القط العقلي

– ولكن كيف تفهمين ما يقول؟
سألت عمتي ذات صباح بعد أن بِتّ الليل في منزلها. أعدّت لي يومها عجة بيض كانت تخفقها بالجبنة، فلا تضيف إليها ملحًا – في الجبنة ما يكفي، ولا فلفلاً أسود لأنني لا أحبه. تزلقها في صحني حين تجهز، تسألني إن كنت أريد خبزًا معها. أهز رأسي، وآكل البيض قرصًا من الشمس ساخنًا، وأخبرها بأنها ستكون أمًا جيدة. ضحكتْ لسخافات فتاة في الخامسة – ربما السادسة- تعتقد أن إعداد البيض بهذه الطريقة ضمانٌ لأمومة جيدة. تركتني وحدي حين سألتها. ظننت أنها غضبت. اسمع خطواتها سريعة تتجه نحو الغرفة. باب خزانة الملابس يفتح، يبقى مفتوحًا بعض الوقت، شيء ما يسحب، باب الخزانة يغلق. عادت وفي يدها علبة حلوى زرقاء معدنية عليها نقوش بارزة لأزهار حمراء متفتحة. نحّت افطارها الذي لم تكمله بعد – شاي بالحليب وخبز محمص مدهون بمربى البرتقال. اندلق شيء من الشاي دون أن تنتبه له. وضعت العلبة مكان الصحن. كوّمت جلباب نومها القصير بين فخذيها وتربعت على الكرسي تفتح العلبة. أخذت الغطاء من بين يديها، أتحسس النقوش وكدت أبدأ بقرع الغطاء، حين نبشت من بين طوابع، قصاصات جرائد ومجلات، بطاقات معايدة، تذاكر سينما، أرقام انتظار، أرصدة بنكية، ملصقات وأوراق، والمزيد من الأوراق، قصاصة. 
– كنا نحصل على هذه مجانا في علب رقائق الافطار.
ناولتني إياها – قصاصة مستطيلة من ورق مقوى، بحجم الكف، لابد وأن كان لونها أقرب للبياض في وقت ما منه إلى صفرته حينها. في أحد جانبيها فتحتان مستطيلتان فيهما ما يبدو أنه ورق شفاف ملون، إحداهما زرقاء مخضرة والأخرى حمراء، صدرت عنهما كرمشة خفيفة حين ضغطت عليهما.  ومن الجانب الأخر عصوا نظارة مطويتان. نظرت إليها بعد أن تفحصت القصاصة أبحث عن تفسير لها وإجابة على السؤال. 
– البسيها. 
ما كدت أثبتها على أذني وأنفي – كتمت نفسي لثوانٍ قليلة أتحاشى رائحة غباريّة صفراء – حتى اصطبغت عيناي بالبنفسجي – لوني المفضل حينها. خزائن المطبخ، الطاولة، الصحن على الطاولة، البيض، مربى البرتقال، كوب الشاي، يداي، وجه عمتي، كلها بنفسجية. 
– ولكن ما هذه؟
– إنها نظارة ثلاثية الأبعاد.
– مثل التي نحصل عليها في السينما؟
– نعم.
– ولكن، هذه صغيرة. وتغيّر اللون فقط! 
نهضت عمتي مجددًا واستلقت على أرض المطبخ، ثم لوحت لي بأن أستلقي إلى جانبها. ترددت أفكر إن كانت الأرضية نظيفة وإن كان شيئ ما سيعلق في شعري الذي لم أسرحه بعد. تمددت على الرخام القاسي جوارها، رأسي عند رأسها، وقدماي عند ركبتيها. كنت ما أزال أرتدي بجامتي الوردية المفضلة، عليها قلوب وفراشات وأقواس قزح، وكرتونة سخيفة على عيني تغير لون الأشياء إلى البنفسجي.  ومن على الأرض، أسمع دويّ مروحة الفرن، تبدد رائحة القليّ والتحميص، تأرجح في هديرها الستار المخرم، يبدو بعيدًا جدًا وأنا أنظر إليه من زاوية غريبة قرب المجلى، يرشّح أشعة الشمس، غبارًا طافيًا، بنفسجيًا. أجفلني القط حين تشمم بأنفه الرطب أصابع قدمي. كدت أصرخ بادئ الأمر- أستوقفتني يديْ عمتي تطبق على ذراعي. أشعر بها تتنفس بعمق. ثم أوشكت على الضحك كلما طالت شمشمته، وشواربه تدغدغ باطن قدمي. مسح برأسه أصابعي، ثم تبختر في المساحة الصغيرة بيني و بين عمتي، يتجنب أجسادنا، يطوح ذيله عاليًا معقوف الآخر. ملت برأسي إلى الوراء لأتابعه، بنفسجيا يتهادى. مال بذيله على رأس عمتي يكاد يطوّقه، ومَأ متدللاً، ثم واصل تبختره منتحيًا زاوية في المطبخ، غير بعيد عن رؤوسنا، يراقبنا.
حررت ذراعي من مسكة عمتي وانتصبت جالسة. أراقب وجهها مسترخٍ بنفسجي، عيناها مغمضتان، وعلى شفتيها شبه ابتسامة. 
– ماذا قال؟
– ماذا تعتقدين أنه قال؟
– أخبريني. لا أعرف. أرجوكِ. أخبريني.
هززتها من كتفها، كل الأشياء بنفسجية، تهتز، حتى خرخرة القط التي تأتيني من الزاوية. خلعتُ النظارة.  
– ماذا قال؟ ماذا قال؟ أخبريني!
– سأل إن كان المكان هنا مريحًا!
فتحت عينيها على مهل. اتكأت على مرفقها الأيسر ثم استوت جالسة قبالتي. تركت النظارة في حجرها. وليتها ظهري وعدت إلى الطاولة. بيضتي بردت بعض الشيء ولكنني أخذت أغرزها محتارة بالشوكة. لا يهم، كنت سآكلها على أي حال. داعبت عمتي القط قبل أن تنضم إليّ. الخبز ما زال مقرمشًا حين قضمته. أسمع لمضغها صوتًا وإن كان فمها مطبقا. أعادت النظارة إلى العلبة دون أن تغلقها، وقلّبت بعض الأوراق. وحين كانت قدامي لا تصلان بعد إلى الأرض حين أجلس على الكرسي، أرجحت ساقيّ والأفكار في رأسي على وقع القضم، وارتطام الشوكة بالصحن، ولعق القط قوائمه. 
– أعتقد أنني أعرف كيف تفهمين ما يقول.
– كيف؟
انتظرت حتى أنهي عجتي. وضعت الشوكة في الصحن. ونظرت إليها وهي تشرب شايها باردًا. كل ما أراه من وراء الكوب هو عينان واسعتان، حواجب مدهوشة، وجبهة عريضة. أشرت إلى جبهتها، ثم إلى جبهتي التي اختفت تحت قذلة سيئة القصّ، لا تنتقص من ثقتي شيئًا.
– هنا. لديك قط عقلي يترجم ما يقوله لك. 
وضعت عمتي الكوب على الطاولة. كان القط العقلي هذا نسخة مصغرة عن قط عمتي الأشهب، عنده مكتب صغير بالضبط فوق حاجبيها، يجلس عليه مسترخيًا، قائمتاه الأماميتان تستريحان على بطنه المتهدل، فيما يصالب قائمتيه الخلفيتان، وبطريقة ما، يستمر ذيله في الحركة. أذناه متوجستان دومًا تصيخان السمع لمواء يترجمه سريعًا دون أن يرجع إلى القواميس الورقية التي على مكتبه أو إلى البحث على حاسوبه. ضحكتْ مجددًا. التفتت عمتي حينها تنظر إلى قطّها الذي فرغ من تنظيف قوائمه، وتشقلب على ظهره يطرف لها بعينيه أقمارًا كاملة.
– قد تكونين على حق. 


صورة الشريط © حيدر ديوه چي