قلت له يومها: تحسس فروة رأسك جيدًا، يمكنك العثور على عدد من الثقوب.
قالوا له قبل النوم: في رأسك ثقب واحد، ابتعد عنه ولا تلمسه. سرعان ما ستكبر ويلتئم ذلك الثقب البشع في رأسك.
بكى كثيرا متأثرًا بكلامهم، في ظلمة غرفته الكبيرة، راودته أحلام مريعة. في أحد أحلامه، ظل الثقب يتسع حتى التهم رأسه الصغيرة. استيقظ وصرخ، فاحتضنوا جسده بحنان، خائفين عليه من المصير الذي ينتظره إذا لمس خرمه. دفن رأسه في صدورهم باحثا عن ملاذ آمن. في حضنهم الدافئ، تمنى نسيان تلك الفكرة حتى يستطيع الحياة مثل غيره من الأطفال.
غرفته تمتد بلا حدود، عندما أزوره لا أعرف أين تبدأ غرفته؟ وأين تنتهي؟ مرة أجد سريره في منتصف الصالة التي يفضي إليها باب الشقة، حينها يبدو المكان مساحة حرة، تُطوعها العائلة لتصبح صالة تحتوي على صالون مدهب أنيق لاستقبال الأقارب والأصدقاء القدامى، ويطوعها الصغير لتتحول إلى غرفة نومه، صراع على احتلال المكان والتحكم في تشكيله. مرة أخرى، أكتشف بعد فتح باب الشقة ونزول السلالم والخروج من باب العمارة، أنني مازلت في غرفته.
داخل غرفته يمكننا خلق العالم وتغييره في أذهاننا كيفما نشاء، لتتحول خيالاتنا إلى صورة حية أمامنا. نتخيل العالم بدون جاذبية، وبعدها بلحظات، يمكننا السباحة في فضاء الغرفة/الصالة لساعات بلا ملل.
يمكنه أن يصبح كبيرا وقتما يشاء، لكنه يؤثر البقاء صغيرا. يفضل تسخير جميع من حوله لخدمته، يخدعهم بحجة الطفولة واحتياجه للرعاية والتدليل. يريد الجلوس على الأفخاذ وتحتضنه الصدور، حتى يبللها بدموعه الساخنة.
لم أعرف له سنا معينا، يمكنني أن أجده ذات خميس، يتصل بي على الموبايل يدعوني لسهرة حتى الصباح في غرفته و«البيرة على حسابي المرة دي» هكذا يقول ويغمز بعينه اليمنى، حينها يخرج المكان من ثنائية صالة/غرفة، ويتحول إلى نايت كلوب متواضع: إضاءة ملونة، موسيقى صاخبة، بار يقف خلفه نادل بملابس أنيقة، يُجهز كوكتيلاتنا المفضلة. وأحيانا أجد اتصالا من أمه، لتسمعني صوته يبكي بحرقة اشتياقا لرؤيتي، ويطلب مني شيكولاتة كيت كات وهو يجفف دموعه.
دفعتني تلك التناقضات إلى إخباره بذلك السر يومها: تحسس فروة رأسك جيدا.
بعدها مُنعت من لقائه.
منعونا الكبار من التواصل، وبدلوا غرفته الواسعة بحجرة خشبية ضيقة، بُنيت له خصيصا.
وفي كل ليلة، قبل النوم، يغلقون الباب عليه بقفل ضخم.
في ظلام غرفته الصغيرة، بحث جاهدا عن ثقوب رأسه الكثيرة.
يتظاهر بالنوم ويغطي رأسه باللحاف، ويستمر بتحريك إصبعه في خطوط تبدأ من القفا وتنتهي عند الجبهة.
تتقاطع الخطوط، تتوازى، تتشابك، تتعقد.
في أحد الأيام، انغرز إصبعه بعمق في منطقة مجهولة برأسه. تأوه الصغير، كتم فمه باللحاف، وفي عينه تغيرت ألوان الدنيا.
تلاطمت المشاعر داخله، لم يستطع التفرقة بين اللذة والألم، بين الضحك والبكاء، بين الصراخ والهمس. استيقظت حواسه كأنها عادت للحياة مرة أخرى بعد موت مؤقت.
سخن جسده، امتزج، تفتت، تجمع، ثم برد وجف.
راوده شعور بنهايته، تذكر تحذيرات الكبار من خطورة الإستماع لكلامي، حتى يصل إلى السن المناسب الذي يُمكنه من إجراء عملية «حياكة ثقب الرأس» في أقرب مستشفى تخصصي، وذلك إذا لم يلتئم خرمه بشكل طبيعي مثل غيره من الأطفال.
تضاربت في ذهنه صور لأزمان وأماكن غريبة عنه، لكنه شعر اتجاهها بانتماء شديد.
رأى نفسه يمشي في الفضاء ويقفز بين الكواكب، وأحيانا يركل أحدها كأنه يسدد ضربة جزاء. أسدل جفنيه – وإصبعه مازال مستقرا في خرمه – على صورة أخيرة لنفسه وهو يسيطر على صالتهم مرة أخرى، يتخلص من أثاثهم الضخم ليؤسس غرفته من جديد.
صباحا، كل ما تمناه الصغير أن يأتي الليل، حتى يستطيع إكمال رحلة بحثه عن ثقوب رأسه.
«جسدي مازال يحمل الكثير من الأسرار» جاءته تلك الفكرة قبل النوم بعدما اكتشف الثقب الثالث، وتمنى لقائي مرة أخرى، فوجدني أطرق عليه باب غرفته.
أخبرته يومها: أنت من تخلق الثقوب، هي لا توجد هناك في انتظارك، أنت من تحفرها في رأسك.
جُن وانفجر مثل كيس ممتلئ بالماء، سقط من الدور العاشر.
إحمر وجهه وبصق على وجهي. اتهمني بالكذب والخداع، أخشن صوته وسحب شخرة مدوية، هددني بعدها بالقتل، ثم تحول صوته وصرخ كطفل حتى يسمعه أهله.
أدركت أنه الوقت المناسب للرحيل مؤقتا، ذاب جسدي متحولا إلى مياه صفراء أسفل قدميه، تجعله يبدو كأنه تبول على نفسه.
خرجوا الكبار من الغرفة، يجرون باتجاه الطفل بعيون نصف نائمة. احتضنته الأم، حملته على كتفها وقبلت خده، عرضت عليه وجبة دافئة بعد الاستحمام وتغيير الملابس. حاولت معرفة كيف قام بفتح باب غرفته، رغم القفل الحديدي الكبير على البوابة، لكنه لم يرد، كان ينظر إلى نقطة بعيدة ويحك رأسه، وفي نفس الوقت يحفر ثقبا جديدا.
صورة الشريط © حيدر ديوه چي