حدود فلورنسا

«أن ترى الشمس تخفت، وتغرق في الفيض الوردي والبنفسجي والذهبي وتطغى على فلورنسا بمد من الألوان يطفئ كل الخطوط الحادة ويحول المدينة الصلبة إلى مدينة أحلام، إنه مشهد قادر على إثارة أكثر القلوب برودة» – مارك توين

يقع الخط الوهمي الفاصل بيننا في منتصف السرير بالضبط، ربما يميل أكثر جهتي فتتقلص المساحة المخصصة لي مقابل تلك المخصصة لها، لكني تعودت على النوم في تلك المساحة دون شكوى، والالتزام بعدم تخطيها.
ولدنا لأسر كبيرة، أخوة وأخوات عدة، تطلب الأمر من كلانا أن يقتنص مساحته الشخصية كلما أمكن، سواء مساحة للنوم أو الجلوس أو التفكير أو حتى للحركة، صار لزامًا علينا أن ندخل في صراعات مع أخوتنا لنربح تلك المساحات في النهاية، تلك الصراعات والأفكار حملناها سويًا عند زواجنا، لم يتخل أي منا عنها، بل لم تتخل هي عنها بالأساس، كان لدي تصور حالم بانعدام الصراعات بين الزوجين المتحابين، سننام ككتلة واحدة، تنام على ذراعي وأدفن رأسي في صدرها، تتشابك أرجلنا، تتلامس أقدامنا، تنتقل الحرارة من الدافئ للبارد فتتعادل حرارتنا، نصير كائنًا بروحين، نغط في نومٍ عميق لا يفسده حركة أو تملل، نستيقظ في نفس الوضعية ثم نكافح لننفصل جسديًا لنمارس متطلبات الحياة، أما هي فظلت على عهدها لا مساس بمساحتها الشخصية أبدًا.
لم يتغير الأمر ليلة سفري، كنت أستعد للسفر لفلورنسا في مهمة عمل تستمر لعشرة أيام، يصاحبني ثلاثة زملاء، كانت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، تتضاءل فرص النوم، يتبقى فقط خمس ساعات على موعد الطائرة، الأفضل أن أنام الآن، لم أشعر بتلك الساعات تمر، استيقظت في الرابعة فجرًا، تجهزت للتحرك فوصلت للمطار قبل موعدي المحدد بنصف ساعة.
وصلت هي بعد موعدها بنصف ساعة، كان وجهها الأبيض المستدير وعيناها الزرقاوين يطلبان العفو، قبلتني على وجنتي واحتضنتني سريعًا قبل أن تكرر الأمر مع زملائنا الآخرين.
وصلنا ميلانو في الموعد، كان علينا السفر بالقطار لنصل إلى فلورنسا، همست في أذني وقالت لقد أحضرت لنا تذاكر في عربة مستقلة، ابتسمت وتناولت تذكرتي، تناولت يدي، قبلتها واحتضنتها، كانت تلك هي المرة الأولى التي تفعل فيها ذلك منذ الأمس، والمرة الأولى خارج مصر. مالت علي وأرخت رأسها بشعرها الذهبي المنساب على كتفي قبل أن تغرق في النوم.
كان المشهد ساحرًا من شباك القطار، مناظر طبيعية ومساحات خضراء شاسعة بالمقارنة باللون الأصفر المهيمن على القاهرة، لم أنم، خشية أن تحرك رأسها على كتفي، فتراجعت برأسي للخلف وبدأت في عد الشجر والسحب والطيور وأعمدة الإنارة حتى وصلنا فلورنسا.
متحف مفتوح لعصر النهضة، نافورات صنعتها يد مايكل أنجلو، كنائس رسم سقفها ليوناردو دافنشي، وشوارع وبيوت وسائحون يثيرون البهجة في النفس المظلمة، لم يكن هناك مفر من الشعور بالسعادة.
كانت غرفتها بجوار غرفتي، تسللت في العاشرة مساء ودخلت لتمطرني بقبلاتها، احتضنتني بقوة، احتوتني بجسدها الممشوق، خلعت قميصًا شتويًا كانت ترتديه وبقت بحمالة الصدر وشورت قصير للغاية، جلست على السرير ورفعت سماعة الهاتف ثم طلبت بيتزا كبيرة لنا.
مارسنا الجنس بشغف مستمد من الخلفية الجمالية للحياة في فلورنسا، شغف معتاد لليال نقتنصها كلما أمكن، ليال غير رخيصة، بل منتزعة انتزاعًا، من بواب عمارتها، وزوجتي، وأطفالي، ومواعيدنا والتزاماتنا وضيق الوقت، نلتهم بعضنا البعض.
حضرت البيتزا ولم ننتهي بعد، فانتظرت البيتزا كما انتظر عالمنا في القاهرة، نغلق هواتفنا نقتنص من الزمن ساعة أو أكثر نضطر بعدها لتبرير ذلك الاختفاء لكل من حولنا.
مشطت شعرها، لونت أظافرها بلون وردي، ارتدت حمالة صدرها، والشورت القصير، كلاهما كان باللون الأرجواني، ثم دخلنا السرير سويًا بعد أن التهمنا البيتزا، أغلقت الأنوار ثم جذبت ذراعي واحتضنتني فغبت عن العالم في قبلة طويلة كدت أن أخشى أن تنسل روحي لتستقر في جسدها.
ظلت روحي معي، وذراعي تحت رأسها، وفخذها فوق فخذي وشعرها يداعب وجهي كلما تحركت أو مال الهواء، كان الخط الوهمي الفاصل بيننا هو اللاشيء، كنا جسدًا واحدًا، نامت هي سريعًا وبقيت مستيقظًا، شعرت بخدر في ذراعي يزداد حتى خفت أن يتحول لون ذراعي للأزرق بفعل انقطاع الدم، حاولت تحريكه لكن وجهها الملائكي النائم كان حاجزًا نفسيًا لا يمكن تخطيه، فرسمت صليبًا من لعابي على ذراعي كما علمتني أمي.
لم أصمد، جذبتها بذراعي الآخر ثم رفعتها لتنام فوق جسدي مباشرة بالدرجة الكافية لسحب ذراعي من تحتها، نجحت المحاولة لكنها استيقظت وقبلتني وسألتني هل أشعر بعدم ارتياح من نومها؟ هززت رأسي بسرعة وتكرار أبله، ثم قبلتها، ووضعت ذراعي مرة أخرى تحت رأسها، وعاودت محاولة النوم.
استيقظت فجرًا تغمرني رغبة فيها، قبلت رقبتها ورأسها وعيناها، أنفها وشفتيها، فاستيقظت، بادلتني التقبيل، أقحمت يدي بهدوء في الشورت القصير، خلعت حمالة صدرها باليد الأخرى، مارسنا الجنس لنصف ساعة، كانت أقرب للحلم، كنا نصف نائمين يدفعنا توافر الوقت لاستغلاله لا رغبة حقيقية في بعضنا البعض.
انقضت ليلتنا الأولى سويًا، لم أبت يومًا معها في بيتها، علي العودة كل ليلة للنوم مع زوجتي، وعليها البقاء وحيدة منذ أن غادرت صديقتها البيت وتركتها. كان مبيتنا الأول في علاقة مستمرة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، ستقول بعد انفصالنا أن ليلة كتلك في القاهرة كانت كل ما تتمناه من الدنيا لكنها لم تنالها.
في الصباح خرجت سريعًا لتعود لغرفتها، بعدها بنصف ساعة خرجنا للإفطار مع الزملاء، استمر يوم العمل كما خطط له، وبعد الغداء مررنا جميعًا على بعض المتاحف والآثار ثم عدنا للفندق للاستراحة قبل أن نخرج مع زملاء إيطاليين.
استمر سهرنا حتى الواحدة بعد منتصف الليل، لا يؤثر الكحول فينا بدرجة كبيرة، تلك ميزة لم نتناقش فيها أبدًا، فمرتنا الأولى بررناها بالسكر الشديد، لكننا لم نغب عن الوعي لحظة بينما ننزع ملابسنا بسرعة رغم برودة الجو، تنهل من جسدي وأذوب في جسدها، توافقنا حد الكمال، اكتشفنا مساحات جديدة للمتعة في سرعة غير مفسرة، منذ اللحظة الأولى كان جليًا أن جسدينا قد خلقا ليتمتعا ببعضهما البعض متعة لا يضاهيها أي شيء.
اشتكت فقط من اضطراري للرحيل سريعًا بعد كل مرة، كنت أقبلها قبل أن أودعها، كانت تبكي، كنت أبكي، ثم أرحل، ونعاود الكرة، لم يكن بالإمكان البقاء، لكن هنا في فلورنسا الحدود مختلفة، نبيت ليلتنا سويًا، لا نخاف من شيء، لا نهتم بمتى نمارس الجنس، شاهدتها للمرة الأولى تقرأ، كان وقتنا سويًا بالكامل مخصص لأجسادنا، شاهدتني أحلق ذقني، شاهدتها تختار ملابسها قبل الخروج للعمل. كانت حدود فلورنسا لا تفصل بيننا لكن تحيطنا فتنزعنا عن العالم كله لعشر أيام أو أقل.
في اليوم التاسع وبعد يوم عمل شاق كانت تستحم بينما أنظر ليدي اليمنى، أعرف ما ستعانيه الليلة، مثل كل ليلة، خدر عميق يزحف بنفس القوة كل مرة، تنام على يدي وأستيقظ لساعات بعدها، لم يفلح الصليب المائي في شيء، لم ينجح وأنا في السادسة فكيف وأنا في الثلاثين! كنت أمني النفس أن شيئًا سيتغير، وصل الأمر حد الضيق، لم أعرف كيف أواجهها بذلك، كانت تشتاق لجسدي بعيدًا عن الجنس، تشتاق للحماية، تعيش في القاهرة وحيدة، تعاني في كل لحظة تتحرك فيها في شوارعها وحتى في بيتها تخشي أن يقتحم أحد شقتها ويغتصبها، وأظن أنها محقة في ذلك، فما من رجل أو ذكر صغر أو كبر وإلا وتحرش بها لفظيًا أو ماديًا، وما كان لها أن تغير من ملبسها لأن المجتمع يفرض عليها ذلك، كانت متمردة.
سرت رعشة في جسدي عندما وضعت جسدها على السرير لا من لذة أو رغبة فيها بل من خوف، حملت يدي ووضعتها تحت رأسها ثم خلدت للنوم.
مرت الساعة كأنها دهر، أحاول عبثًا أن أضغط بيدي للأسفل ليتخفف الحمل من عليها، سحبتها ببطء، استيقظت من نومها من ردة فعلي، أضاءت الغرفة وأسندت رأسها على وسادة طويلة، قلت لها أننا يجب أن نتحدث، سألتني باستغراب الآن؟ 
بعد ساعة من النقاش المحتدم خرجت وعادت لغرفتها، اقسمت أنها لن تعود للقاهرة، ستستقيل من العمل، كان طلبي بسيط أن تعود لتنام في غرفتها فيما تبقى من الرحلة، ليلتين لا أكثر، لكنها بكت، صرخت، قالت أنها لا تعرف سببًا لبقائها معي رغم كل ما تعانيه، بكيت بصدق، قلت لها أن حياتي لا تساوي شيئًا من دونها، فذكرتني أن حياتي كلها تقع خارج دنياها، أنام ليلتي بين أحضان زوجتي، أقضي إجازاتي مع أطفالي، وتمضي كل أيامها وحيدة، قالت أنها بكت كل ليلة في أيامنا الأولي، ثم اعتادت الوحدة، بكيت، لم أتصور أن حياتها بهذا الشكل، أو حاولت ألا أتصور، كنا سعداء جدًا بما نحن فيه، كنت سعيدًا جدًا بما نحن فيه، كانت تعيسة.
