قمر
…
كنت بين اليقظة والمنام أُفكِر في ولعكَ الشديد بعرائس البحر، أُهدهد بين يدي عروسًا جديدة اشتريتها لك عندما وقف على رأس سريري عسكري يتطلع في! صرختُ في وجهه مفزوعة وقمت هاربة استفسر عما يحدث. جاءت قوة أمنية ضخمة في الفجر وكسر العساكر الباب. وجدت الصالة مكتظة برجال الأمن وأمي تقف في منتصف الصالة على وجهها ابتسامة واثقة.
لا أظن أنكَ تعلمُ أنهم قبضوا على أبي وأودعوه السجن بسبب مقال.. لم يكن مقالا بالشكل المتعارف عليه، مثل التي كان يكتبها بالماضي، كانت هذه المرة سطورا على الفيسبوك، غضب رجل ستيني عاش، هو وجيله، جُل حياته في خيبات متتابعة. يبزغ الأمل ويداعبهم ويبعث فيهم الحياة للحظة، ثم ينتهي به المطاف تحت «كاب الجاويش» مثلما يقول دائمًا. الأمل والأحلام كلها تحتضر تحت كاب الجاويش.
حتى هذه اللحظة لا أدرى سبب ابتسامة أمي الواثقة، ربما كانت تتذكر الماضي عندما كان يأتي زوار الفجر بعد كل مقال ليقبضوا عليه. حاول أن يُخيفها قبل أن يتزوجها:
– أنا لا أجيد أي شيء سوى الكتابة التى تُغضب الجاويش يا فاطمة
سألته في اتهام:
– الكتابة فقط التي تجيدها يا إبراهيم؟
أجابها في عجلة تستنكر السؤال:
– وطبعًا أحبكِ
لم أكن أنا في شجاعتها، ولم تكن أنت صادقًا مثله في تعريف ما تجيد وما لا تجيد. نعم تجيد الكتابة مثله ولكنك لم تُقر مثلما قال هو: وطبعًا أحبكِ.
هي لم تكن تريد أن تتأكد إن كان يحبها أم لا، وأنا لا أقصد سؤالك إن كنت تحبني. لكن هناك إجابات رغم أنها واضحة وصريحة، إلا أننا لا نمل من سماعها بين الحين والآخر.
غضبت جدتي أيما غضب عندما حملتني فاطمة إلى سجن طُره حتى أقابل أبي للمرة الأولى بعد ميلادي. قالت لها جدتي:
– يا فاطمة أنت نفساء. أول خروجة للبنت الصغيرة تكون سجن طُره. هل يُعقل هذا؟
لم تهتم فاطمة بكلام جدتي، تزينت وذهبت إلى السجن بديعة كي تُذكّره أنها باقية هناك جميلة كما عهدها.. تنتظره وعلى كتفها المستقبل متجسدًا في بكائي
كنت أرتدي في ليلة القبض عليه التيشِرت الأزرق الذي أحضرته لي من نيويورك، الذي يتوسطه عصفور صغير محلقًا بجناحيه فوق سلسلة حديدية كُسرت بعض حلقاتها. أعرف أنك كنت دائمًا تحب أن تراني أرتديه، لرمزية العصفور الصغير الذي يعافر من أجل الحرية.
نعم مازلت ارتدي أشياءك، لأن التذكّر يُخلّد الحياة كما يقولون. لم أقطّع أوراقك بل أحافظ عليها مثل الأمانة التي سوف تعود يومًا إلى صاحبها. تغيرت أشياء كثيرة في غيابك حتى وإن لم أستطع حتى هذه اللحظة تعريف الغياب. ثمة غائبون وهم في أحضاننا وهناك من هم في أحضاننا ولكنهم غائبون!
لم تهن ولن تهون أبدًا يا عُمَر. كنت أرتاح فقط من احتمالية وجودي معك. لم أُحوّل ماضينا إلى حكاية بعد. سوف يظل جزءًا منك عالقًا في ثنايايا طول السنين. حماقات المستقبل ربما فرّقت بيننا، ولكني مؤمنة بهذا اليقين، بأن الغائب لا بد أن يعود. وبناء على هذا اليقين تحول غيابك إلى مجرد انتظار، تمامًا مثلما كنت تسافر في الماضي وفي النهاية تعود. حوّلت انتظاري إلى شوق، والشوق سوف يفوز حتمًا باللقاء. أذكر كلامك:
– لا مكان للموج سوى البحر يا قمر. ربما تتهور هذه الموجة وتسافر بعيدًا، ولكنها في النهاية تعود إلى حضن البحر.
أنت الذي علمتني أن الحب العظيم لابد أن ينطوى على معاناة، وكنت سعيدة بالمعاناة لو كان هناك وعد ضمنى أو منطقي بأن الحب يمشى معي في نفس الطريق. ربما أنا التي ضللت الطريق.. ربما أنا التي فشلت في معرفة الإتجاهات الصحيحة وتفسير الإشارات. لكن حتى وإن كان هذا صحيحًا، أليس الفشل في تجارب الحب الأولى هو الذي يبرر الحياة ويسوغها؟
لذلك أكتب إليك.
راحت ابتسامة فاطمة بعد اليوم السابع، قضت النيابة بحبسه ١٥ يومًا احتياطيًا. في الماضي كان شبابهما يتحمل أرض الزنزانة الباردة وزيارات النيابة والجري خلف عربة الترحيلات في شمس أغسطس. كان جهلهم بالمستقبل يقويهم ويمنحهم فرصة ولو ضئيلة بأن هناك في الأفق أمل. لكن لا تنسى كاب الجاويش الذي يبلع كل شيء حتى الإنكسارات!
مرت الأيام تصرع بعضها الآخر، وها أنا ذا مسكورة لا أدري ماذا أصنع. الرعب يخترق روحي كسيف مسموم وأنا أستمع كل يوم في النيابة وأقسام الشرطة إلى الأصوات المحطمة. الشعور بالفقدان مرة أخرى يملأ نصف قلبي والنصف الآخر خاوٍ تتراقص فيه مخالب الأفكار السيئة. نجلس في المساء في الصالة التي شهدت ابتسامة فاطمة وهي تسلمهم إبراهيم. نأكل الصمت ونتنفسه. طول النهار نتحدث مع محامين يتفننون في خلق أبجديات قانونية تخنقني. لأول مرة تذهب فاطمة إلى النقطة والاحتمال الذي نتجاهله. ماذا لو مات هناك؟
أشعر أنني أشيخ باكرًا لا بسبب الزمن أو بسبب ما يقع فيه من أحداث ثقيلة مثل الجثث!
أنا أشيخ لأنني وحيدة! لذلك أكتبُ إليكَ.
عُمَر
….
مهما صَغر أو عظم حجم الفقدان، تقف كلمات المواساة عارية من المعاني أمام هذه الدقائق والساعات والأيام التي سرقوها منكما. لقد استولوا بكل بساطة على جزء لن يعود من حياتكما. لا أعرف كيف يأتي الناس بالشجاعة عندما يقول شخص لآخر: أنا أشعر بما تشعر به. هذا مستحيل.
نانسي زميلتي في العمل مات زوجها جوزيف ولم تُخبر سوى القليل. يوم موته، جاءت إلى العمل حتى يتم الإنتهاء من إجراءات الدفن. لم تعرف نانسي رجل في حياتها سوى جوزيف. تزوجا في عمر السابعة عشر ولم يفترقا إلا في صباح هذا اليوم عندما طرق الموت بابهما.
ذهبتُ إليها وجلست على مقعد في مكتبها ولم أنطق بحرف. حبسني العجز لا أدري ماذا أصنع وماذا يجب أن أقول. كيف لي أن أواسي أربعين عامًا من الحياة؟ لم أتحرك لدقائق وهي تنظر لي في شفقة! قمتُ من مطرحي وحضنتها ثم ذهبت. المشاعر مثل بصمة الإصبع لا تتكرر أبدًا ،لذلك لن أقول لك أنا آسف لأنهم قبضوا على والدك. فقط أصلي وأدعو أن يعود سالماً.
لقد علمتُ بالخبر مؤخرًا ، وقد قرأت البوست الذي كتبه وعلّقت عليه أيضًا. البوست كان عبارة عن سطور ناصحة، فقد نصح جيلنا في الأربعة سطور ألا نأمن للجاويش وجاء بثلاث أمثلة من التاريخ. كان مخلصًا لا يريد لنا أن نخيب.
إهتمَ الشباب بالبوست وتجمعوا حوله في نقاشات مُتحضرة، وهذا ما أخاف الجاويش: أن يتجمع الناس حول أي شيء وخصوصًا إذا كان هذا الشيء هو رأي واحد، لذلك قبضوا عليه. هم لا يريدون الوجوه القديمة أن تظهر مرة أخرى، وأيضا لا يريدون أن تأخذ وجوه جديدة مكانها. هم يريدون مسخًا وعرائس يحركونها بالحبال من خلف الستائر. يريدون أبجديات خالية من علامات التعجب وأدوات النفي والاستفهام.
رفض أبيك أن يفعل السهل وأن يسلك نفس الطريق الذي سلكه العديد من أبناء جيله: أن يصبح صاحب عمود رأي في جريدة قومية يكتب كل يوم عن الإنجازات التي لا يراها إلا الوطنيون. أن يحذرنا من أعداء الوطن في الداخل والخارج. لكنه رفض أن يمشي مع نفس القطيع الذي كان يسخر منه.
كنت أفكر فينا عندما نكبر. أراني عجوزًا هزيلاً نفذ صبره. وأبتسم وأنا أراكِ دائمًا هيفاء، يافعة، ناهدة، عفية. كيف لقلب مثل قلبك أن يشيخ؟ القلوب والعيون لا تشيخ أبدًا ياقمر. نعم.. «الوحدة» جُثة ثقيلة تقصف ظهر من يحملها. لا يوجد في الوحدة أبطال، لذلك أنا سعيد لأنكِ كتبتِ لي.
يقولون أن أصعب اللحظات في حياة الإنسان تلك التي يمتلأ قلبه فيها بالأوجاع ويعجز عن الكلام. أنا الآخر كتبت كثيرًا، ولكني كتبت عن أشياء لا أتذكرها، لا أكتب عن الأشياء التي لا أنساها أبدًا. حتى على الورق، أجيد المراوغة والتحايُل رغم أن الورق لم يجادلني يومًا أو يتهمني بالهروب. الورق يمدني كل ليلة بسلاحٍ جديد أقتل به نفسي في كل نهار مائة مرة.
سألتُ نفسي مرارًا بعد كل هذه السنين، هل أتعلّم أخيرًا أن الحياة ليست أطروحة وإضافة؟ ربما تأكدتُ الآن أن الحياة بالنسبة لي مجرد تراكمات من الخسائر التي سببّها الإنتظار: أنتظر الشمس حتى أترك المنزل، أنتظر المزاج الرائق حتى أكتب، أنتظر زوال الأرق حتى أنام. ضاعت الحياة وأنا أنتظر. لقد أخطأتُ عندما تركتُ الحياة تحدث، كنا نحن الذين نطاوعها ونرفق بها رغم أنها تعاندنا، نضحك لها، وتُجافينا، ونتهادى معها دون أي اعتراض، اتخذنا من موافقة الآخرين مؤشرًا حتى نرضى عن أنفسنا.
كانت لدي أحلام كما تعلمين ولكنها اختفت أثناء الحياة.. قتلها الإنتظار.. حطّمها وألقى بها بعيدًا كخرقة بالية متسخة لم يعد لها حاجة. كنت أحلم بك مرارًا تأتين إليّ وتلتقطين هذه الأحلام من الأرض، تمسحي ما عليها من تراب وتأمريني في ثقة: خذ.. هذا حلمك.. وقع منك.
أنا لا أريد المزيد من الإنتظار، أريد أن أعود. عندما قرأت كلماتكِ، تأكدتُ أنه حتى وإن لم نقُل وداعًا ولم نُرتب طقوس الفراق، وبرغم البعد والمسافات لكنني مازلت أشعر حتى الآن أن كلا منا رهنًا للآخر. أريد أن ألتقط حياتنا من تلك النقطة التي تركتكِ أو تركتنى فيها، أشتاق لتلك النظرة العاشقة كي أستكنّ إليها طويلا بقدر الإمكان. أعرف أننا عندما نذهب ونعود، لا نكون نفس الشخص الذي كان. عندما نذهب، نترك هناك جزءًا منا متمردا يرفض العودة. ربما ذلك الذي تركته هناك هو الجزء الذي أكرهه وتكرهينه.
لا يهم الآن منْ ترك منْ، لأني كنت صادقًا عندما قلتُ لكِ أن الأمواج لابد أن تعود للبحر وتلك الموجة المتهورة التي تختار أن تبتعد، سوف تبلعها رمال الشطآن. أنا أشعر بالحنين للزمن الماضي الذي أمضيتُه في رحابكِ. بإختصار هذا الحنين يمنحنى أحاسيس مريحة ودافئة نحو نهاية كريمة.
لم أفترق يومًا عن عرائسِ بحركِ، اصطحبهم معي من مدينة إلى مدينة. أرصّهم على كل مكتب مؤقت أجلس عليه. الفنادق باردة لا طعم لها، مجرد حالة مؤقته بدونك. كيف جعلتِ من غرفة الفندق دارًا وأسرة وتاريخ؟ وها هي المعاني تنسلخ عن كل الأشياء لتعود بدونك إلى لا شيء. أكتب وأتحدث إلى العرائس القابعة أمامي على المكتب. أقرأ عليهم ما كتبت وأمسح الجُمل التي لا تروقهن.
كانوا يمنعوننا من نزول البحر ونحن صغار. يحكوا لنا أن عرائس البحر سوف تخطفنا إذا نزلنا الماء دون رقيب أو كبير في السن يحمينا. كنت أهرب في المساء وأنزل البحر أملا أن تحتفظ بي احداهن. أكتُشف أمري عندما رآني جار لنا ووشى بي عند والدي الذي كان سعيدًا لأنني أتعلم السباحة بمفردي. لكن أمي جاءت بمزيد من الأساطير السوداودية عن عرائس البحر.
الأسبوع القادم في تمام الساعة الثانية عشرة تهبط طائرتي، فقط لكي أكون معك. عندما أعود أحب أن أخذك إلى مكان بعيد، أحلم بنفس المكان الذي كتب عنه كافكا في رواية القلعة: «أحلم بمكانٍ عميق وضيق حيث يمكننا أن نربط بعضنا البعض في أذرعنا كما هو الحال مع المشابك وأود إخفاء نفسي في داخلكِ وأن تخفي نفسكِ في داخلي ولا أحد يستطيع أن يرانا أبدًا.»
ختامًا…
أخبري الناس أنكِ كنتِ مولعة بي يا قمر، أنكِ حبيبتى، أنني اختصرتُ العالم كله فيكِ، أني لم أكن شخصًا سيئًا. واعلمي جيدًا أنني لم أندم على كلمة قلتها لك، الندم جريمة في حق الماضي الجميل الذي أُقدّسه، وتنكيل عبثي بذكرياتي معكِ. السمة الرئيسية للندم أنك لا تستطيع القيام بشيء حياله ولكني سوف أقوم بأشياء كثيرة للإعتذار والإصلاح… وطبعًا أحبكِ.
صورة الشريط © حيدر ديوه چي