زجاجة مثلجة

– الزمان؟
 يوم الاثنين.  
–  تحديدا؟
 الساعة 4 عصرا.
 – المكان؟
 شقتك التي تزوجت فيها.
–  كيف أنت؟
 محتار. 
– ماذا تفعل؟ 
 تقف في الصالة، عاجزا عن أي شيء. تلبسُ المعطف البنّي وتلف الكوفية السوداء حول عنقك وتنزل. 
العمارة في آخر حارة مسدودة. تخرج من الشارع، يمين في يمين في يمين، حتى تصل الطريق الرئيسي. الأمطار سالت في الشوارع  وتجمعت في برك قذرة. تتجنب البرك بخفة. تشعر بحكة في أرنبة أنفك. تعطس. وتتسائل بعد العطسة لماذا تفعل بك هكذا؟ لماذا تتجنبك ولا ترد على أسئلتك! ألم تتعاهدا أن لا تتخاصما أبدا! لا تجدُ إجابة. 
تواصل المشي في الشوارع القذرة دون وجهة أو هدف. تعاودك الحكة، تعطسُ ثانيةً، تقف على جانب الطريق، تبتعد عن البرك قدر ما تستطيع وتراقب السيارات المارقة؛ واحدة سوداء يقودها رجل يلبس بدلة، وواحدة زيتية يقودها رجل يلبس قميصا أحمر، وثالثة زرقاء تقودها امرأة تبتسم وتشغّل المساحات. هل كل الناس سعداء وأنت لا؟ تشعر بغصة، تفكر أن الحُب كان منقذك في ليال كثيرة، أنقذك من الوحدة والاكتئاب وأحيانا الجنون، أحقا أنقذك الحب؟.. تكاد هي تجنك.. كنتَ تقف في الصالة وتراها، تتحرك في المطبخ  لتضبط المسجل على أغنية ستتراقص معها، تغسل الأواني ببرود، وتحرك شفتيها وجسدها مع الموسيقى، وأنت تختنق، تراقبها وتنادي عليها، وهي ترقص وتبتسم، لكنها لا ترد عليك، وأنت لا تعرف السبب، تراجع ذكرياتك، لا تكتشف ما الذي حدث كي تغضب عليك هكذا، تعتزلك كأنك أجرب، والنار تكوي ضلوعك، لقد أدمنتها فلن تقدر على فراقها. تنتبه لوقفتك وحيدا.
– وبعدين؟  
فرغ الشارع بسبب البرد. تغادر. 
– إلى أين ؟
من حيث جئتَ، تقودك قدماك إلى وجهة لا تعرفها. تقف على ناصية شارعكم المسدود، لا تدخل، تدور في خطوات قلقة، ولا تدخل. تمشي ناحية السوبر ماركت على الناصية، صاحبه العجوز يجلس عند الباب، وجهه مربع وعيناه حزينتان حزنا كسولا. تقف ولا يكلمك. تخرج من جيبك خمسة جنيهات، يقبضُ عليها ويتسائل بحزن تراه واضحا في عينيه. لا تعرفُ ماذا تريد، تخبره أن يعطيك أي شيء، يمد يده ويعطيك من الفريزر زجاجة كوكاكولا مثلجة. اختيار عبثي في هذا الصقيع. تلوح بها في يدك، لا تتكلمان. تعرفُ أنه اختيار خاطيء لكنك لا تجرؤ على الاعتراض، تسحب صندوقا من داخل السوبر ماركت وتقعد أمام العجوز، تضع الزجاجة على الأرض بينكما. يضطرب قلبك بالشك بعدما كان غارقًا في اليقين. تعرف أنك حتى لو عدت إلى الشقة الآن فلن تنقطع عن تجاهلك، تريد أن تخبر العجوز عن حبك ولوعتك، لكنه لا يعبأ بك، يتوه مع التلفاز، يقلبه بالريموت في يده، يتوقف عند قناة أخبار، تراقب الشريط الأحمر يدور بخبر عاجل؛ مقتل أشخاص لأجل أشخاص بسبب أشخاص يعملون عند أشخاص يريدون أن يحكموا أشخاصًا. أنتَ أيضا مقتول، تفكر، وتنظر إلى العجوز، يزداد الحزن ثباتا في عينيه، تفكر في ردة فعله لو عرف أنها لا ترد عليك. أي رجل أنت تقتله امرأة بصمتها؟ يقلب العجوز القنوات. يمر بكما كلب وسخ. يمشي الكلب في هدوء ويحني أنفه للأسفل، يشمشم حول الحوائط، يبحث بكل اهتمامه عن شيء لا تعرفانه، يتابعه العجوز بكسل، والكلب لا يتوقف عن البحث والشمشمة. هل أنت كلب؟ أنت أيضا تبحث عندها عن كل شيء، وهي بالكاد تسقيك بما تريده هي فقط. هل أنت كلبها؟ لا لا، تعرف أنها تحبك لكنها تمارس عليك الدلع، برغم أنها تمارسه بجفاء قاس كأنها لم تحبك أبدا. تحتارُ في أمرك، تقف من مكانك وتحملُ الزجاجة المثلجة، تنظر لها قبل أن تمشي، ربما يراها العجوز اختيارًا صائبا. تتركه يتقلب مع تلفازه وتدخل الشارع، تغلق الجاكيت حتى آخره وتحكم الكوفية حول رقبتك، تحاول أن تتدفأ، تدخل إلى الحارة، يسار في يسار في يسار، تعود إليها. 
– وبعدين؟
الحيرة تزداد. تصعد درجات السلم ببطء. تفتح الباب وتدخل. تراها لا زالت تغسل الأطباق ترقصُ مع الموسيقى. تنادي عليها مرة واحدة لكنها لا ترد. تتوجه نحوها.