تركت الغرفة وأثر الخدر في يدي لا يزول، مرت ساعة وأشعر بأعصاب يدي ملتهبة، لو عرفت ذلك لأبقيتها بجواري طالما الألم واحد، لكن الألم الآن يمر من يدي لرأسي، يتملكني الخوف من قدرتها على تدمير حياتي، هل ستخبر زوجتي؟ عشت معها راغبًا في حياة مختلفة لم أذقها من قبل، غفلت أو تغافلت عن حقيقة ما تعانيه، نزعت كل حقيقة جميلة صافية عن الحب وتركت مكانها جرحًا، لم نحتفل سويًا بعيد ميلادها لأنها تريد أن يبدأ الاحتفال من الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل، لم أستقبلها في المطار لأن عادت فجرًا، ولم نخرج سويًا كمتحابين لأن أصدقائها سيسألون عن الدبلة الفضية في يدي اليسرى، التي لم أفكر أبدًا في خلعها، أشارت هي لذلك، قالت إني لم أخلعها أبدًا، وأن أولوياتي واضحة، اصفر وجهي وفشلت كل محاولاتي للتبرير. ما كان لي أن أناقشها، عرفت كل ما نمر به أكثر مني، على الأقل تدركه في وعيها بينما أخفيته تحت ساعات من الجنس قضيناها سويًا.
في يومنا الأخير قبل عودتنا للقاهرة عرف الجميع أنها ليست بخير، عيناها منتفختين من البكاء، لم تبذل مجهودًا حقيقيًا في مدارة ذلك بالمكياج، عدنا من العمل في الرابعة عصرًا، طلبت غرفتها، أجابت بصوتها الحنون ثم أغلقت الهاتف.
بعد نصف ساعة كانت في غرفتي، جلست مرتدية ملابسها كاملة. طلبت منها العفو، بكيت كثيرًا، قلت لها أن تبقى معي الليلة، رفضت، حاولت إثارة مشاعرها الجنسية فلم تستجب، باءت كل محاولاتي بالفشل، وقبل أن تتركني وتعود سألتني متى كنت لأطلب يدها لو لم أكن متزوجًا، لم أفكر أبدًا في الأمر، انتهت علاقتنا.
في رحلة العودة تعمدت أن تتجاهلني رغم بقائنا في نفس المقعد المحجوز سلفًا قبل انفصالنا، حاولت النوم ولم تفلح، أشرت لكتفي في اللحظة التي التقت عينانا، أشاحت ببصرها سريعًا ورفضت العرض، وصلنا القاهرة ولم أحصل على نظرة أخيرة منها.
في البيت انتظرتني زوجتي، قبلتني واحتضنتني، طلبت مني أن أحكي لها عن الرحلة بكل تفاصيلها فاعتذرت بحجة الإرهاق من السفر والحاجة للنوم، بعد ثلاثة أيام من النوم وحيدًا في فلورنسا كان علي أن استعيد حدود مكاني في السرير، سريعًا فعلت، تاركًا لها مساحة أكبر من المعتاد، مالت على وجذبت يدي اليمني، وقبلتها، ثم ارخت رأسها عليها وقالت هامسة «وحشتني» سرت رعشة جديدة في جسدي، تصلبت يدي، خطفتها فجأة قبل أن يسري الخدر فيها، تغير وجهها، اعتدلت وجلست وحاولت أن تبدأ نقاشًا حول الموضوع، أشرت بإصبعي للخط الوهمي الفاصل بيننا على السرير ونمت.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي