أنا في العموم رجل متشائم، أحبّ أن أسمي نفسي واقعيًا، ولكن الواقع يقول أنني دائمًا ما أنظر إلى النصفِ الفارغ من الكوب، أنجذب إلى القبيح في الأشياء؛ فعندما يغرقُ أحدهم في نوستالجيا عميقة عن حقبةِ شوكلاتة الورد وبسكويت زينة وأيام كان الناس يفطرون خبزًا محورًا وزيت زيتون فقط، أقاوم الرغبة في أن أخبره بأن طعم الورد لم يكن يومًا لذيذًا، هي شوكلاتة هشة ورخيصة كالبلد التي نعيشُ فيها، وبأنّه لم يذق الباقيت الفرنسي حتى يدرك اللعبة التي لعبتها المحورة المغمّسة في زيت الزيتون على عقله.
كنتُ في شاطئ غوط الرمان، أحاول استكشاف بلدتي من جديد مع صديق لي بعد أن دخلنا غابة السرو والبلوط في طريق رملية وعِرة نبحثُ عن مكان نركن فيه السيارة وسط العائلات والرجال الكادحين الذين لم تترك لهم المصائف خيارًا سوى أن يحتموا من حرّ الصيف بأشجارِ السرو ليقضوا وقتًا جيدًا في غرّةِ الكآبة التي تمرُ بها البلاد، وبعد أن كادت السيارة أن تغرق مراتٍ عدة في طريق المنتزه الطبيعي الذي خطته سيارات المواطنين وعجلات الزمن بدلاً عن الحكومات المتعاقبة منذ سبعينيات القرن الماضي، تمكنا من ركنها تحت شجرة بلوط، نزلنا من جرفٍ طبيعي نحو الشاطئ الحجري نبحث عن نفسٍ لنعوم، كانت الرحلة شاقة، أخبرني صديقي ونحن ننزل متتبعين خطوات من سبقونا والنفايات البشرية من علب تونة، علب عصير كارتونية وكوندومز مخبأة جيدًا بين الأحراش، قال لي صديقي بأنّ والده الذي يعيش كطبيب زائر في دوسلدورف بألمانيا قد نشرت المصحة عنه في موقعها الإلكتروني النصّ التالي:
«السيد خ.م من طرابلس، أحد أمهر أطباء الباطنية في البلاد كان يمضي أيامه سابحًا في البحر المتوسط.»
«يبدو أنّهم لم يسبحوا يومًا في الجهة الجنوبية من المتوسط.» – قلتُ له، عالمًا بالمكان الذي كان يسبحُ فيه خ.م حيثُ بالقرب منه تسرّح أويا آخر فضلاتها في شرقها التعيس، كانت كلمة البحر المتوسط الإنجليزية شاعرية، تفهمتُ الحاجة لوضعها في سياق الذاتية لإضفاء بعدًا إنسانيًا عن الطبيب المهاجر في بلدٍ بات المهاجرون يعانون فيه نظرة دونية، لكننا ونحن نقترب من الشاطئ الصخري من البحر المتوسط الذي دفعتنا إليه كغيرنا من المتعوسين كآبة الحياة، لم نتمالك أنفسنا من الضحك أسفل المنحدر، قلتُ لصديقي: «أنظر، هذا هو المتوسط». ورغم كون الشاطئ لم يكن مأهولاً بالمصطافين لصعوبة العوم إلا أنّ القمامة البلاستيكية والمخلفات البشرية كانت أكثر حضورًا من مياهه والسكوليو، مع قلة من الشباب يحاولون أن يتغلبوا على قبحِ الحياة بصناعة مأوىً لهم من مخلفات البحر وبقايا سيارة يبدو أنّ صاحبها الغبي قد تركها لأمواج البحر تنهشُ جسدها. «البحر المتوسط حيثُ ستكون مغلوبًا على أمرك في أن تختار على طول شواطئ المدن بين أن ترضى بحجارة السكوليو وهي تخترق جلدك، أو تعوم في مياه غير صالحة للسباحة، وبين أن ترضى برجال اقتنصوا الشواطئ الجيدة ليبتزوا بها المصطافين، أن تعوم وسط المجاري أو القمامة أو وسط الأعين المراقبة لجمعِ الأخوة الكبار وهم يتحكمون في كل حركة تقوم بها أنت وحبيبتك (الشرعية)، أو أن ترضى بأن تنحني منزّلاً سروالك لابتزازيٍ آخر يسمح لك باستخدام استراحة خاصة بسعر جنوني، هذا هو البحر المتوسط»، قلتُ لصديقي قبل أن يقفز من السكوليو لتخطأ قدماه المكان فتنسلخ إحداهما بالدماء، ضحكنا تلك العشية بعد أن انتهينا من السباحة جالسين على غصنِ شجرة ميتة، ندخن السجائر وننظرُ إلى رجل يحاول اخراج الصَدف بسكينة، لكنه تأثير البحر المتوسط.
في النسقِ ذاته، كنتُ أجلس أحيانًا مرتديًا البوكسر فقط؛ في أيام الصيف الحارة ومع غياب الكهرباء، باحثًا في الانترنت عن حكايات وصور للكتّاب الذين أخذوني معهم إلى عوالمهم، ملاحظًا نسقًا معينًا يجمعُ مخيّلات القراء عنهم، صور جمدت لحظات انهماكهم في الكتابة، كتّاب من أمثال جورج أورويل، العم نجيب محفوظ، أورهان باموق، إبراهيم الكوني، نيكوس كازنتزاكس، الجنقي خليفة الفاخري، بوكوفسكي، هيمينجواي وحتى آيس بيرق سْلِم، شيء رومانسي وشاعري يجمع بنيهم؛ كيف يرى الآخر القارئ لأعمالهم وحيواتهم وكيف يتخيلهم وهم يكتبون، هناك مسحة رومانسية شاعرية لحياة الكتّاب، مسحة يمكنك بسهولة أن تلاحظها عندما تشاهد فلمًا عن حياتهم أو عندما تزور أماكن كانوا فيها، شيء من النوستالجيا اللذيذة الشبيهة بفلم «ميد نايت إن باريس»، كان لي نصيبي من هذه التخيلات في زمني الأول في الكتابة، حتى المعاناة التي قد تواجه الكاتب كانت بالنسبة لي تشبه فلمًا هوليوديًا، لذة في كل رسالة رفض من دار نشر ولذة في كل نص أحذفه غير راضٍ عنه، حتى أنني ذات مرة اشتريتُ برنيطة لأبدو كأحدهم، كان شكلي سخيفًا بتلك البرنيطة إلاّ أنني شعرتُ بنفسي فيها ككاتب، ومع تقدمي في السن بدأت أنزع إلى الجانب الماليخولي من المشهد، أجلس الآن مرتديًا البوكسر ذاته في حرارة الصيف مع غياب الكهرباء في شقتي على طاولة مليئة برماد السجائر وبجانبي كوب ورقي من قهوة الكريمة الإيطالوليبية، العرق ينزل متدفقًا من عينِ إبطي نحو مصب شعر كرشي السمين بينما تتحرك قطرات عرقٍ أخرى على جبهتي لتضيق الخناق عليْ، مقاومًا رغبتي في التبول من نصف ساعة مضت بعد خيباتٍ طويلة مع الكتابة والنشر، وفكرة واحدة تخطر في بالي: كيف يمكن لأحدهم أن يتخيل الكاتب في مشهد شاعري وهو يكتب؟ وهو يمشي كغيره من البشرِ تحت الأشجار؟ وهو ينام أو حتى يتوغط؟ لا يمكن لإنسان عاقل أن يقوم بذلك.
إنّه تأثير البحر المتوسط، تأثير أغوصُ فيه كلما تركت طرابلس لأيام أو أسابيع تتشهى بحياتها لوحدها، أتخيلها وأنا أتسكعُ في تونس أو إسطنبول أو أوتريخت وهي تصنعُ القهوة لعبّاد الصباح، أتخيّل أصدقائي وهم يضحكون في مقاهيها، أمي وهي تصنعُ الزيتون، أتخيل بحرها يكبحُ جموحه السكوليو، كلما ابتعدتُ عنها أتخيل أشجار السرو في ريفها يخبئ طائر الحجل البرّي عن الأطفال المغامرين، تأثير يراودني كل ما دخلتُ في مغامرة أدبية جديدة، أو عندما أرى عملاً فنيًا جديدًا من أحد فناني المدينة الواسعة، كجرعة من الماشروم في أزقة أمستردام، ترى العالم جميلاً من حولك بدون نزق، شاعري ونقي، أخرج من هذا التأثير عندما تمر طائرتي فوق شاطئ طرابلس، أو عندما يطاردني الحر أو البرد دون كهرباء، أو عندما أنهي النص الذي أعمل عليه.
لذا، أنا الآن أجلسُ متخيلاً بوكوفسكي بدلاً من جلوسه في خواءِ اليوم يحتسي الويسكي ويحاول أن يمسك بتلابيب القصيدة، أراه جالساً على مرحاضٍ عمومي بعد تسممه من ليلةِ البارحة المضنية وهو يحاول أن يتغوط الكلمات، وبدل أن أرى كازنتازاكس على سواحل كريت يكتبُ ويرقص مع زوربا بجانب نافذة واسعة بينما تتلاطم أمواج البحر المتوسط على السكوليو، أراه في نفس المكان، مثلي، يعاني من الرطوبة ومرتدياً البوكسر ويحاول الكتابة.
الكاتبـ/ـة محمد النعاس
قاص وكاتب، تهتم كتابته بتأمل المجتمع في ليبيا، وله مقالات متنوعة في النقد والسخرية. صدر له: خبز على طاولة الخال ميلاد (2020)، دم أزرق (٢٠١٩)، وشارك في أنطولوجيا الأدباء الليبيون الشباب "شمس علي نوافذ مغلقة" (٢٠١٧)، وله مدونة خارج التغطية.