أرقام هالة في الهالة

تدور عينها المحبوسة في كحلها ومن حولها إطار نظارتها السميكة السوداء، رأسها بالكاد تظهر من خلف الورق المكدس على مكتب الوزارة. البندانة ومن فوقها الطرحة الشيفون الملتفة كالثعبان من الطرفين حول رقبتها تجعل الجو أكثر حرارة، أم أنه التكييف المغلق لاحتواء العدوى؟ أم أنه الهلع؟ تمد يدًا ناحية الملفات ثم تتراجع لا بسبب الخوف وحده ولكن لأنها تعرف ما فيها؛ أرقام وأرقام أخرى، إصابات تنتشر وموتى يتراكمون.

هالة؛ اسمها هالة. ومدير مكتبها اسمه شكري. رجل طويل من القرع الذين لديهم ثخنات جلدية فوق قفاهم مباشرة؛ مرعب. ورعبه يأتي أيضًا من صفات أخرى مشابهة؛ فهالة لا تعرف مَن عيَّنه هنا، وبينها وبين نفسها افترضت أن القيادة السياسية وراءه.كان يتقن إبداء اللطف والقسوة في الوقت نفسه، يأتي لها بما تريد قبل أن تطلبه ولكنه لا يتصرف على أنه يعمل لديها، شخص مربك في وقت مربك. لم يطرق الباب يومًا قبل الدخول. 

وهكذا هذه المرة أيضًا دخل فجأة فانتفضت هالة، ودخل من ورائه فني ضئيل الجسم يحمل في يديه ما اتضح أنهما شاشتان. ملامح شكري صلبة كالعادة، أما الفني فملامحه تشبه ملامح أم هالة؛ مغلوبة ومتواطئة في الوقت نفسه. تذكرتْ أباها وأمها حين كانا يخرجان من غرفة نومهما بعد منتصف الليل. أشار شكري إلى نقطتين بالتحديد في السقف، على الفور قفز الفني بحركة بهلوانية على كتف شكري الأيمن فركب الشاشة الأولى ثم نقله بيد واحدة على كتفه الأيسر فركب الثانية، وبحركة بهلوانية أخرى نزل على الأرض وخرج. أما شكري فتمهل قليلًا.

الشاشتان المنطفئتان في مواجهتها تمامًا. ودَّت هالة لو تسأل عن فائدتهما لكنها بالطبع لم تفعل، وبقيت تتنقل بينهما بعينيها الهلعتين. كان شكري يقف عند الباب الموارب ومقبضه في يده يشاهد عينيها. أضيئت الشاشتان. شهقت هالة. أرقام مليونية، تتغير باستمرار. زادت سرعة عينيها بين الشاشتين. ابتسم شكري برضا، وقال: «الناس هتخرج…». وخرج وأغلق الباب.

انطفأ النور، فسادَ ضوء الشاشتين الأحمر، اختلط بضوء شاحب يتسلل من الشباك فلم تميزه هالة بين الليل والنهار. أدركت أن سرعة تغيّر الرقمين بدأت تستقر. التصقت عيناها بهما وهما يتحولان عددًا تلوَ الآخر؛ في شاشة تفقد الثمانية بالموضع الخامس من اليمين شرطتها العُليا يمينًا فتصير ستة، ثم يسلب الصفر شرطته السفلى يمينًا والعليا يسارًا فيصير اثنين، ويخرج من رأس الواحد ورمًا فيصير سبعة، وتتحول التسعة إلى حية عوراء بعدد الخمسة، وكذلك تنقلب الأربعة التالية إلى الحيّة نفسها، فيستقر الرقم على «62755».

تميز هالة هذا الرقم. تحفر بهلع في أوراق مكتبها حتى تتأكد؛ إنه رقم الإصابات. ضرب رأسها جرس منبهها الحديدي في الثانوية العامة، كادت تنزلق من على الكرسي، توَّ ما رفعت رأسها رأت الخمسة على اليمين قد صارت ستة، ووجدت الشاشة الأخرى قد استقرت على أربعة أعداد حادة؛ «2365»؛ أعداد الموتى. ضرب الجرس مرة أخرى، فوقعت من على الكرسي. لا تريد أن ترى. بقيت تحت المكتب تنشج والهلع يمنعها من إغلاق عينيها. في دقة الجرس الثالثة عشر، وقع الصوت مضاعفًا خمسة عشر مرة كاد يصم أذني هالة من تحت الطرحة والبندانة. زحفت من خلف المكتب لتنظر ما جرى فوجدت شاشة الإصابات قد زادت أربعة عشر، والموتى قد زادوا واحدًا. 

ثم رنّ جرس الإصابات أسرع هذه المرة؛ مصاب آخر.. مصابان.. ثلاثة.. أربعة مصابين… أربعة عشر مصابًا وقع عندها الجرس الأكبر تنخلع معه شهقة هالة؛ ميت آخر. في المرة التالية؛ واحد.. اثنان.. ثلاثة… ثلاثة عشر مصابًا يقع عندها الجرس الأكبر ينقبض معه صدر هالة؛ ميت آخر. واحد.. اثنان… وعند الثاني عشر وقع. جرس المنبه يتسارع بلا هوادة؛ حتى حلّ فيه شيطان أقرع مثل شكري يضرب بسرعة من خارج استطاعة البشر، وجرس الموت الأكبر يسحبُ النفس من صدر هالة، والأرقام تتزايد تتزايد حتى استحالت قراءتها. إقترب عدد الموتى من المصابين واختلطا كأن أحدهم قد بدّل الشاشتين. صفّرت أذن هالة. وجدتْ بين الشاشتين شاشة ثالثة لا تُرى. من بين أرقام عشرات الآلاف المختلطة على الشاشتين، لعبت الأعداد المنطفئة دورًا فرأت مجموعها في الثانوية العامة؛ 98.17%.

ظهر شكري أمام الباب من دون أن يُفتح، حدق في هالة وقال لها: «مبروك يا بنتي هتبقي دكتورة قد الدنيا!» انخلع آخر نفس في صدر هالة ولم تجرؤ على الصراخ في أبيها.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي