أسئلة تُدحرِج الوقت مثل برميل فارغ

الفَقْدُ غوايةُ الغياب والنسيان. ملاعبةٌ للضياع في الهزهزة الدائمة للوجود على أطراف العدم، في التحويمِ حول النهايات والحواف، وملامَسةِ الزّوال أوانَ التعرّض للكَشط والتسلّخ بلظىً كاوٍ يهب عليك من الجهة التي لا تعرف، إذ ليس للفقد اتّجاه، فأن تفقد نفسك، يعني أي تفقد جسدك، وما مِن سبيلٍ إلى ذلك سوى الدوران حول نهايات الاحتمال الفيزيائي، دفع الجسد في كل مرة إلى العتبة التي يوشك أن يَنسلخ منك بعدها، أن تدفع حتى توشك ملامسة شيء لا تعرف ماهيّته، تدرك أنه من عالَم آخَر وأنك تمارس لعبة خطرة حين تسمع صرير الوعي يُطحَن تحت العضلات والأفكارَ تذوبُ في الدم وتتبخّر مع العَرَق، ولكنك تظل تدفع وتدفع، خفيفًا فأخفّ فمحلّقًا إلى لا غاية ولا هدف سوى المزيد من هذا الإحساس، ممتلئًا بإدراك أنه لا شيء آخَر يكافئُ الشّغلُ فيه المعنى مثل شغل الجسد، وبلا مراكمة أو حِساب، بلا خشية للتيه حيث لا طريقَ ولا وِجهة، ولا جمع لشيء فوق شيء آخر اليوم؛  وحده هذا الجهد العدمي المنغلق على نفسه ينجو، هذا الجهد الاستهلاكي الذي لا يطلبُ إلا ذاته، إلا الإنهاك والنسيان، إلا بهجة مثل بهجة ورقة شجر تفتّتت وحملها النهر إلى البعيد، هَدْهَدَها حتى محيطٍ لانهائيٍّ وتركها تضمحل في لذّة الغياب الأخير، في ذُرَى غَسَقيّة نائية لا تصل إليها حتى تغيب، في حيث يلتصق الجهد على هدفه ويكونُه مثل كلمة أخذها شاعر من أعماق اللغة، نَفَض عنها ترابَ القواميس، غسلها وألقاها على حَبْلِ قصيدته وتركها مشرقةً في بَهاءٍ ساطع: هي صوتها، وهي معناها، وهي العالَم في آن واحد، ومثل كلمة متوهِّجة في قصيدة، مثل ورقة شجر مضمحلّة في محيط، تنسلُّ ذاتك منكَ، وتظل أنت تدفع وتدور، تنزف وتتلاشَى، حتى تختلَّ دائرة مطافك، وتقرّر، في نزوةٍ لم تَعْتدها الدوائر، أن تمنح لنفسها امتياز النهاية ولاندفاعك نعمة الغاية فتروح تنساب وئيدًا مثل بخار كثيف، ضاجّا بأحمرَ فائرٍ ينتظر جرحًا يحرّره، شِقّا ينقدحُ في الجسد شَرارًا ويسيلُ وميضًا من النجوم تغمر العالَم بينما تستصفيك، تُطهّرك وتخلّصك، ذاهبةً في زخم طوفان يغشَى ما يغشَى، في احتدامٍ ملوّن أخير، في طوافٍ نجميٍّ ربما جعلك فِكرة أو نغمة، أو طوَّح بك إلى قَرارٍ مطمئنٍ بدفء الأرضِ الأموميِّ حتى ينبت فوقك عشب وتنوّر فيك وردة وينام بجوارك ظبيٌ غير مروّع، هناك يتسطّح العالَم مثل صفيحة ألمنيوم، تختنق الأبعاد الثلاثة، يصدأ الزمن، وتقابلك أسئلة\أجوبة تُدحرج الوقت مثل برميل فارغ: الوقت؟ بلا وزن أو امتداد، إنّما الامتداد للحَنين وأغنية، وضحكةٌ مُنضَفِرة في المقطع الأخير من أغنية ثانية، وخُصلةٌ تتدلّى بين غيمةٍ تشتعل وبيني. أنا؟ قِبلتي الداخل حيث الذّكرى مُشِعّة والأيّام تتهاوى مُنشَطِرة عن أيّام مخفيّة، متفجّرة إلى ساعات، لكل ساعة بابان، وللباب أعتاب عليها وقوفٌ وتراتيلُ أزليّة. الأزل؟ لا أزلَ مثلَ ماضٍ يرتطم بالحواسّ. الحواس؟ لغةٌ تحوِّم ولا تقع، تيه الأعلى والأسفل في الاحتكاك الشّهَوي لأدنى نجمة بأعلى قِمّة، غواية انجذاب الضد البعيد للضد البعيد وتيه المكان عن المكان. المكان؟ صوت رسغٌ يُخرخِر في جذع شجرة لا ترتوي، رياحٌ تُزفزِفُ ترانيم قديمة، ظِلال تتكلّم. الكلام؟ التردّد المستحيل بعد حافّة الهاوية، وقفة الحيرة في تعدّد الاحتمال. الاحتمال؟ كلام الصّمت حين تتكشّف الأشياء. الأشياء؟ جِيرة طيّبة وحكايات مخبّأة، انتظار خيطٍ يَنْظِمُ ودائرة تعانق. العناق؟ إنكار الكُلّ على الأجزاء واحتجاب المفرَدِ في المفرَدِ، مرافقة الصوت نفسَه في نشيد. النشيد؟ عَودٌ إلى العِناق، سُخطٌ على المسافة، نداء الحضور للفقد. الفَقد؟ غوايةُ الغياب والنسيان. ملاعبةٌ للضياع في الهزهزة الدائمة للوجود على أطراف العدم، في التحويمِ حول النهايات والحواف، وملامَسةِ الزّوال أوانَ التعرُّض للكَشط والتسلّخ بلظىً كاوٍ يهب عليك من الجهة التي لا تعرف.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي