكن معينة وعن توقفها بلا تاريخ في الصفحات. تكلمنا عن المواجهة والأسنان التي وقعت، عن السجن الذي كنّا فيه والخنقة التي حطّت علينا، وعن كس أم كل هذا والرغبة في العودة إلى البيت. لمّا بدأنا ننعس قررنا أن نقيم دوريّات للحراسة وعلى هذا ضحكنا لحد ركبنا المجلوفة. وفي وسط الضحك قال واحد، تذكرت فين قابلت هذه الكلمة، قابلتها لما كنت في الـ – لم نسمعه. قلنا تقول إيه؟ أسنانك المفقودة تأكل الكلمات. قال أقول – لكن قاطعته خبطة عالية ودفقة تراب. فقط لمّا بدا أنه بمستطاعنا التحمّل لوقت أطول في هذا الخرابة، سمعنا وقع المعدات تنهش حائطًا بهيستيرية.
كانت الغفرة تحاول الدخول. قمنا فزعا، استخدمنا ما وقعت عليه أيادينا، نعمل فتحة في الحائط المقابل.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي