رحلة إلى تونس، أو الموت

كان جالسا يتناول كؤوسا من الجعة عندما أطل فلم رديء على فيسبوك بشرح معقد لم يفهم منه إلا أن رجلا ما تعرض للرماية، مشهد الدم الذي تلطخت به الشاشة الزجاجية كان سورياليا. يقف شاب ليس له ملامح واضحة – بسبب الجودة الرديئة للفلم – على سور مليء بثقوب العيارات النارية، بالقرب منه يقف رجل يرتدي بنطالا عسكريا أخضر وقميصا عليه صورة جيفارا، ويضع على رأسه قبعة عسكرية يخرج من جوانبها شعره المجعد. تعرف عليه فورا. كان الجندي ممسكا بمسدس وقد صوب فوهته الى وجه الشاب الواقف. يصيح به: «أوقف باهي»، يحاول الشاب أن يتمالك نفسه من الارتعاش والوقوف مستقيما، يطلق الجندي رصاصة بجانب رأسه، فلا تعرف هل كان يتخيل الموت يدخل جسده الآن، أم أن عقله قد غاب عن الوعي بكل ما يحدث حوله. كيف كان يسمع صوت الرصاصة بجانب أذنه، بالريح الذي هب معها، برائحة النار، بأصابع ملاك الموت تمازحه. صوت من الخلف ينادي الجندي «أقتل الزَّب فيسع»، يضحك الجندي ثم يسأل الشاب «تعرف تشهّد والاّ لا؟ – خوذلك دقيقة هيْ، باش تعرفني ترّاس للزَّب معاك»، حلت ثوان من الصمت، ثم صوت رصاصة أخرى عم بعدها السكوت مجددا. يجري المصور صوب القتيل وتقترب عدسة الكاميرا من وجهه. ملامح ملطخة بالدم.
ظلت السيارة تشق الطريق المتكسر والأفق يحمل في كبده دخانا في كل الاتجاهات، الموسيقى ترتفع من الحافلة المكتظة بالركاب المسافرين لتونس. تونس الأم الحنون لكل الليبيين، البلد الذي يفرغون فيه طفولتهم وعربدتهم، يسيرون في طرقاتها عراة، ينفلت شيطانهم الذي يمسكون به كل يوم بقبضة أيديهم، يتحركون فيها بلا توازن، ويتكلمون فيها بلا توازن، ويضحكون فيها بلا توازن، ويحبون الفتيات العاشقات للحرية بلا توازن، ويمسكون بيومها بأكمله بافتعال الكحول، وبالطبع بلا توازن. هي المستشفى النفسية والطبية لهم، من دونها سيمتلأون بالعقد، وسيتحولون لوحوش ضارية تمشي على الأرض بحثا عن فريسة تأكلها وهي نيئة، وما يفعلونه في تونس يبقى دائما في تونس، هم لا يوردوه لبلادهم، يدعونه هناك، فيعشقون الميني سكيرت في تونس، ويلعنونه في بلادهم، ويعشقون رائحة فودكا تونس فيطلقونها بأفواههم في الشارع، ويخفونها كبحا في بلادهم، ويتركون شياطينهم تلهو مع الأجساد البضة في تونس، ويمسكونها في بلادهم بقوة حتى تنفلت شرايينها. تخيلهم يعيشون من دونها، تخيّل وحشا محبوسا في قفص لزمن طويل قبل أن يُترك، ماذا سيفعل؟
بعيدا عن تونس وقريبا من الموت، كانت السيارة تشق الطريق عندما لاحت في القريب نقطة أمنية، كان الجميع متوترون، ففي منطقة حربية كهذه لا يمكن التكهن بماهية النقطة الأمنية ومن الجهة التي تديرها. كان الحديث بين أحد الركاب والسائق يدور حول الرجوع والبحث عن طريق أخرى يمكن العبور منها بعيدا عن هذا الاتجاه.. 
– ارجع يا سواق…
– ما تشوفش في أم المدفعية اللي موجهة اتجاهنا؟ حاطينها زينة هكي؟
كان أحد الركاب يمتلك جهاز «تجي بي إس»، وهو من قادهم إلى هذه الطريق، تكلم عن ثقة:
– حني بعاد عليها، ماشيين في الطريق الصح!
– وكان نتناكوا في جرته جهازك؟ قال السائق منزعجا من تفوق جهاز «تجي بي إس» على خبرته.
ظل السائق يقود الحافلة حيث نقطة اللاعودة. كان الجِن، وهو أحد الركاب، منكمشا على نفسه ويحدق في وجوه الركاب تارة ومن ثم يطيل التحديق في السيارات المسلحة التي بدأت تقترب، وقبل أن يدرك أنهم وقعوا في شرك ما يسمونه بوابة وهمية، وهي ذلك النوع من النقاط المتخصصة في السرقة والخطف والقتل، كانت الحافلة قد وصلت النقطة، فأسرع الجِن يخبئ جهاز النقال الخاص به وماله في أماكن حدس أنهم لن يصلوا إليها، ولكن ذكاءه خانه عندما أطل على نافذته أحد المسلحين وهو يضحك ساخرا منه.
– فاش إدّس يا قوّاد؟ 
ابتسم الجِن وقال: آه؟! لا شي، غير نساوي في حوايجي.
– باهي إنزل توَّ نساويهملك أنا.
كانت البوابة الوهمية متوشحة بالسواد، مجموعة من الرجال المسلحين، بعضهم يرتدي بناطيل جينز وآخرون يرتدون بناطيل عسكرية، كانوا عشرة رجال، وسيارة تحمل مدفعية بها اثنيْن، وسيارتان أخريتان تحملان مدفع صواريخ مضاد للطائرات، سور عال يطل على البحر ومثقوب في كل مكان، يحمل على عاتقه عبارات الدم: «لا نرحم من خاننا»، «الموت للخونة»، رائحة الجثث المخلوطة بالنفايات كانت تنفذ إليهم من وراء السور، عبارة «ممنوع وضع القمامة» مكتوبة في كل مكان بعربية ركيكة، ولا وجود لأعلام توضح من هؤلاء المسلحين، كانوا منتشرين ومصابين بالهياج كالكلاب المسعورة التي تبحث عمن تعض. اصطف الركاب والسائق أمام الحافلة، تقدم نحوهم ملثم حاملا على ظهره كلاشنكوف وممسكا في يده بكيس أسود.  
– هيا اللي عنده نقال يحطه في الشكارة والا نفرغ الكلاشن في دماغه. 
هلع الجميع يبحثون عن أجهزتهم، يفتشون عن حياتهم، العرق يتصبب منهم، وهاجس اقتراب الموت في كل ثانية بعد أخرى يخيفهم. كان الجِن أيضا مستسلما لما يحدث، ناداه الملثم «انت، خوذ منهم نقالاتهم»، أسرع الجِن يحرض البقية أن يسلموا أجهزتهم المحمولة، «هيا يا ولاد، اللي عنده نقال يجيبه»، ظل الملثم واقفا ينتظر إلى أن سلمه الجن الكيس الممتلئ، أمر صاحب القبعة العسكرية الملثم أن يفتشهم الان، ثم نظر نحوهم وصاح «عالأرض انت وياه»، أسرعوا في الجثو على الأرض، بينما تحرك الملثم نحوهم وبدأ بتفتيشهم واحدا تلو الأخر. كان الجِن واقفا بعيدا عن باقي الركاب، يتحدث مع صاحب القبعة العسكرية محاولا اقناعه بأن يتركهم وشأنهم. سأله صاحب القبعة العسكرية:
– انت من وين؟ 
أخرج الجِن جواز سفره وقال: من هْني، عندي عيت جدي.
تفحص صاحب القبعة العسكرية الجواز ومن ثم رماه في وجهه. 
– رغم إنّي ما صدقتكش، لكن باهي وخلاص، جيبلي اللابتوبات منهم. 
كان الملثم في هذه الأثناء يفتش الراكب بعد الآخر. أحد الركاب كان طبيبا يحمل معه مبلغ مالي كبير، وجهه يكاد يدركه الموت، نظر إليه الملثم وقال: «فرغ شنطتك»، أسرع الطبيب يفرغ حقيبته.
– ما شاء الله ما شاء الله، علاش ما طلعتاش اللب تيوب متاعك؟ انت من وين؟ وين ماشي بيهم الفلوس هاذم كلهم؟ 
ولم يقدر الطبيب على إجابة أي سؤال. 
– أنت خليك بروحك يا زامل. أخرج الملثم مسدسه وأطلق رصاصة على وجه الطبيب، ثم انتقل يجمع المال ويتفحص هويات الآخرين. كان الجِن في ذلك الوقت قد تلبس شخصية المسلحين بالكامل، يتكلم مع هذا، وينفذ أوامر ذاك.
سلم الملثم المال لصاحب القبعة، والذي قال لهم بعدها بنبرة ضاحكة:
– غير صحيح هكي يا ولاد، أنتم ماشيين تسكروا وتنيكوا في تونس، وحني هْني ينيك فينا النحاس.
سيارة إسعاف كانت قادمة بسرعة نحو البوابة، نظر الجِن تجاهها وقال في سره «أرجوك، لا تكوني محملة بالموتى!»، كان بعيدا عن الركاب، والذين أصبحت تراودهم وساوس أن الجِن احد هؤلاء المسلحين، وأنه قد يكون هو المدبر لهذه العملية الدنيئة، نظر الجِن إليهم فأحس بشكوكهم تجاهه، قال في سره: «لو ما قتلوناش، ممكن يقتلوني الزوامل»، فهو الوحيد الذي لم يجبره الملثم على إخراج جهازه المحمول ولا حتى ماله. أخيرا قال صاحب القبعة للركاب الجاثمين:
– شوفوا، أنا بندير فيكم خير، باش تعرفوني قداش قدر، حناخذ من كل واحد منكم جزء من المبلغ، وبروا انتو لتونس اسكروا ونيكوا زي ما تبوا. 
وصار يقتطع جزء من مال كل منهم ويوزع عليهم صدقاته. كانت سيارة الإسعاف قد وصلت، أسرع إليها المسلحين وفتحوا صندوقها، بينما نزل السائق منها غاضبا وانطلق فورا ناحية الركاب.
– اقتلوا زكمهم كلهم ولاد القحبة، مش خير من التريس اللي ماتت في الجبهة..
كانت سيارة الإسعاف ممتلئة بالجثث، أيدي وأقدام القتلى بملابسهم العسكرية الممرغة بالتراب والدم، وجوه لا يتضح منها إلا الأفواه المفتوحة، صدمة الموت. أخرج سائق سيارة الإسعاف مسدسه وأطلقه ناحية الركاب، مرت الرصاصة كالجنون دون أن تدرك أيا منهم، أمسك سائق سيارة الإسعاف أخيرا بالجِّن وجره إلى السور.
– تو نصفيهم واحد واحد – وأطلق رصاصة تحت قدميه – ها شن رايك في الرصاص؟ مش بنته أقوى من الويسكي؟
أوقفه صاحب القبعة بأن حزّ بينهما. ثم التفت لسائق حافلة الركاب وقال: 
– توَّا تطلع وتْشد الطريق، تْولّي والا تمشي بالشوية حنيكك بالأربعطاش. – ووجه أحد راكبي مضاد الطائرات فوهة المدفع نحو الحافلة.
أسرع المسافرون في الركوب، نظر الجِن إلى الخلف قبل أن يركب. كانت سيارة قد توقفت في البوابة للتو، وبها شاب يسافر لوحده.
كان في الحمام يفرغ مثانته من كمية الجعة التي شربها، ويحاول أن يتعرف على وجه القتيل الذي رآه في الفلم. مر شريط البوابة الوهمية في رأسه، لحظة ركوبه للسيارة، كان هناك شاب بملامح طفولية ووجه يبعث على الحياة، كان منطلقا لتونس ربما، أوقفه صاحب القبعة العسكرية الذي أخبرهم بأنه سيصنع بهم معروفا، ثم مر برأسه الشريط: كان شابا بملامح طفولية تبعث على الحياة، رغم رداءة جودة الفلم، يتعرض للرمي برصاصة، ثم يسقط جثة هامدة بلا حراك، وفوق رأسه عبارة «ممنوع وضع القمامة».


صورة الشريط © حيدر ديوه چي