ظلال في المحكمة

١

وصل إخطار إلى السيد يطلب منه المثول أمام المحكمة في جلسة عاجلة للرد على شكوى قدمها المحامي عزت القمحاوي، يتهمه الأخير بإفساد المجتمع ومصادرة القيم وتدمير المنظومة الأخلاقية المُحكَمة. بعين نصف مفتوحة ووجه يحمل أثر المخدة، قرأ السيد الخطاب، وحاول ملاحقة البوسطجي بنظرات اللوم أو الغضب لأنه أيقظه يوم عطلة بخطأ أكيد في الإجراءات، أو تشابه أسماء مع أحد المواطنين العاديين مثله.
فكر السيد فيما يمكن فعله، فاستعاد أحداث أخر أسبوع أمامه، محاولة للتأكد من صحة نظريته «نعم، أكيد، دي رسالة غلط.»
ما زال يحاول استيعاب العالم، دماغه ثقيل كأن حجرًا وضع في رأسه، ظنها أثار الخمر ثم تذكر بأنه لم يسكر منذ أسبوع. كان ذلك في حانة اخت صديقه، في تلك الاحتفالية الراقصة شرب كثيرًا. وبالأمس نام بعد جوب خفيف، قد يكون هذا سبب صداعه. ضحك كثيرًا دون سبب وسمع بداخله صوتًا يذكره بأنه مرحاض خال من الأقفال؛ فقرر التكلم مع نعمة، والثرثرة الطقوسية الخالية من المعنى معها وهي تحكي عن صديقاتها، وشعورها بالوحدة، وهو يخبئ رغبته في الانتحار على طريقة همنغواي، ويسرح حين تسترسل في أحلامها عن الهجرة، ويغرق هو في رغبة حارقة لممارسة الجنس بعنف.

٢

كتب لها بالأمس: «لقد أصبحتِ مركز حياتي، في عالمي الداخلي المتمدد، وكلما اتسع، كبرت نواتك في مركز ذراتي. إله شخص لا يؤمن بشيء، سعادتي وشقائي. لطالما اعتبرت نفسي أقف على هامش المكان، أكتم رغبة جامحة في الحديث، وأصمت. أخبرك بأن العقاب الذي آلم بنا هو الاستجابة للقوة الفنية الأصيلة الكامنة في الإرادة. أتفهمين؟ أحاول تخيل أيدينا تتناول الكيفية المحزنة للحياة، وتمزيقها قطعًا كالزجاج المفتت، ثم نجمعها وفقًا لرغباتنا فقط».
نعمة المرحة تفضل السماع لتلك السخافات، لأنها مسلية، وتضفي عمقًا وربما معنى على حياتها. ربما أرادت إيقاف ثرثرته، الاّ أنها خشت الحشرة الحقيرة في صدره، حزنه كما يسميه، تخشى ثورته العنيفة ضدها، من كلمات تتحول في البلعوم لنوبات غضب هيستيرية وقد سمعت أن الفنانين البوهيمين يتمتعون بهذا المزاج الهستيري. فقررت درء الشر والصمت بتحويل الحوار للجنس، لأنه يجيد التعبير عن رغبته.
– بقولك، بعتلك رسالة إمبارح.
– إنت بعتها فين؟ موصلش حاجة.
على وجهه بلاهة، سرعان ما استوعب ردها بعد أن حوله إلى شبح باهت سحب منه الدم، سألها فأكدت بأنها لم تستلمها. وبعد إنهاء المكالمة، فكر، يمكنه نسيان اليوم ومحاولة كتابة قصيدة كاملة، أو يقرأ ثلاثة فصول من جينالوجيا الحقيقة، لكنه لا ينسى، يفكر. وقد ضاعت رسالته، وفي يده ورقة تلزمه بحضور جلسة استماع لا يعرف عن أمرها شيئًا. 
كان رأسه مكورًا على نفسه، يتحرك للأمام والخلف، بالتأكيد هناك خطأ، يقول لنفسه. ولتفادي المشاكل المستقبلية عليه الذهاب وتوضيح المسألة بنفسه. وعليه أن يكلم مديره في المطعم، يطلب أجازة ويتجاوز حالة التيه تلك لأن العالم لن ينتظره ولن يكترث لحالته أكثر من ذلك.
قضى يومه بين الكتب، وفي المساء شرب فودكا رديئة الصنع شائعة بين فئته الاجتماعية والوحيدة المتوفرة في المحلات ضمن محيطه السكني، كتب مقالًا عن التجاوز، تلك فكرة تؤرقه منذ فترة، كتب كثيرًا ولم يصل للنقطة التي ترضيه، فتوقف.

٣

استيقظ في اليوم التالي على لهو أطفال يصرخون، أراد كل منهم أن يصل صوته للسماء أقوى وأسرع وقد شعر بأن عروقه تغلي من الغضب، جسده أشد حرارة من الشمس التي ترسل ضوء بارد في الخارج، رائحة الهواء تشجع على النوم لكنه استيقظ بسأم كالقطط.
فكر في أحد يكلمه، توقع بأن نعمة يشغلها تناول الطعام، وأن عمر يتوجه من غرفة لأخرى باعتباره يمارس عملًا وجوديًا شاقًا يحيله دون التواصل مع البشر، لن يجيبه أي منهما. فكر قليلًا وجمع أنفاسه واتصل بمحمود المحامي النحيل حد بروز عظام وجهه ليطلب المساعدة.
وافق محمود بشرط أن يوقف السيد الحديث عن وضعيته البشرية المتأرجحة بين الدودة والإله. وأن لا يثرثر بشيء من هذا في المحكمة، وأن لا يتحدث عن نعمة أمام القاضي كما فعل الأن وكما اعتاد في نوبات غيابه عن الوعي المتكررة. وختم لائحة الشروط بقوله «لا استلاب ولا تفسخ للإنسان، ولا أي شيء من هذا، إن أردت ألا تقف وحيدًا غدًا».
– إن الأمر فظيع، كان علي أن أحتاط، لم أعرف كيف.
– تحتم ذلك، ألا تخشى من البوليس، إنهم يأخذون أمثالك بسهولة شرب الماء.
– المهم لن أكون وحدي، ستأتي معي. فأنا لا أعرف ماذا فعلت.
– إن المحامي الذي رفع عليك الدعوة خنزير، يمكنه تقطيعك ورميك في البحر دون شفقة، هل تعرف بأن أمه مومس؟
– حقًا؟
– لا أمزح معك المهم تذكر ما قلت.
وافق السيد بعين منكسرة، محبطًا، ومكرهًا. تخيل بأنه متهم بشيء حقيقي فعله، البعض يعرفون كيفية صيد أخطاء أمثاله، لديهم قدرة جبارة لا تمتلكها سوى الكلاب المدربة على تتبع رائحة واحدة، تلتقطها من جدار ممتلئ بالروائح.
في طريقه الى العمل، شعر بأن تماسك ذاته ينهار، وجسده يسقط سائلًا لزجًا على الأرض، شعور لطالما اعتاده. واليوم لا يملك الصلابة الكافية للثبات، سينهار خلال ساعات العمل بالتأكيد إن لم يتحدث. للمرة الأولى، يبحث عن أحد العاملين ليشكو مصيبته، فضل سابقًا التقوقع على نفسه مبتعدًا عن التطفل الذي يلتصق على جلده لو تقرب من أحدهم. كان الجميع يتجاهله، لأنه صد الباب أمام محاولات التعارف، ومنذ ذلك الحين، يقضي ساعات العمل يحدث خياله، يمازحه، ويواسيه. لذا تجاهل الفكرة وتمسك بلامبالاة الناس به، فقد فضل أن يسير بينهم كشبح لا يلاحَظ، حتى لا تنكشف الحشرة التي تسكن صدره.
ترك لجام أفكاره منطلقًا، تخيل مستقبله في المحكمة واستحضر جسد نعمة، أي من الفتيات غيرها يمكن أن تكون حفيدة هيلين.
مرت الساعات ثقيلة، شعر بأنه فقد نصف وزنه بعد الخروج من العمل، وسار في الشوارع المظلمة يضرب الحصى، يتابع العمارات الكبيرة التي تُخفي السماء، يوجه بصره لحذائه ثم يتوقف. يراقب عصفورين يطيران حول نصف قمر تحتضنه الشمس من الخلف فيضيئ الطريق بالأصفر. 
أراد الركض حتى المنزل، لكنه تابع السير بقلق.

٤

فتح الباب ليجد نعمة بانتظاره، قدمت له قهوة ساخنة جعلته يتعجب، كأنها تابعته طوال الطريق وعرفت بدقة موعد وصوله. قال «هل تنتظرني الجنية منذ وقت طويل، لقد أتيت أخيرًا لأخطفها على قاربي ونعبر المحيط». سحبت يده وهي تضحك، بينما نظر لقدمها العارية التي استثارت رغبة عنيفة جعلت رعشة تسري في جسده. 
كاد أن يتعثر في طرف سجادة قبل أن يجلس على كنبة بنية يكره لونها، وأمامه على السرير نعمة. وعلى المكتب الوحيد في الغرفة هناك عشاء خفيف أعدّته بينما كانت تنتظره، نظرت ناحيته وكانت تلوك شيئًا في فمها ثم قالت «لماذا لا نتزوج؟»
– ألسنا أحسن من المتزوجين؟
– هذا جيد ولكن هناك أفضل.
أخذ رشفة من القهوة ورأت هي بأنها لن تحصل منه على إجابة أفضل من تلك، فوضعت الطعام أمامها وأكلت غير عابئة بأي شيء آخر في العالم، وظل هو على يسارها، تناول كتابًا، بعض القصائد المختارة لبورخيس، فتح صفحة عشوائية وقرأ، كان الكلام يمر أمامه ولا يفهمه، أعاد الصفحة مرة تلو الآخرى دون أن يفهم كلمة، كأنه كُتب بلغة تعود لحضارة ميتة، تحولت الصفحة لرموز وأشكال عصية عن الفهم. من العبث الاستمرار في القراءة، هكذا فكر، فقد كان ذهنه مشتتًا ومحاولة التركيز جعلته كمن يحاول تعويض نقص الماء في العالم بصب جرادل الماء في النيل.
توجه للسرير، ونام بجانبها، متخذًا لقدمه اليسرى موضعًا بين ساقيها، وهي وضعت يسراها على خصره، وانساب الهواء الساخن منها إلى رقبته، حدثها عن يومه وما يدور في رأسه، كلمها في عالم الصمت؛ حيث لم يخرج من فمه حرف.
– تعالي نراقب السماء
انتقلا إلى الكنبة حيث يمكنهم النوم ورأسهم ينظر من النافذة، كانت السماء صفحة حزينة خالية من النجوم ويحجب نصفها عمارة طويلة.

٥

في الصباح، اصطحب محمود صديقهم الثالث عمر إلى مكان اللقاء، تجمع شملهم في شارع جانبي خرجوا منه على المحطة. ركب الثلاثة ميكروباص يأخذهم إلى قلب المدينة حيث تقع المحكمة في شارع الكورنيش الرئيسي. 
بقدوم عمر شعر السيد بأنه ذاهب لقضاء ليلته الأولى في القبر، على يمينه ويساره ملكين، وهو الأن يحاسب بينهما.
عند منتصف الطريق نطق عمر بحماس «إحنا هنساهم في التغيير». فكر محمود بأن صداقتهم تسببت في انتقال العدوى لعمر أيضًا، والسيد لم ترق له الجملة.
يحلم عمر بالسفر إلى كينيا، يتخيل ثروة يستثمرها في زراعة الشاي، يعيش وسط غابات أفريقيا السمراء مع بعض العجائز يشاركنه العمل والطعام. يومًا ما أخبر الجالسين على القهوة بأن كينيا تنتج حوالي ٣٠٥ طن شاي «عارفين العمال هناك بائسين وبيزرعوا ببدائية، تخيلوا لما أروح بفلوسي». تذكر عمر حينها دَينه لصاحب القهوة، وآثر السكوت لحفظ كرامته، فلو لاحظ المعلم سيرة الفلوس، وظن بأن الهذيان حقيقة، سيطالب بما له، أو سيقول «مش لما تسد النوتة الأول». وفي الحالتين من الأفضل أن يصمت. 
وصلوا أخيرا إلى المحكمة، اجتهد المحامي لإعادة بدلته إلى وضعها الطبيعي قبل الركوب، ومحمود تناول سجارة من يد السيد، ثم ساروا باجتهاد أفعى تسعى للخروج من متاهة، أرهقهم الزحام ومحاولاتهم المضنية في تخطيه جعلت السيد يستشعر بأنه سقط في أرض المونيتور. 
في القاعة، جلس ثلاثة قضاة، يرتدون نظارات طبية، أحدهم بشنب أبيض، الأخر سمين والثالث يصعب تمييز ملامحه لأن السيد لم يكن في حالة تسمح بالتركيز في ملامحهم بدقة. بدأ يختنق واجتهد في إخفاء تردي حالته النفسية. جلس الثلاثة خلف طاولة رفيعة تفصلهم عن الحاضرين، الغرفة ليست كشكل القاعة التي تخيلها، إنها غرفة جانبية للاستماع، فلا أقفاص حديدية ولا مدرجات تمتلئ بالناس، فقط يوجد أمام القُضاة مقاعد خشبية قليلة مقسمة على الجهتين، يفصل بينهما طريق خالي. 
وقف محامي الإدعاء العام، عزت القمحاوي، ممسكًا بورقة وقدمها إلى القضاة، تحدث بهدوء بينما جسده يرتعش كأنه مقبل على القذف.
قال: لقد خدش المتهم حياء المجتمع، كشف عورة أفكاره دون حياء، تجرأ على المساس بقيمه وتقاليده، مقدمًا على تصرف يحمر وجه المواطن الشريف لو تحدث عنه.
قاطعه عمر: فهمنا يا شكسبير الفضيلة.
ضحك الحاضرون، بينما أحس السيد برغبة في التدخين، اختفى المكان، لم يسمع ما قيل،  فقد تخيل نعمة ترقص نصف عارية في القاعة، تلاشت أجساد الجميع كذرات الغبار وبقت هي تتمايل بخفة على خرائب المكان. شجب محمود غموض عزت القمحاوي، وطالبه بالتحدث دون ألغاز؛ لأن الجميع ينتظرون المهم، وهناك سوء تفاهم يجب ايضاحه. فُزع السيد من صوت محمود العالي بجانبه، وأفاق بينما محمود يقترب من القضاة. 
قال: موكّلي ليس كاتبًا نشر له شيء ورقي يحاسب عليه، ولا يملك حساب على موقع تيك توك. 
أشار القاضي لعزت القمحاوي بالاستمرار، ونظر بعيدًا وهو يتمتم «لا يهم، لا يهم».
أشار القمحاوي إلى الورقة التي قدّمها للقاضي في بداية الجلسة، وقال «نريد معرفة كاتب الرسالة»، وتوجه بنظره نحو السيد، «مش دا خطك وتوقيعك على الرسالة المكتوبة بتاريخ سابق».
سار السيد وسط صمت مريب، وقال لنفسه «هذا حلم، بالتأكيد تحلم، حلم».
أمسك الورقة وأدرك فورًا أنها رسالته لنعمة. كيف وصلت الى يد محامي الإدعاء العام؟ ومالذي كتبه فيها ليقف في المحكمة؟ فكر طويلًا حتى تثاءب القاضي فحثه على الحديث.
رأى عزت القمحاوي فرصة لحسم المسألة «ألم تكتب يا سيد السيد، بأن واقعنا مركب ينطلق نحو شلال نهايته اندحار أو موت. وأن الإنسان دمية استبُدل القطن فيها بحشوٍ يلهي عن إدراك فداحة الواقع». وألم تكتب في سطر آخر «سأرتكن يومًا لدكان القلب العتيق»، ثم أمسك بكتف السيد وقال «نريد تفسيرات وتبريرات».
تخيل السيد أن محدثه دودة بيضاء تجدد طاقتها بالتغذي على دموع الأخرين، من هنا تنبع رغبة المحامي في التدمير. سمع على يساره «دي رسالة خاصة، المفروض تتحاسب على سرقتها مش العكس». 
جاءت جملة عمر كالخيط، حاول السيد إمساكه ليكمل النسيج حول تلك الحجة. إلا أن شعورا باللاجدوى للإستمرار في العرض السخيف جعله يسأم من استكمال طقوس خالية من المعنى. لكنه مطالب بالرد، فقال كمن ينتقي الكلمات من بلوعة «يحزنني جمعنا اليوم لأنه يؤكد لي الهُوّة التي تفصل بيننا».
صرخ عزت القمحاوي: «إذا كانت القهوة لا تعجبك لأن تركيز البُن قوي، يمكنك إضافة بعض الماء، حينها اسمح لنا بالسخرية من اختيارك، فحياتك باهته، اصطناعية خالية من طعم الحقيقة».
تحدث القاضي كما الإبن الغارق في الدلال: «من فضلك وضحلنا التهمة المؤسسة لوجودنا».
قال محمود: «يبدو أنه يحاسبه على تشاؤمه».
عزت القمحاوي: «إحنا أمامنا شخص وظيفته كره الحياة».
عمر بنبرة استنكار: «وإنت تحسب نفسك سفير السعادة ومسؤول استقرار نفسية الإنسان؟»
السيد وسط جدالهم، تاه في رعشة أفقدته توازنه. لقد كتب في رسالته فقرات طويلة عن شهيته للحياة مع نعمة، سخط على اللحظات القليلة المتقطعة التي تجمعهما، طمع بالمزيد، وكان يلقي بفيض من الكلمات خرجت من لاوعيه. كان يكتب كأنه في حلم لا يمكنه ترتيب أحداثه.
قال السيد مخاطبا المحامي عزت القمحاوي: «ألا تجد نفعا من حياتك سوى جر الأبرياء لتنتقم من عجزك؟»
التف القمحاوي، وقال: «كل ما يعجبك في الحياة المسخرة والخلاعة يا أستاذ».
غرق السيد في خياله، وشعر بجسده يرتفع فوق البلاط المتسخ، إنه يكره الأرض قبل كرهه لأي شيء، لكنه سيجيب بالنفي على باقي الأسئلة حتى موعد ختام الجلسة والرحيل.
في طريق العودة، انشغلت نعمة بعيدا بتناول الطعام، ثرثر عمر بأن كل شيء يُسرق إلا الأحلام. بينما استجوب السيد حياته، عاد تاريخه كوحش فشل في ترويضه، تذكر المحامي القنفذ في المحكمة، جوعه، والأنين، وتلك الرغبة العارمة في الجنس والتدخين.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي