لم يَكَد سعدان يفتح عينه اليمنى، حتى سعل بشدةٍ أرغمته على فتحها على اتساعها، والنظر إلى يده اليسرى التي باتت غارقةً بسائله البلغمي الأخضر. حاول رفع جذعه ليقوم من فراشه لكنه لم يستطع بادئ الأمر، لذا حاول مجددًا متكئًا على يديه الاثنتين، فنجح في ذلك بعد أن لطخ سريره بيده اليسرى.
سحب قدمه اليمنى لينزلها على الأرض؛ سرت في قلبه نشوة ناعمةٌ أقرب لنشوة الانتصار، فسعدان كثيرًا ما يحب أن يشير إلى نجاحاته السخيفة ببنانه مزهوًا، دفعه فرحه لإكمال محاولته في القيام من سريره. ها هي قدمه اليسرى أيضًا باتت تدوس الأرض، فعل ذلك وعينه اليسرى ما زالت مغمضة، ليس لشيء سوى الكسل. انتصب بكامل جسده، وقد أضاف ذلك إلى شعوره بالفرح، شعورًا بالفخر أيضًا، كيف لا وهو يقوم بكلّ هذه الحركات بعينٍ واحدة فقط!
اتجه جارًّا قدميه نحو الباب، عراكٌ بسيطٌ مع المقبض أضافه لقائمة نجاحاته وخرج من الغرفة بقدمه اليمنى تاركًا الباب وراءه مواربًا، قصد الحمام وهو يتمنى أن يتعرض لمشكلةٍ -وفقاً لتسميته – أثناء فتح باب الحمام لتطول قائمة نجاحاته السخيفة، بيد أنه لا يعدها سخيفة، فهو وإن قال له كل من حوله وأولئك الذين هم حول من حوله إنه يبالغ كثيرًا، وخصوصًا في ذكر معتقداته وأفكاره السخيفة، إلا أنه يكرر عليهم جملةً باطلةً كان قد حفظها بل وبالغ في حفظها:
– كما أحترمُ أفكاركم عليكم أن تحترموا أفكاري، فلولا اختلاف وجهات النظر لبارت الأفكار.
ولكثرة ما يبالغ في ترديدها أمام الناس – على الفاضي والمليان – فقد ظن الجميع أنه يقولها لترسخ في ذهنه فيما إن احتاج لاستخدامها يومًا، بينما أحدٌ لم يكن يدري أنه كان يستخدمها في تلك اللحظات فعلاً، فتراه يقولها كلما ناقش أحدهم بخصوص نظرية المؤامرة مثلاً، وحين يبدو محاصرًا بالحجج المنطقية كقطٍ في جحر فأر، ويحس بأنه على وشك خسارة النقاش، يبدأ برمي كل ما حفظ من ردودٍ ليقامر حتى الرمق الأخير، وحتى وإن لم تكن لعباراته الرنانة صلةٌ بالموضوع وحتى وإن لم يكن يفهمها أصلاً، فهو يقولها بطريقةٍ توحي بالحكمة والمعرفة، وبطاقته الرابحة الأخيرة التي تنقذه من كل الأزمات: «كل الأمور نسبية.» يقولها بخبث سياسيٍ فيسكت الجميع.
فتح سعدان باب الحمام بسهولة أغاظته، لكنه وفور دخوله بقدمه اليمنى وعينه اليسرى المغلقة، متجهًا إلى المرحاض سمع صرخةً وحشيةً غريبةً أجفلته، فاضطر لفتح عينيه الاثنتين على اتساعهما، ممّا جعله يشاهد ما لم يتوقعه أبدًا، لقد رأى ما يراه النائم في كوابيسه، رأى – ولأول مرةٍ – عينًا وفمًا لمرحاضه القذر: فمه الكبير مقعده، وعينه الواسعة غطاؤه، وتبدّت أسنانه التسعون عند الحواف، لم يحصها بطبيعة الحال، لكنّ تقديره المبني على الصدمة صوّر له ذلك.
وما كان منه إلّا أن تسمر في مكانه مندهشاً – وحق له ذلك – في حين راح المرحاض يصرخ:
– إياك أن تفعل قبل أن أنهي كلامي! من الآن فصاعدًا ستدفع مقابل كل مرةٍ تجلس فيها هنا.
على الرغم من الكلمات التي اختارها المرحاض بعنايةٍ ودقةٍ لوصف هذا المعنى المقزز، إلا أنها ودون شكٍ لم تكن لتفصح عن رقيّه وأدبه؛ فهو كما تعلمون سيد الـ … لكنه قالها حفاظًا على كرامته التي هو بصدد محاولة استعادة شيءٍ منها الآن، وأكمل:
– أنصت جيدًا وافتح أذنيك وعينيك، كل ما تراه هنا حقيقي، لقد ولّى زمن العبودية.
وكاد سعدان يضحك لولا الدهشة التي تجذب بؤبؤ عينيه المحملقتين، فالمرحاض آخر من بإمكانه التحدث عن العبودية، وفي ثوانٍ تحوّل دافع الضّحك إلى غيظٍ حادٍ حثّه على الصراخ بدوره:
– أنت بالذّات، بكل تفاصيلك تجسيدٌ لمفهوم العبودية يا ابن الخـ
– هشششششش، كلمةٌ أخرى إضافية وأحرّض عليك البقية.
ومتلفّتًا حوله ردّ سعدان:
– البقية؟؟
لكنّه رأى المغسلة وحوض الاستحمام والحنفيات وقد ظهرت لها عيونٌ حادةٌ، راحت ترمقه بنظراتِ تحدٍّ، وتمدّ له ألسنتها ملوّحةً بلعابها الغليظ المنساب.
إنَّ تصديق هذا كلّه أمرٌ بالغ الصعوبة، لكن بإمكانكم تخيل سعدان في مثل هذا الموقف وهو الذي يضع نظرية المؤامرة ذريعةً لكل شيء، كان بإمكانه التّعذر بها وبمظلوميّته ليتخفّف من مصابه، لكنّه استصعب تصديق ما يحدث معه.
لقد أنكر ما تراه عيناه وكأنهما جزءٌ منفصلٌ عن كيانه:
– لا أتفق مع ما تريانه، هذه وجهة نظركما أنتما، أما أنا فلا.
هكذا قال. والحقّ أنّه لم ينكر ذلك بدافع المنطق، إنّما بدافع الخوف ورهبة التصديق التي ستجر له ويلات الحقيقة المرة، لكنّه فكّر في أنّ دَفعةً واحدةً من يده قد تكون كافيةً للفصل والحكم إن كان هذا الذي يراه حقيقة أم خيالاً. مدّ يده نحو مكبس صندوق الطّرد فوق المرحاض، فبصق فم المرحاض عليه وبلّله، لم يمسح سعدان اللعاب الذي التصق بملابسه، ولم يتراجع عمّا سيقوم به، بل شجعه هذا على الإقدام، فتجرأ، وضغط بسبّابته على المكبس كما لو أنه يحاول إرغامه على الانصياع؛ فانهمر الماء من حلق المرحاض كمن يتقيّأ.
لقد كان أمل سعدان معلّقاً بأن يمحوَ الماءُ الغبشَ الذي يحجب الحقيقة، أراد من الماء أن يجلو له المشهد؛ ليراه على حقيقته، إلا أنّ الماء إن سُكِب على ما هو واضحٌ وصافٍ في أصله، فهو لا يزيده إلا وضوحاً وانكشافاً.
وحين تراءت له الحقيقة التي لم يرِدها زاد خوفه، وكبّلته الدهشة أكثر من ذي قبل. كان كل شيءٍ حوله صامتاً ما عدا صوت صندوق الطّرد الذي لم يتوقّف عن الطنين في أذنه، لكنّ المرحاض بدد لحظة الدهشة بصوته المتوعّد:
– اسمع أيها الوقح، لا يبدو أنّنا سنتفاهم، لأختصر لك مطالبنا: التنظيف الأسبوعي أو اليومي لم يعد نافعًا، ستعمل وبكامل إرادتك على إزالة أوساخك عنّا جميعًا، نحن القابعون في هذه الغرفة البيضاء.
(الغرفة البيضاء) تسميةٌ جديدةٌ ابتدعها المرحاض، لكنها تسميةٌ ذكيةٌ ومسوَّغة، فالحمام كلمةٌ لها دلالاتها وليس من المنطقي أن يتلفّظ بها وهو يحاول إجبار سعدان على الانصياع له وإلا كان عرضةً للسخرية. أكمل المرحاض كلامه بقسوةٍ مباشرةٍ موجهة لسعدان:
– وستدفع لنا – نحن سكّان الغرفة البيضاء – خمس حباتٍ من النفتالين في كل مرةٍ تدخل إلى هنا، إنه رسم الدخول وقد اتفق الجميع عليه. ثلاث حباتٍ لي وواحدةٌ لحوض الاستحمام والأخيرة للمغسلة.
أدرك سعدان أنه وقع ضحية استغلالٍ بشعٍ، فبعد أن تمنطق أمامه كل شيء، وبدت كل الأمور واقعية بل وتشبه واقعية الحياة في أبشع صورها؛ صدّق وآمن، فها هو المرحاض – أسفلهم وأدناهم – يترأس الاعتراض ثم التمرد والتشريع، وقد اتضح أنه أكثر المستفيدين من هذا.
أكمل المرحاض:
– بدأنا منذ هذه اللحظة، عليك دفع مستحقاتك فور انتهائك، انظر كم نحن متسامحون معك. لكن إياك والخداع، فهذا لن يفلح، لأننا نعمل يداً بيد وخروجك من هنا بيدنا لا بيدك، فدخول الغرفة البيضاء ليس كالخروج منها، كلمةٌ واحدةٌ مني ويتمرد عليك كل من في المنزل.
الجميع هنا على درايةٍ بالتمرد إذن، فما يقوله المرحاض يوحي بأن كل الغرف متعاونة مع بعضها، أراد أن يتأكد من هذه الكارثة، فالتفت نحو الباب؛ فرآه يكشّر، ولم يتسنَّ له أن يلقي نظرةً على البقية لأنّ كل الحنفيات والشطافات انفجرت في لحظةٍ واحدةٍ بشلالات من لعابها مُصدرةً بذلك جلبةً جماعيةً أرهبت سعدان، فكما الطبول التي يقرعها المحتجّون، كان صوت تدفق اللعاب متماشياً مع عياط السيد القائد/ المرحاض:
– لا للظلم، لا للعبودية.
أيقن سعدان أن الجميع في منزله باتوا مشاركين في استغلاله، هذا إن صحّ استخدامه لهذه المفردة؛ فهؤلاء الذين يعتبرهم هو مستغِلّينَ، يعتبرون أنفسهم مطالبين بحقٍّ مستحَقٍّ، وبذلك فإنّ عليه – إن كان صاحب مبدأ – أن يتفهم تمردهم، لكنه لم يعد يفكر بمنطقه الذي طالما كان يظن أنه يتبعه. لقد صار مثل ثورٍ هائجٍ لا يفكّر في العواقب، أمّا مبدؤه الذي كان يدّعيه فهو يودِعُه الآن المرحاضَ.
لقد فكّر أنّه إن انصاع لأوامرهم فسيتمادون أكثر، ولذا قال لنفسه: عليّ أن أتمرّد مثلهم. فكان قراره الأوّل أن أنزل بنطاله، بينما كان قراره الثاني – وأرجوكم أن تغضّوا النظر عن هذه الجزئية – أن ينزل سرواله الداخلي، وقد فعل، ثمّ اتجه غير مبالٍ بالعيون كلها، وهمّ بالجلوس مسلّمًا نفسه لفم المرحاض الذي ما إن أحسّ بشيءٍ طريٍ محدبٍ يلامسه حتى أطبقَ أسنانه التّسعين؛ فقفز سعدان من سريره متأوّهاً مرتعباً بالكاد يتنفّس.
بعدما هدأَ، جال بنظره في المكان من حوله؛ فرأى باب خزانته الخشبي ممدّدًا على الأرض، وعلى زاويته بقعة دمٍ، وبجانبه مزهريته الزجاجية الثقيلة محطّمة، وقد انتشر الدّم على بعض أجزائها المتناثرة، فسرت رعشةٌ في جسده، وومضةٌ أمام عينيه. عاود الاستلقاء وقد مدّ إحدى يديه يتحسّس بها رأسه من الخلف، بينما راحت يده الثانية تحكّ ردفه الأيسر.
صورة الشريط © حيدر ديوه چي