قلعة لا اسم لها

يحكى أن حربا قامت بين مهراجا إمبراطورية غوبتا وكسرى الإمبراطورية الساسانية.
ولماذا يحكى؟!
إن ذلك العالم القديم لم يعرف السلم قط، والطريقة الوحيدة لتحمي وكر الصقور الذي تحكمه، أن تجعل أطراف عشك مشتعلة، تحرق كل من حاول الاقتراب منها. ولذلك لنقل، أن الحرب التي لا يتذكر أحد متى بدأت بين الهند وفارس، ولا يعلم الجنود ما نهايتها، ما زالت تصطلي معاركها في القرى والقلاع التي تعيش في الهامش الضيق بين حجري رحى الإمبراطوريتين، واللذين يدوران على بعضهما، بوهم أزلي ولا نهائي.
وهكذا حينما ضرب طاعون جاستنتين جنود الإمبراطوريتين، تفاءل الجنود بانتهاء الحرب، والعودة إلى بيوتهم لتذوق طعم السلم. بيد أنه زاد من اشتعال الحرب، خصوصا حينما قضى الوباء على خراج ومحاصيل المدن المحيطة بالعاصمتين. وبقت قلعة وحيدة على الحد بين الإمبراطورتين، وتحديدا على نهر السند، مثل زمردة لم تتلوث بالطاعون. للقلعة التي بنيت حول تفريعة من النهر، فصارت قادرة على الاكتفاء بمائها وجناتها وإغلاق أبوابها في وجه الطاعون، اسمٌ لم يعد مهمًا من أجل هذه الحكاية. اسمها سيكون علما مهمّا، لو أن إحدى الإمبراطوريتين قد تمكنت منها. فمجرى التاريخ سيتغير كما تتغير مجاري الأنهار بالنوازل الإلهية والأعمال البشرية، فتتشعب أو تتجمع أو تندثر. يمكن رؤية الجيشين المنهكين المتحاربين على ضفتي النهر خارج القلعة ومن أجلها، في هيئة رجلين مخمورين يتعاركان – بطريقة مثيرة للشفقة – خارج حانة، على من يظفر بفتاة داخلها، لم يعلما أنها قد حسمت أمرها ألا تهب نفسها لأحدهما!
يقاوم البشر الرتابة بالعبث مع الموت، حتى إن تيقنوا أنهم لا يملكون شيئا أمامه، هربوا من طريقه. أولئك الذين يعيشون على ضفاف النهر، أو يتخذون مُدنًا على سفوح البراكين الخاملة، ما يلبثون أن يفزعوا من الموت إن فاض النهر أو البركان. بدت الحرب – التي كانت شيئا عظيما للإمبراطوريتين – محض لعبة تافهة مع الموت، حينما زارهما الموت متوشحا بالوباء. فاضطر الجيشين للعودة حينما انقطعت الإمدادات، وخشي المهراجا وكسرى من قيام فتن وثورات. لقد حصد الموت الأرواح و المحاصيل في نواحيهما، ولم يبق سوى جوعى ليس لديهم الكثير ليخسروه. إلا أن كليهما لم يرد التخلي عن القلعة التي لا اسم لها رغم عجز جيوشهما. فالظفر بخراج وحامية القلعة التي لم يمر عليهما منجل الطاعون، كفيل بحل مأزقيهما. ومهابة رجحان كفة إحدى الإمبراطوريتين على الأخرى، قررا إرسال وزيريهما للتفاوض على الحدود في أمر القلعة، بدلاً من تركها فريسة للآخر.
عاد الوزيرين لحاكميهما بمقترح، ولتسهيل حكاية هذه القصة سنرويها باقتفاء أثر وزير المهراجا فقط. لوزير المهراجا اسم باللغة السنسكريتية لم يندثر كاسم القلعة، وأقرب طريقة لنطقه بالعربية «ل غ ه». هكذا تحدث الوزير «ل غ ه» عند المهراجا:
«كان واضحا لكلينا من حاشيتينا – ونحن نتفاوض أمام القلعة – أننا لا نملك ما يكفي لاستدامة الحرب على الجبهة، ولكنني لم أرد أن أقره على ذلك. حدثته عن أهمية ألا تضيع المزيد من أرواح الجنود في هذه الحرب، ومن المهم أيضا أن نحمي القلعة من الطاعون ونستفيد من مواردها في مجابهة الطاعون. قلت له: من الواضح أن تقاسم خراج القلعة هو الحل الأفضل. ولكن هذا الخيار لن يكون مقبولاً لعظمتكم بعد كل التضحيات التي قدمها جنودنا، ولا أظنه يكون مقبولاً لكسرى أيضًا. ولأجل هذا اقترحت حسم أمر القلعة بدون خسائر إضافية للأرواح. فلنخوض حربًا على خريطة، أو لنلعب معركة على رقعة!
حينما قلت له ذلك، ابتسم وطلب من حاشيته جلب الطاولة والنرد. أخبرته أنني أجيد لعب الطاولة أيضا ولا أشك في نزاهة النرد الذي جلبه، إلا أنه لا يليق بعظيمين مثل المهراجا وكسرى ترك الحظوظ تحركهما كما تفعل بالعوام، ومن الأجدر تحكيم عقولنا وعقلاءنا في أمر القلعة وحسم أمرها بمباراة شطرنج. أنا لاعب ممتاز ولا أشك أنه كذلك، ولكن كلانا لن يبلغ بدهائه دهاء سيده، ولا يستطيع التحرك في الأرض أو في رقعة الشطرنج إلا بأمر من عقل سيده. فليعد كل واحد منا إلى سيده بهذا المقترح، ولتكن كل نقلة على الشطرنج بلقاء آخر هنا، فلا أريد للمهراجا أن يلعب مع أقل من كسرى، ولا أريد لأحدنا التراجع عن خطوته لأن سيده لم يقره عليها، حتى لا نرتاب أنه زعم ذلك لما رأى هزيمته. ولا تخشى من طول اللعبة، فالمباراة مهما طالت لن تتجاوز ما طالته الحرب، ولا ما سيطاله الوباء.
واعلم سيدي المهراجا أنني التمست أن سيده سيقبل بذلك، ولو أذنت باللعب معهم – بعد التشاور معك ومع أفضل اللاعبين في بلاطك – لإمّا غلبناهم، أو انتهى الطاعون قبل أن يغلبونا. ولي طلب بسيط إذا فعلت: لقد أذن لي بالنقلة الأولى بذريعة أنني صاحب الفكرة، بيد أنني أخشى أنه لم يخاف المباراة كما لم يخاف الحاشية التي جئت بها. وأقترح أن تجهزني بحاشية بها فيلين من عظيم فيلتك، وبعض من الجند والمال. فمهما كان ذلك مكلفا علينا في هذه الأيام، فهو كفيل بزرع الرعب في كسرى وردعه.»
عجب المهراجا من اقتراح وزيره ووافق عليه. فبدأت اللعبة التي كانت نقلاتها أكثر من مجرد رحلة لمباراة، بل حملة استطلاعية يستكشف فيها الوزير أحوال الإمبراطورية في أيام الطاعون، وينقل أخبارها للمهراجا – الذي قرر اعتزال الناس و الحاشية في جزء من قلعته – كما ينقل نقلاتها. ويحرك حجارتها كما يحرك شؤون قرى ونواحي الإمبراطورية بأمره. في أول نقلة، أخبر الوزير المهراجا أنه من حسن الحظ أنه جهزه بحاشية وفيلة، فلقد تأخر عليه لأنه اضطر لتأديب قرية متمردة في أطراف الدولة. في النقلة الثانية، أخبره أن الطاعون قد قضى على أحد الولاة وعددا لا بأس به من جنود الحاميات في القرى المجاورة، وأن الجوع والإشاعات قد أغرت بعض الجهلة بالثورة فيها. واقترح عليه، كما اقترح النقلة الثانية، جلب معظم الجيش نحو العاصمة لحماياتها، واستخدام فرقا منه في حملات لإخماد الثورات، مرواحا ومجيئا، كل ما استدعى الأمر. ومع مرور النقلات، أخبره أن حملات الجيش قد جلبت الوباء للعاصمة، والطاعون أصاب بعض حراس القلعة كما خشي، ولذلك كان قد انتخب ثلاثة من الحراس – قبل نقلته الأخيرة – ليعتزلوا الحاشية والناس طوال رحلته. ولمّا عاد ووجدهم أصحاء، فإنه يرى أن من الأفضل للمهراجا أن يبيت في البرج العالي من القلعة، والذي قد نهى الحرس والحاشية والخدم من دخوله، فهو أنقى هواءاً. ولعله أطهر ما في القلعة التي بدأ يجول فيها الطاعون. وسيتناوب الحراس الثلاثة على حمايته وخدمته، وهو يعتزل هناك مع رقعة الشطرنج، يدير معركة القلعة التي لا اسم لها وشؤون الإمبراطورية من خلال وزيره الذي لا يمانع التضحية والخوض بين الطاعون لأجل سيده.
في برج القلعة الحصين والمنيع، حيث لا يدخل عليه سوى الطعام، ولا يتكلم إلا مع الحراس والوزير متى جاء، عبر نافذة ضيقة في باب البرج مستورة بحجاب شفيف، تسنى للمهراجا الكثير من الوقت للتفكير أمام رقعة الشطرنج. كان لا يفكر في نقلاته فحسب، بل يفكر في نقلات كسرى أيضا. كلما يفكر في خطوة، يفكر أن كسرى يعلم بها. ثم يفكر أن كسرى يعلم أن المهراجا يعلم بما يعلم، في متوالية تبدو لانهائية مثل الحرب بينهما. ثم يعود يفكر بذات الخطوة، ويخمن أن كسرى لا يعلم بها، أو ربما يعلم بها ولكن لا يعلم أن المهراجا يعلم، في متوالية أخرى تبدو لا نهائية. ولا يبتر تلك المتواليات إلا النقلة الأخرى التي تحدث. ويفكر أيضا في إمبراطوريته وإمبراطورية كسرى. المهراجا يعلم حدوده وجنوده، ويعلم حدود وجنود خصمه حينما بدأت الحرب، تماما مثلما يعلمان مربعات الرقعة وأحجارها لما بدأت اللعبة. وبعد اجتياح الطاعون الإمبراطوريتين، تعذرت رؤية البلاد وأصبحت مثل الوباء، يمكن رؤية أثره فقط. يمكن للمهراجا تخمين ما يحصل من حوادث في بلاد كسرى كما يخمن نقلاته. ولكنه لن يعرف إلا متأخرا، بعد أن يكون أثرها قد ظهر، كما تظهر النقلة الأخرى على رقعة الشطرنج. فقبل ذلك تظل الاحتمالات اللانهائية – التي بعضها قاتل أو ربما رتيب – متاحة حتى تنكشف. من الوارد أن يكون الطاعون قد اختفى من فارس، وأن كسرى الآن في طريقه بجيش جرار نحو قلعته. من المحتمل، أن كسرى مشغول بإخماد الثورات في بلاده. ومن الممكن، أن الوباء قد ضرب عاصمته وأنه يعتزل أيضا في برج عالٍ مع ثلاثة من الحراس.
لم يكن مخطئا المهراجا في تخميناته، فاتسعاها سيجعل أحدها صحيحا. في أول مرة التقى الوزيران أمام القلعة التي لا اسم لها، رأى الوزير «ل غ ه» الطمع في عيني ترجمان وزير كسرى.  فلما عاد بالفيلين والجند، استطاعوا أن يقتلوا بالرماح وزير كسرى قبل أن يترجل من حصانه، ويفتكوا ببقية حاشيته، مبقين على الترجمان. وبعد أن تحدث الوزير «ل غ ه» مع الترجمان وأغواه بالمال، أدرك أن ما رآه أول مرة في عين الترجمان ليس الطمع، بل انعكاس صورته!
صار الترجمان ينقل الأخبار – التي ينسجها الوزير «ل غ ه» – لكسرى كما ينقل نقلات الشطرنج. فحينما عاد، أخبر كسرى أن وزيره والحاشية كلها ماتت بالطاعون في طريق عودتهم ولم ينج غيره. ومن الأفضل أن يخفي ذلك عن وزير المهراجا ويكملون مباراة الشطرنج التي بدأت، وإلا فستسقط القلعة التي لا اسم لها بيد المهراجا. وفي استراحته بإحدى القرى أثناء رجوعه، رأى تململ حاميتها من انقطاع ما يجيئهم من العاصمة بسبب الطاعون وخشي تخاذلهم، فمدهم بالفائض من المال والمؤونة التي تبقت معه بسبب موت الوزير وحاشيته، وأخبرهم أنها من كسرى، وأنهم ينقلون لكسرى شكرهم وولاءهم. وهو في طاعة كسرى إذا أراد أن يكمل المباراة التي بدأت عند القلعة التي لا اسم لها، وينقل أحوال البلاد حينما يعود.
وزير المهراجا يعرف أن من يتحكم بالأخبار يتحكم بالبلاد. فلقد كانت تلك القصة كافية لكسب ثقة كسرى، وترقية الترجمان لينوب عن الوزير في تلك الرحلات ويستمر في نقل الأخبار. وشيئا فشيئا، استمر الوزير «ل غ ه» باختراع الأخبار التي ينقلها الترجمان مع نقلات الشطرنج، حتى انتهى إلى حبس كسرى في برج من قلعته كما حبس المهراجا في برج من قلعته، ليلعبان مباراة شطرنج وهمية، بينما يحكم الوزير «ل غ ه» الإمبراطوريتين طوال فترة الطاعون!
لماذا نحكي حكاية من قبل ما يقرب من ألفي عام؟ لماذا تندثر بعض الاسماء و تبقى بعض الأسماء؟    
الحكايا والأسماء، تبقى ما بقيت غايتها، وتنطمس ما انتهت أسبابها. وأحيانا، تندثر ثم نعيد اكتشافها واختراعها لأن هناك شيء تقوله لم يقال. أنا الآن أكتب هذا النص من أعلى مكان في جسدي وأكثره حصانة ومنعة، من رأسي. هناك عقل محبوس في ذاك البرج يحاول أن يعبر عن أفكاره، و ينتقي كلماته مثل ملك حبيس ينتقي نقلاته. في مكان آخر، هناك قارئ له عقل محبوس في أعلى مكان من جسده يفكر. أحاول تخمين أثر كلماتي في أفكاره، ويحاول تخمين أفكاري من كلماتي. لكن أحدنا لا يعلم يقينا ما يفكر به الآخر. كلانا لا يحكم الأفكار في عقل الآخر، ولا يعرف يقينا ماذا تنقل الكلمات من أفكار. كل ما نعلم، أن بيننا وزير يحكم العالم الممتد بين عقولنا. 


صورة الشريط © حيدر ديوه چي