صاحب المعنى له ظل

١

رأيتها تجلس عند النافذة، تمسك كتابًا، تقرأ قليلاً، تسرح كثيرًا، وعيناها البراقتان تطوفان بالأرجاء. كانت ترتدي سترةً بلون الزيتون الأخضر الناضجّ، وجينز أزرق، تترك شعرها مرتخيًا بلا تصفيف، بشرتها شفافة، أستطيع عدّ كم عرق أرجواني تملك في خديها وفوق عينيها. وجهها كان بسيطًا بلا ملامح بارزة، وكفوفها بالغة الهشاشة. 
توقف الباص للاستراحة. 
بدت نحيلة وخائرة القوى عندما استقامت، تمشي بتثاقل كأنها تجرّ قدميها إلى حتفها. طوال فترة الاستراحة لم يرها أحد. كانت تفهم الطريقة التي يجب على المرء فيها أن يجالس ذاته والآخرين كذلك. ولكنها كانت تشعر بالارتباك من الأشخاص الذين يهرعون للخارج باندفاع كمن يجعل الأمر مهمًا. كان العالم يندفع باتجاه خارج واحد، وكانت هي تقلق؛ لأنها تعرف أنها أخذت مسارًا للداخل، داخل ميؤوس منه ولا أمل فيه. 
كانت ضعيفة ولكنها استطاعت  تصور ذاتها، حسب تعبيرها، بالرغم من أنها قد تبدو في أشد حالاتها تفاهةً وأكثرها برودة ووحدة. البهجة تستنزفها؛ لأنها تقودها إلى التجربة التي أظهرت لها حقيقة واحدة لم ترحمها، أنها بمشاعرها الفيَاضة لا تخلو من السذاجة فحسب، بل تعاني منها. 
عادت للحافلة، رأت أنه قد تم تبديل المقاعد، وكانت غير مرتاحة في مقعدٍ غير مقعدها. 
عندما لوّحت الشمس على وجهها، رأيته متشنجًا وشاحبًا، وتحول فجأة إلى شيءٍ يشبه اللطخة. وفي محاولة منها لأن تنسى ما لا يُفسر، فتحت النافذة، انتَشقتْ هواءً باردًا، فارتعشت بالكامل، وفورًا ارتسمت ابتسامة مكبوحة على شفتيها. كان الجو هادئًا. هدوء يسري معه الخِدر إلى سائر الجسم، وكان كل واحد منّا يحاول أن يتطهر من أيّ وصف عالق في مستنقع روحه. كنّا نحاول أن نشعر في أرواحنا أننا نهتدي إلى معرفةِ أصلِ مكابدتِنا، وأن نفهم بتحديقة واحدة، غامضة وعميقة، هالة الوجود. صارت الساعة الواحدة ظهرًا، ازدادت حرارة النهار، توقفنا نهائيًا عن التفكير، وذهبنا لأخذ قسط من الراحة. 

٢

استيقظتُ الخامسة عصرًا، كنا قد توقفنا لحضور الغروب، وكان الجميع نائمًا عداها، كنا فقط مجرد شخصين غريبين، أمام مشهد الغروب العظيم، كل شيء في هذه اللحظة عبارة عن مرة أولى وحيدة. الغروب يشبه الأشياء الملتبسة في حياتنا، ووحدها الأشياء الملتبسة هي التي سيتذكرها الإنسان طويلًا. كان الغروب بغيومه البرتقالية يضفي إلى حياتنا الميتة، الفظيعة، شيئًا من الحنين، حنين متصل دون توقف. شعرت وأنا أراقب هذا اللون البرتقالي، بالحرارة. الحرارة التي تشبه الحمى، وأن حياتي ما هي إلا سلسلة لا يمكنني حتى إصلاحها في حيواتٍ قادمة. حلّ المساء، المساء الذي يصارع فيه الإنسان عواطفه وهو يبكي، يبكي. وهو هادئ، المساء والإنسان.
– اسمي ياسمين، كملكة الزهور.
قالتها، وجاءت تمدُ يدها للمصافحة. كان لون بشرتها يبدو أوضح، وتنتشر بقع بنية على ذقنها بعناية.
-اسمي جمانة.
-مثل؟
-مثل لا شيء. (أجبت بتملل، ودون النظر إليها). حينما رفعت رأسي، رأيت تعبيرًا حانقًا. عندما عدنا إلى الباص، ذهبتُ وجلست بجانبها..
-آسفة
-لا بأس
-جمانة، كاللؤلؤ.   
أمسى الجو باردًا، ساكنًا، وأكثر عذوبة. كل شيء في هذه الليلة يصير حُرًا. نرى ضوءً يمدّ يده إلى جانبي طريق طويل، وخالٍ من أيّ وجهة. الأضواء التي تمر عبر النوافذ، تملك سحر رقيق. اللون الأزرق والفضي يسقطان بنعومة على كل وجه، كل وجه هائم. قفزت امرأة بصوتها من آخر الباص، تغني، كان صوتها حزين ومنطوي، وبطريقة ما منكمشًا ومُغوِيًا. كانت تغني من قُعر جوفها، تتضرع إلى هذه الليلة، ولكنها تصبح أكثر ظلمة وقتامة، تحول السحر إلى عذاب يفوق الوصف، كان كل شخص يحرسُ مخاوفه، وكأن هذا كل ما في الأمر. كانت الليلة تَنكشف في وحشيةٍ أليمة، وكان ضعفهم الإنساني كاملاً، يتقدمُ مُرتخيًا، مائعًا، إلى حِجرِ كل واحد منهم. أصبح الصوت أجش، ليعود إلى جوفها، ويُطْبِقُ الصمت.

٣

اليوم الثاني، ابتدأ متأخرًا، أعني: عندما وزعوا أقلامًا وأوراقًا على الجميع، كانت الساعة تقارب السادسة مساءً، وخيوط ضوء الشمس الأخيرة تتلاشى وترحل. كنّا في منطقة لا تُوجدُ بها إلاَّ الصخورُ الجرداءُ، الجو رّطب وحار، ولا تكاد تَسمعُ إلاَّ تصافق الأوراق، أو الرياح التي تتناهى إلى أذنيك. فجأةً! ألمٌ داخلي، جهودٌ لا تفهم، ووضوحٌ جاف. أيُّ صنعةٍ ليست ضروريةً عَرَضّنا لها أنفسنا في هذه الرحلةِ؟! أيُّ اطمئنانٍ زائف؟! أيُّ سعادةٍ موعودة؟! وأيُّ رثاءٍ هذا الذي أحاول كتابتهُ يا ترى؟! أيُّ شيء يا إلهي! هو هذا. 
 -جُمانَة، هل نركضُ سويةً؟ قالت مبتسمة.
-لنركض، لنركض يا ياسمين.
كان هذا الأمر غير المبرر، إنما هو بسبب حاجة الإنسان للتعبير العاطفي في متناولِ يديّ الآخر. فعندما يتعلق الأمر بمشاعر الآخرين، عليك أن تكون مستعدًا لطرح الكثير من نفسك. أنا وياسمين مجرد غريبتين، في رحلة علاجية، ونحاول أن نساعد بعضنا بطرقنا الخاصة والغريبة.                                                                               
-لماذا التحقتِ بهذه الرحلة؟
-أردت أن أفهم، حتى أختار ما أختاره.     
صار وجهها قِصيٌ، ونظرتها ضبابية ومتحيرة. ثم قالت أنّها تريد أن تتعاطف  مع الجميع مهما كانوا سيئين، ولكنها تخشى ذلك أيضًا. نظرت إليّ، نظرة حشد بأكمله وقالت: 
-أخبريني أنتِ، لماذا التحقتِ بهذه الرحلة؟
-لأنني أحب التجارب الجماعية.
-فقط؟!
-فقط.
-هل تعلمين يا جُمانَة، أنتِ لا تساعدين على إيضاح الفكرة حولكِ بسهولة.
تحدثت بنبرة معلومة وقريبة، جعلتني اقشعر. قلتُ بحدة: ثقتكِ تحجب عنكِ ما قد يريده الآخرون منكِ، على رسلك! لا أحد مستعد لأن يتذكر اللحظات الحارة طويلاً.                                      
عدنا إلى الباص، طلبنا من سائق الباص هذه المرة الاستماع إلى الموسيقى ، ولم يرشح أحدٌ أغنية. 

٤

اليوم الثالث والأخير. حَضَرنا عشاء التوديع المُقام من قبل سائق الباص. لم ينتبه أيّ منّا إلى أنه هو بذاته صاحب هذه المؤسسة التي تتيح مثل هذه الفرص، للمتوعكين، على حد وصفه. وأن ابنته الوحيدة، كانت المرأة التي تجلس دائمًا خلف ظهره. فتمسح عنه إرهاقه ووعثاءه، وتذكره بأن كل هذه الطرق التي يقطعها ليست مخيفة، وأنه لن يضيع. كانت الليلة هانئة هادئة، ولم تكن لها بداية أو نهاية، كانت ليلة وداعية نموذجية في تحفظها عندما نظرتُ إلى ياسمين، كان وجهها يبدو ملتويًا، ولمحت  رعشة خفيفة تسير في  جسدها، وتلكما العينان تُصوران وجوه الجميع.                                           
-ياسمين 
 -ماذا؟                                                     
 -اهدئي، ليس وكأن هذه الليلة هي التي ستجسد حياتنا كلها!
-أفهمكِ وأعرف ما تريدين إيضاحه، لكنني لا استطيع تفكيك الأمور مثلكِ.                                                             
في هذه الليلة حضر القمر وهمس لنا.. أنتم لستم بمفردكم. ولكن، لم يتغير شيء، إذ اطَبق الصمت بعد فترة وجيزة.

٥

تحية وبعد،
إلى جُمانَة التي تبدو كحبةٍ من الرمل، إننا لا نولد إلا لنصير ذكرى. والكثير منّا يصير ذكرى صعبة، وغير ممكن الاحتفاء بها، وهذا يجعلنا نشعر بأننا غير لائقين بهذه الحياة، ولكننا كلما تحدثنا عن أنفسنا رغبنا أكثر في أن ندون سيرة عبورنا. لكنكِ عندما تطلين برأسكِ، على الشيء الذي اسمه حياتك تقلقين، لأن المنظر موحش، ويشق طريقه أمامكِ وحده، حيث لا أحد. النافذة بعيدة، والمسافة بين النافذة ودموعك هو ظلكِ. طوال هذه الرحلة، كنت أفكر في تدفق حياتي، وكانت تشبه ألمًا غير ضروري إلاّ لي، وحدي. كنت مؤرقة بفكرة حزينة؛ أنني كنت دائمًا منغلقة وممتلئة بالشفقة، حتى على نفسي. ولكنني أجدني أستمر في التحديق إلى حياتي عبر أيّ نافذة أجدها. ربما كان هذا قدري، أن أظل طوال حياتي، أراقب حياتي. وأنني قد أفقد حقي في الحياة، إن فقد العالم نافذته، تلك النافذة الإلهية العظيمة. وهذه دعوة لتتوقفي عن كونكِ ظِلاً، فأنتِ تتمتعين بموهبة جعل الناس سعداء حقًا. وقبل كل شيء تتطلعين إلى اتصالٍ بشري، كما أنكِ طالبة مستعدة للحياة. 
لقد تعلمتُ منكِ الكثير، لقد كففت حقًا عن فرض أيّ تصوّر، لن أظَفر به أبدًا.

٦

طلع الفجر، رأيت الليل يتفكك وأتفكك معه، الفجر الأحمر يذوب مع هذه الشمس الذهبية بانسياب وتناسق. الآن أنا ممددة على سريري. هكذا انتهت ثلاثةُ أيام بلياليهن. نهضتُ لأنزل الستائر على وجه النافذة، سمعت وقع قطرات المطر، وعلى صوتها ذهبت في نومٍ عميق.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي