شاي أسود مع الأشباح

كنا يومها في مقهى لم أعد أذكر اسمه، إلا أنني أذكر مكانه: الطلعة أعلى درج الكلحة، بين وسط البلد وجبل اللويبدة. أنتِ وأنا ويحيى وسليم. كنا أربعة، تمامًا كما في شاي أسود لربيع جابر: من الفرسان الثلاثة بيننا ومن الآخر المُهلوس؟ أعرف أنها استعارة رديئة، بل مليئة بمواضع العناد، فلا أنا أشبه حسام ولا يحيى وسليم قتلة كما إلياس وربيع. 
تحدثنا مطولًا عن ربيع جابر يومها، وعن شاي أسود بالتحديد. لقد نسيتِ أن تحذفي تعليقك عن الرواية على غودريدس (كما الحي كذلك الميت، كلاهما نساءان، أليس كذلك؟)، لذا أرجو ألا تغضبي من تلصصي. لكن، بعيدا عن بغضك للرواية – التي شبهتِ قراءتها بـ «ألم وعسر في القراءة» – من أنتِ؟ أعني حقًا من أنتِ؟ 
طُلب مني مؤخرًا ترجمة فصل من كتاب يُدعى «أشباح الماضي» لمارك فيشر؛ استوحى عنوان كتابه من أغنية «أشباح» لفرقة يابان. يغني ديفيد سيلفاين بحيادٍ لا يكسره سوى لوعة تظهر جلية في نهاية الكلمات «تمامًا عندما اعتقدتُ أنني أفوز / حين حطمتُ كل الأبواب / هبت أشباحُ حياتي بجموحٍ غير مسبوق / تمامًا عندما اعتقدتُ أن أحدًا ليس بمقدوره إيقافي / حين حلت فرصتي لأكون ملكًا / هبت أشباح حياتي بجموح أعتى من الريح». 
عزيزتي، بحكم تشابه التخصص – ولأنك لم تخسري علامة واحدة في امتحانات البلاغة كما يظهر في إجاباتك التي تملأ خزانتي – سأسألكِ سؤالًا، في الأعلى استعارة، المشبه به هو أشباح الحياة، أما المشبه محذوف، فما هو؟ إشارة: مات مارك فيشر منتحرًا، في نفس الفترة التي جلسنا فيها في ذلك المقهى الذي أغلق أبوابه، وارتدى لبوسًا آخر الآن. 
بما أنني سألتُ من تكونين، دعيني الآن أقلب السؤال ليصير: ما أنا؟ أرجو ألا تسمحي لي بذلك، فهذا السؤال يزعجني. 

يأخذ يضحك، والضحك يتحول إلى قهقهة قوية. يقهقه وحيدًا في العتمة. يقهقه حتى توجعه عضلات بطنه. يهدأ تدريجيًا. يظل يطلق أصواتًا مقتضبة صاخبة: إنه سعيد. إنه سعيد بقوة وصخب وعنف.

– ص ٥٠
هذه فقرة من شاي أسود. أتشبهكِ أم تشبهني أكثر؟ من منا مكسورٌ أكثر كي يضحك كل هذا الضحك؟ يقال عادة عمن مات إنه ارتاح، هل أنتِ مرتاحة؟ لو كنتِ مرتاحة فما المانع لو جلسنا مرة أخيرة، لنتشاجر حول الرواية؟ ستقولين ما هذه الأسئلة الغريبة، ومعك حق فقد بتُ غريبًا، ليست تلك الغرابة التي تسعى جاهدة كي ينظر إليها. في صغري كنت أفعل ذلك كثيرًا: أسرح شعري بطرقٍ عجيبة، أُدني من بنطالي اتباعًا للموضة، أصرخ وأدلي برأيي في كل شيء، كما أحتقر كل من له رأيٌ مخالف. كل هذا انتهى بانتهاء المراهقة، المراهقة التي طبعتها الرداءة، ولم يتبقَ سوى غرابة في عقلي، كما لأورهان باموق أن يصفها.

أغلقوا على جمجمة بشرية واحدة في غرفة صغيرة واذهبوا ودمروا العالم كله ولسوف يظل محفوظًا في داخلها. ألغوا جمجمة واحدة فقط، اسحقوا جمجمة واحدة فقط، وها أنتم قد قضيتم على عالم بأكمله. تعازينا الحارة سيداتي سادتي، اللعنة عليكم.

ص ٦٩
كيف حالك؟ أُسأل عادة، ومراعاة لطبيعة السؤال اللا مبالية بحالي حقًا، أقول إنني جيد. إلا أن المسألة مختلفة، حتى مع أولئك المهتمين فعلًا بحياتي. كيف تقول مثلًا إنك حزين، أو سعيد، كما حسام، دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن ما يقال يصير هو الحقيقة، حتى لو لم يكن كذلك؟ أنا سعيد بقوة وصخب وعنف، وأي شيءٍ سوى ذلك يظل محصورًا داخل جمجمتي، محصورًا مع أشباح حياتي. 
صراخ: جمجمتي، وأشباح حياتي، وأنتِ، كلكم لي. 
ولأنك شبح حياتي، سأعترف لك بأنني حزين، وبأنني حزين لأنني حزين. عشت فترة طويلة أقدس الحزن بوصفه يضفي رونقًا على حياة ولدٍ في بداية سنوات العشرين. لكن أصابع قدمي تتخدر كلما رأيت فرحًا لا أستطيع اقتحامه، فلمَ الكذب إذن؟ أنا حزين لأنني لست سعيدًا، وحزين لأنني لا أملك مبررات للحزن. ما أريد أن أقوله، بعيدًا عن طق الحنك: كيف، بالله، لم تعجبكِ «شاي أسود»؟

يتذكر الآن أنه ضحك وقال لها: أنت هبلة كبيرة.

ص٢٥
يا شيخة نشرها وهو لسا ٢٣ سنة، يعني انت فعلًا هبلة كبيرة! 
وبما أننا استحضرنا باموق، دعيني أستعيد روايته الكتاب الأسود. القصة بسيطة، رؤيا وغالب زوجان، تختفي رؤيا في الصفحة الأولى كما أذكر، مخلفة وراءها رسالة وروايات بوليسية، فيبدأ غالب بملاحقة آثارها، التي تتلخص بالأماكن التي سبق أن مشت فيها، أو في مقالات جلال صاليك، أخيها، التي اعتقد غالب بسذاجة أن بإمكانها أن تقوده لها. ببساطة، غالب كان لديه شبحٌ واحدٌ في حياته وقرر ملاحقته، دون أسئلة: هل كان يحبها، أم إن حدثًا كما الاختفاء جعلها تتسامى، كالأشباح، على الواقع بما يشمل من طرقاتٍ وحكايا ونصوص مبعثرة هنا وهناك؟
لم أُكمل الكتاب الأسود. لم أعرف الفقد حينها، ولو كنت أعرف أنني سأفقدك لما حاولت قراءتها أصلًا. هذه الوحدة التي أشعر بها وأنا أحاول استحضار صوتك ووجهك قبل أن يلتهمهما النسيان، لا أريد لها أن تتلون بأفكارٍ لا تخصني وحدي. ومع ذلك، ها أنا مثل غالب، وبعد مرور سنوات على رحيلك – هل رحلتِ حقًا؟ أسهو فأتساءل! – ما زلتُ ألاحق أشباحك كما الممسوس، من نصٍ لآخر، من رواية لأخرى، في المواقع التي خلفتِ فيها عظامًا لألعقها بعينين زائغتين، ولا أجد، في النهاية، سوى طيفي يلاحق طيفًا غاب عند ناصية الشارع، فهلا أبطأتِ قليلًا؟
عزيزتي، لقد بات لدي مؤخرًا هوسٌ جديد: الألعاب الإلكترونية. 
أجلس بالساعات وراء الشاشة، حتى تصير يد التحكم جزءًا مني، بل امتدادًا لجسدي. هذا عالم كان ليبرع الشنفرى فيه دون مجهود، حيث سيجد أهله المفقودين إذ لا أكثر من الحيوانات في عوالم الألعاب «لي دونكم أهلون: سيد عملسٌ وأرقطُ زهلول وعرفاء جيأل». ومن غرفته، في مكانٍ قصي مجهول، من خلف عدسة كاميرا صغيرة، سيخرج على العالم، في بثٍ مباشر وهو يلعب فورتنايت ليتفاخر بنفسه كلما قتل لاعبًا «وَكُـلٌ أَبِـيٌ بَاسِـلٌ غَيْـرَ أنَنِـي.. إذا عَرَضَتْ أُولَى الطَرَائِـدِ أبْسَـلُ / وَإنْ مُـدَتِ الأيْدِي إلى الزَادِ لَمْ أكُـنْ.. بَأَعْجَلِهِـمْ إذْ أَجْشَعُ القَوْمِ أَعْجَلُ / وَمَـا ذَاكَ إلا بَسْطَـةٌ عَـنْ تَفَضُـلٍ.. عَلَيْهِـمْ وَكَانَ الأَفْضَـلَ المُتَفَضِـلُ». 
لكنني لستُ الشنفرى (سترفعين حاجبك الأيسر أمام هذه الجملة)؛ ألعبُ ألعابًا أسهل، ألعابًا بحاجة لصبرِ من لا يمتلكون مهارات كافية، لا في الألعاب فحسب، بل في الحياة أيضًا. 
شاهدتُ قبل أسبوعين فيديو لهيديو كوجيما، صانعِ الألعاب الياباني، يتحدث فيه عن لعبته الجديدة «ديث ستراندِنغ». في عالم اللعبة، انتهت الحياة كما عهدناها، واختبأ الجميع في ملاجئ تحت الأرض. نلعب بشخصية تُدعى سام بريدجز، عامل يقوم بتوصيل طلبات خاصة إلى وحدات استقبال موزعة على خريطة كبيرة. سام يكره أن يلمسه أحد، شخص عُصابي، ولا يمل من الجبال التي عليه قطعها راجلًا؛ إذ اختفت وسائل النقل السريعة. يقول كوجيما «أنا مُعرضٌ بشدة للوحدة. أعتقد بوجود عديدين مثلي حول العالم، خاصة اللاعبين. ورغم أنهم يستمتعون بصحبة بعضهم عندما يخرجون، فإنهم لا يشعرون بالانتماء لمجتمعهم أو محيطهم حين يخلون إلى أنفسهم ليلعبوا الألعاب الإلكترونية في غرفهم. لذا حين يلعب أولئك هاته اللعبة يدركون أن أناسًا يشبهونهم موجودون في كافة أنحاء العالم. سيعرفون أنه رغم إحساسهم بالوحدة، فثمة آخرون يشبهونهم، ما سيجلب الراحة لهم. وذلك ما أرغب أن يشعر به الناس حال لعبهم اللعبة».
عزيزتي، كوجيما مجرد نصاب آخر، إذ كلما لعبت اللعبة تعاظم إحساسي بالوحدة: كل تلك الأرض، تلك الجبال، تلك الأغاني البطيئة التي تستدر العواطف. أمس، ماتت والدة سام، وكانت مهمتي أن أوصل جثتها للمحرقة قبل أن تتحلل أو يأتي الفضائيون ليخطفوا جثتها. ولكي أُنجزها كان علي ألا أوقعَ الجثة، ألّا يسحبني النهر، وألّا أفقد لياقتي. ابتعدت الكاميرا في منتصف المهمة، وبات سام وأمه مثل نقطتين عائمتين في بحرٍ من الخضرة القاهرة. 
كنت في مطار إحدى الدول الأوروبية حين جاءني النبأ العظيم (كم مرة كتبت هذا المشهد؟)، ولا أستطيع الآن التفكير بالحقائب الثلاثة التي جررتها غافلًا عن العالم، إلا بوصفها مغلفات احتوت جسدك، كما لا أستطيع التفكير بنفسي سوى ساعي بريد الظلام، ساعيَ العالم السفلي: أورفيوس بلا موهبة، لا يعرف من الموسيقى سوى لحظات الصمت بين لحنٍ وآخر، ليس لديه سوى الكِتمان سلاحًا في مواجهة العالم، والخوف من الكلمات التي تجرح، الكلمات التي تكسر الظهر، كما اسمُكِ الذي طوى الكلمات كلها تحت جناحيه. 
اثنان أخاف نسيانهما: وجهكِ وصوتُكِ. في ذلك اليوم، في ذلك البرزخ بين وسط البلد واللويبدة، طُبعَ وجهُكِ مثل ملصقٍ على جدران الذّاكرة. ولأنّني لا أستطيع تذكّر الوجه بلا صوتٍ، كان حرف الكاف هو المدخلُ إلى وجهكِ: كافٌ مفخّمة، تُظهر الأصول الخَجِلة، مهما حاولت الاختباء، كافٌ لا ينطقها سوى أهل إربد، مفخّمة ثقيلة تكتم النّفس: كيفكو؟ ألكِ أن تتخيّلي أنّني لا أذكر من صوتِكِ سوى حرف كاف مُعلّقٍ وسط سؤال لا معنى له في ذاته، وقد بات كلّ المعنى الآن. رميتِ السّؤال واكتفينا باليدِ طريقًا للسّلام، بلا أحضان ولا اشتياق مُبالغٍ فيه. فقط كيف حالكم.. وأنتِ، كيف حالُكِ الآن؟
حسام «يعجبه نسيانه هذا، يؤكد له وحدته، يؤكد كونها أصيلة قديمة مُعتقة غير طارئة غير مستجدة – ص١٠». وأنا، على النقيض، تعجبني ذاكرتي، التي حفرتُ عليها اسمكِ: فالأسماء ضَربتُنا الوحيدة في وجه الأسى، ووجه الزمن، لكن «ليت أسماء تعرف أن أباها صعد / لم يمت / هل يموت الذي كان يحيا / كأن الحياة أبد».


كل الاقتباسات الواردة في النص من «شاي أسود» لـ ربيع جابر، إلاّ السطر الأخير؛ من قصيدة «الجنوبي» لـ أمل دنقل.

صورة الشريط © حيدر ديوه چي