عباد شمس في الدلو الجاف

سأمزق تلك الورقة وأحاول الكتابة مرةً ثانية، أخبر نفسي بذلك وأجهل حقًا إن كنت أستطيع إتمام قصتي الأولى أم لا. الهزيمة، السقوط منهك القوى، تسليم الراية والبحث عن شيء جديد، تلك النتيجة التي لا تحتاج دلائل سوى أنني أمسك الآن بورقة جديدة لأكتب تعليقًا عن التجربة السابقة. 
سأواصل الكتابة حتمًا، ربما أبحث عن شئ لأقوله، نقطة أسحبها فيتسربل باقي الخيط بسلاسة على الورقة البيضاء، ينحني ويلتفت ويضيف نقاط ويغلق دوائر ويضع فواصل وعلامات استفهام لألف كلمة ربما أو ألفين. هكذا إلى أن يحين موعد «تمت» أضع تلك الحروف الثلاث في وسط السطر الأخير، لن تكون الأوديسة بأي حال من الأحوال، ولست مجنونًا لأطمح لذلك، لكن يكفيني أن تكون فصل من إلياذة خاصة بي وحدي، ساعة أمتلكها من ألف ليلة وليلة. لكن متى؟ وكيف؟ 
قبل الإجابة عن التوقيت والكيفية يجب مقاومة التيار الجارف المتمثل في تلك الأسئلة؛ إذ استسلمنا للجذب وانطلقنا دون وعي خلف الطريق العشوائي الفوضوي الذي يمليه علينا نمط التفكير هذا. سوف نغرق في دوائر بحر الكلمات، إلا أن تخور قوانا، وأعجز أنا ككاتب عن توضيح مسار القصة، ويمل القارئ بكل بساطة فيتوقف عن القراءة دون تعليق جارح، إن كان لا يتسم بقدر كافي من الوقاحة.
لقد اخترت الحديث بلسان بطل عادي للغاية، ربما سيكون أخر من تراه إن تواجدت في اجتماع ملئ بالشخصيات العادية. أو بالأحرى لن تلاحظه ضمن الوجوه الموجودة مطلقًا. لذلك أفضل أن أشير لنفسي بحرف واحد «ج» أو أن أشير لنفسي بمسافة      ، لكن أيسع القارئ هنا التفرقة بين المسافة العادية بين الكلمات، والمسافة التي تشير لجسد الكاتب الضئيل.
سأوضح لماذا أدفع الوقت ثمن لكتابة تلك الكلمات عوضًا عن استثماره في العمل المؤجل. أتذكر جملة من كتابات ليوناردو دا ڤنشي تخاطب رسامي المستقبل «أنظر أيها الرسام إلى أكثر الأجزاء قبحا في جسدك وركز فيها دراستك لتصلح عيبك؛ لأنك لو كنت فظًا، فصورك ستظهر هكذا أيضًا، بلا روح». بكلمات أخرى، ألجأ الآن لتفنيد المشكلة، النظر للسبب بعدسة مكبرة، سبر أغوار التفاصيل. الكاتب «ج» يحدق في التجاعيد حول عيني العجوز، وجه القصة يبدو كمنحنيات رملية بينها خطوط سوداء. سابقًا كنت كمن يدرس وجه طفل لم يولد بعد، يسجل مستقبله منذ أن كان في الرحم، وهنا الخطأ، فقد قتلته في المهد أكثر من مرة بطرق غاية في المازوخية، أو بمثل سخافة المغامرات الدون كيشوتيه.
لقد توهمت بأن عقلي منشغل بالقصة، تدور التروس حول بعضها في حركة منتظمة لإعادة الشريط من البداية داخل الترانزيستور، أسمع، واسترق التفاصيل الصغيرة في كل مرة، لكنني كنت أسمع لنفسي فقط، ولم أكترث لصوت الفتاة التي أردت الكتابة عنها من الأساس. صوتي المبحوح لا يناسب نبرتها، كنت رأيتها مرة وحيدة أثناء العودة من مشوار بعيد في غياهب منطقة طلخا النائية.
في شمس أغسطس، ترى كل شئ من خلف نقطة ماء، تتصبب الجبهة بالعرق، والتيشرت الأسود لا يلائم اليوم، أصبت بدوخة خفيفة، أو اختناق لا يشير لقرب الموت بل للنفور من الحياة. كان اليوم مناسب للاشئ، أنام في غرفتي تحت التكييف، ربما أرفع قدمي لأعلى على الحائط، أو أكتب مقالة سيقرأها بعض أصدقائي، لكنها الصدفة من جمعتني بها على الكوبري، حلقة الوصل بين نفور طلخا من الغرباء، والضفة الأخرى التي ستقع عينك فيها على أول شئ يصيبك بالغثيان، لا بالمعنى المقزز، بل بالمعنى الأقرب للدوخة وعدم الراحة، ستقع على مديرية الأمن.
كنت سعيدًا بإنهاء مشوار يتطلب مقاومة الغواية بنحر عنقي أو الركض لاحتضان أسرع سيارة قادمة، ضبط النفس، التحكم في الانفعالات، أن ألكم وجه أحدهم أو أدفع أخر من فوق السلم، هي أشياء أسعى جاهدًا للهروب منها طالما أمكن هذا. على النقيض أيضًا شعرت بالفرحة، متعة الامتلاك، فقد كنت أحمل عشرة كتب اشتريتها للتو في صفقة رابحة لم تكلفني الاّ بضع الجنيهات.
اعتدت التحدث لنفسي أثناء السير، انصب أهدافًا بشرية في تلافيف جمجمتي وأشرع في تصويب الخيال نحو منتصفها، اصطياد القصص ممتع، خصوصًا تلك التي يصبح أبطالها أشخاصً قابلتهم للتو، عبروا بجانبي، تصافحنا لتزويب الصخور الرسمية في التعارف الأول، حتى أنني أوقفت شخصًا لأطلب منه ولاعة ذات مرة لأضيف تفاصيل واقعية أكثر على الحبكة التي تدور في دماغي. 
أشبه موظف سجل مدني يسير في الطريق بلا أرشيف، يمكنني خلق تواريخ جديدة، رسم خطوط لأقدام مجهولين أجعلها تتقاطع معا في نقطة بعد انحراف شديد يكسر استقامة الخط، كل شئ مباح في الخيال، ما دامت تلك القصص في صدري، مغلقة بقفل لا مفتاح له، طوال بقاءها في تلك المقبرة لن أكون تحت رحمة النقاد، تجاهلهم لما لا يعرفون وجوده، كون شخص لن تطوله ألسنتهم المسممة، الابتعاد عن تلك اللدغات يُعَد هزيمة، لكنها بالنسبة لي على الأقل حجر صحي آمن، أو لأكون صادقًا؛ صخرة تسقط عليها أحلامي الزجاجية – في أن أصبح كاتبًا – من ارتفاع شاهق، يحول دون جمع شظاياها للأبد.
أجهل حقا ما جعل رأس تلك الفتاة بالذات يأبى القَطع تحت مقصلتي، أسمع حتى الآن خشخشة الحصى تحت قدميّ أثناء السير، ما هاتفت به نفسي متذكرًا كلمات صديقي عن الكوبري الموجود هنا منذ الاحتلال الإنجليزي، عبقرية الإنشاء التي جعلت أمر اسقاطه بقنبلة من السماء مستحيلة. المركب النيلية، صوت أم كلثوم الصادر منها، وجوه الراكبين المهتمين بتناول الطعام دون التحديق والانغماس من باطن القدم للرأس في متعة النظر للمياة، تخيل وجه حبيبة، او استحسار ذكرى تمثل حية على سطح الماء، وكأنه دار عرض فخمة تجمع أعظم الممثلين الناطقين بأقوى الكلمات.
غارقًا في تخيلاتي حتى انتشلتي تلك الجميلة، العين البريئة الشاردة، لسعة الشمس التي منحت خدها حمرة أقرب لحمرة الخجل على بشرتها البيضاء، نصف فمها الذي رأيته فقط لأنها تعطي المارة ظهرها، منهمكة لأقصى حد مع أوراقها المستطيلة في يدها اليسرى وقلمها الأزرق في اليمنى، تكتب دون توقف، أقسم أن أحدًا يهمس في أذنها بما ستخطه يدها، تركض على الورقة البيضاء ناثرة بقع الحبر دون توقف، دون شفقة أو رحمة بالكاتب البائس الذي يمر من خلفها، موجهة سهمًا إلى فؤاده، صفعة على الوجه توقف سيلان الشك في مضمون ما يكتبه.
عند نقطة ما لا تفلح المقاومة، هذا ما أقوله لنفسي، اسكُت وقم حدق في المرأة، ابتعد عن هواجس العمل المثالي، أكتب عن ذقن غير منظمة، الشعيرات الصغيرة في الوجه، الجسد الغير متناسق، أو عن شخص أشعل الكثير من لفائف التبغ السيئة. هي لم تتوقف عن تلك النقطة، فقط استمرت حتى ألقت الورقة الأولى في النيل بعد ملئ كل ذرة فيها، لتبدأ في الثانية، ثم الثالثة. حينها شعرت بحرج من الوقوف هكذا، تراقبني أعين المارة وأنا أنظر لفتاة ترتدي تيشرتًا كحليًا به بقع واضحة من التراب وبنطلون رمادي تلونه عشوائيًا بقع سوداء أجهل أصلها، مظهرها المشرد، ووجهي الذي يتحول لغراب يعصر نفسه لتقليد أصوات البشر على الورق. 
سرت خطوات للأمام مكملاً طريقي، ثم توقفت للحظات، وتابعت حتى وصلت البيت، المحطة الأخيرة التي يهبط عندها الركاب، وتفرغ مركب القصص، لكنها الوحيدة أبت أن تتركني. منذ ذلك اليوم وأنا لا أفكر في سواها، عنها، طوال اليوم حتى النوم، حين ألقي بجسدي على السرير، يأبى النوم أن يزورني وتأتي هي ترتدي فستان سهرة تارة، وليلة أخرى تخبط على الباب في هيئة ذئب، حينها فقط تتكلم، حين أدعوها لاحتساء خمرة رديئة مع التبغ وبعض الترمس.
بوسعي سؤالها كيف تريد أن أقتلها في قصتي، ذكراها عندي ليست تقليدية لذا لا يصح وضعها في درج المكتب، أو حفظها في ملف وورد على الكمبيوتر. يجب أن يكون رحيلها استثنائيًا، ربما أمزق أحشاء الورقة، أصغر حجمي وأدخل الي معدتها فأركلها من الداخل، ربما أرجيها لمصير أمي؛ فأجلب القمر إلى مطبخها، أو أبي عندما تركته يصارع للخروج من البئر لألاف السنين حتى أخيرًا تسلق ووجد زهرة عباد شمس في الدلو الجاف.
الطيف الذي يطاردني، ربما يكون الخلاص منه بالمعرفة، والمعرفة تعني الكتابة عنه، اعتدت على التفكير بالكتابة، نسج الخطوط يصنع في النهاية رداءًا يمتص ضوء الواقع. ربما لن تكف عن زيارتي إذا توارت نبرتي خلف نبرتها أو تغلبت صرختها على شرحي المتخيل لها. ماذا لو كانت القصة أنني فقط أكتب لأعرفها لتأتي وتؤنس المكان، ليس نوع من العلاقات التي تدفعني للتغزل في قوامها الممشوق، بطنها الجميلة، رجلها الملفوفة، ليست من النوع الذي يعده الرجال مكينة رائعة للمضاجعة، ربما لنشارك معا الفتور، برد الأصابع، الانكسارات، العمى عن الحقيقة. أحدثها عن الصداع الذي ينخر عظامي كلما أردت مقارنتها بكافكا، أود لو كنت صديقك، من تحفظي الأوراق عنده بدلاً من النيل وأسماكه، قد أنشرها في المستقبل متجاهلا وصيتك، أو أموت قبلك فتُقدمي الهبة ذاتها لأوراقي.