أيام الحياة الطبيعية التي يقولون عنها

أيام موجعة مضت وأيام أخرى تعود، وكنا لا نفكر، نتكلم وننسى. تحركت تلك الظلال في ديسمبر، كنت عائدًا أمشي بضجر مؤذٍ. لعلّي كنت سكران – لم أشرب في حانة ما – أو أن الأيام التي مضت وقلنا لن تعود جعلت أنفاسي تتقطع، وصارت أفكاري كئيبة. الطرقات مظلمة خالية إلا من أكياس تقلبها الريح أمام المحالّ المغلقة وأخيلة سوداء. علبة فارغة تقرقع وتتدحرج مسرعة. سيارة يومض نورها الأحمر وميضًا محتضرًا. أمشي على الرصيف بضجر، وخمّنت أن المطر سيكون غزيرًا. الألم في عضلات الظهر، تكلم الطبيب عن حاجتي لجلسات العلاج الطبيعي. في الصباح كانت السماء صافية، الآن أرى الليل مثل أشباح متراكمة لا عيون لها. أمشي عائدًا على الرصيف أمام عمارة ما، نبح عليّ كلب بغلّ، فقلت: سوف يهجم، وأسرعت في مشيتي ولم أركض. سمعت صوت امرأة تكلمت بغضب ثم أغلقت النافذة. لم أر أحدًا يمشي على الرصيف، كما لو كنت الوحيد الذي يعود مشيًا في هذا الوقت. رأيت ظِلال رجل سمين كان في الأصل ذئبًا بريًا. أعمدة الإنارة تهتز لأن الريح اشتدت. صوت وقع المطر على الأسقف والرصيف قوي، وأنا ضجر. لست أوروبيًا ولم أسكن بروكسيل لأحمل مظلة. بلّـل المطر الذي اشتد  شعر الرأس وياقة المعطف الثقيل والحذاء والجوارب. الأشباح المتراكمة اقتربت وأنا أريد أن أصل. في مدخل العمارة الضيق وقفت، أردت أن أنتظر حتى يخف المطر، صوت بكاء طفل يصل متقطعًا. مدخل العمارة ضيق وعفن، رائحته مثـ… الرجل شتم امرأة تقف على السلم ثم تدافعا وكأني لست موجودًا، خجلت لأني لم أقل شيئًا، أردت أن أخرج قبل أن تطلب مني مساعدة. مشيتُ تحت المطر الغزير، البرد يؤذي الأذنين وأصابع اليد. لم يكن مدخل العمارة دافئًا مثل شقة صغيرة بها مدفئة وسرير وطعام وملابس نظيفة لكنه خيرٌ من المشي على الرصيف تحت المطر الذي يجعل الأرضيات زلقة. مشيت عائدًا أرى الضوء الضئيل لمدخل العمارة يبتعد. دخلت في شارع فرعي، صوت منبه سيارة الإسعاف البعيد يقترب، ثم رأيت الضوء الأحمر ينعكس على الحوائط والأرضيات الزلقة وعلى وجهي وكف يدي. صوت منبه سيارة الإسعاف مثل صراخ المرأة التي يدفعها رجل على السلم. جدي لا ينزعج من المطر، ينظر للسماء، يشمر ذراعيه وتبتهج روحه. المطر لن يتوقف. انتابتني أوهام مريرة، هل مشيت 

لم تكن ذئبًا بريًا ولم تكن ذئبًا محبوسًا في حديقة الحيوانات، بل كانت في الأصل حيوانًا داجنًا. كانت غاضبة منذ أيام بعيدة لأنها تتذكر الأشياء التي تؤلم روحها، ثم قالت: لقد جعلتني الأسرة حيوانًا داجنًا. تتذكر أن الأم قالت لها سوف أقطع رجليك وقربت السكين – التي تقطع الليمون الأصفر – من فخذها لتخيفها. تبوّلت مرة أخرى في فراشها ولم تنفّذ الأم وعيدها. حينما ولدتْ ابتهج الأب، وعلّقت العمة البالونات وأوراق الزينة الملونة، حملتها الأم وصورهما الأب بكاميرا فيلمية. ظفّرت الأم شعرها ودخلت المدرسة، درست بجِد، وكبرت ودخنت مثل شاب يحاول لفت انتباه فتاة، وضعت مساحيق التجميل، وأحبّت فتاة جميلة، ثم أحبت ملمس الجلد الناعم، تكلمت في تلك الأيام كلامًا كثيرًا وقالت أن الأب صلب، لذلك فكرت في الهجرة. ظنّت أنها إن غيّرت المكان سوف تتغير طبيعة العالم، مشت بقلق وحيرة وخرجت في بعض المظاهرات، إلى أن أحست من نفسها ثقة ورأت أنها صارت ذئبًًا بريًا، وقع لها حادث أليم، في زقاق ضيق قذر تكون فيه القطط قوية، وأثناء هطول المطر الغزير تحرش بها – لست متأكداً إن كان اغتصبها أم لا – رجل نحيل يمشي وهو مستعد لسرقة أي شيء. جعلتها هذه الحادثة تمر بنوبات رعب غامضة، ورأت أنها صارت حيوانًا داجنًا. 


في هذا الشارع؟ وقفت أنظر للبنايات الكئيبة الخائبة لأتأكد، توهمت أن الأشجار هي الأخرى تمشي تحت المطر، ولو وقفَتْ في مدخل العمارة الضيق لتتقي المطر الغزير لوجدتْ الحطّاب. رأيت غربانًا تنظر بوجوم، كما لو كنتُ أنا الذي اصطادها. أسرعتُ في المشي، وفي رأسي صوت وقع أقدامي على الرصيف. ما هذا الطريق؟ في الشبابيك أعين تراقب. امرأة تسدل الستارة وضوء رقيق يصل للشارع من خلف الستارة. لماذا النوافذ صغيرة ولا أرى إلا الظلال تتماوج. ضجرتُ ولا أحد يمشي تحت المطر سواي. في نافذة ما صَبيان حقيران ينظران إليّ، لماذا ينظران؟ لأن المطر بلل المعطف وصار ثقيلا؟ تمنيتُ أن لديّ وقتًا لأضربهما ضربًا مفزعًا، صرختُ بهما لكنهما لم ينتبها، لأن الزجاج سميك والنافذة مرتفعة، وكان الصبي يبتسم ويشير إلى البرق الذي لمع الآن في السماء، لمع من بين رؤوس الأشباح المتراكمة. مشيت بجد، في الأزقة الجانبية أرى ظلال تتموّج على الأبنية. رأيتُ ظل رجل بعيد يصطلي بالنار، وقلتُ في نفسي هذا بواب، وأنا لست بوابًا. ومشيتُ دون توقف. في العمارة المقابلة غرفة اُطفئَ نورها. تحت السيارة بركة من ماء المطر الذي توقف وقطة تموء بفزع وتنظر. ابتعدتُ عن السيارة. في الشقة التي أطفئَ نورها عجوز قديمة عاصرت الحرب العالمية الثانية ولم تتكلم من يومين، الآن تحلم أنها في الجنة التي انتظرَتها منذ انتهاء الحرب، سمعتْ أن الجنة ستأتي بعد سقوط جدار برلين، ثم تكلموا عن مواعيد أخرى. تحلم ولا تدري أنها سوف تموت بعد قليل. الريح باردة سريعة، وأنا لم أفكر بشيء لأن المطر كان قويًا وأردت أن أصل لأنزع عني هذه الملابس المبتلة وأتناول الطعام وأنام. المطر قوي ولوقعه ضجيج يصيبني بالضجر، وقد يدفعني للتفكير بالموت ان استمر.انعطفت يمينًا وكادت قدمي أن تنزلق، بل انزلقتْ ولم أقع ولا أدري لماذا شعرت بالإهانة. لم أعرف هذا الشارع الذي أنا فيه، نظفت قدمي مما علق بها، ورقة لاصقة بيضاء. مشيت حذرًا، أمامي حاوية لنفايات الحي رائحتها زرنيخية، وشعرت برضى لأني لم أرَ أحدًا. انعطفت ومشيت مسرعًا ثم جريت حتى مدخل عمارة. الأرض رطبة والمصعد ذو الباب الضيق لا يعمل. سمعتُ صوت بكاء طفل وصوت المطر الذي اشتدّ مجددًا، على السلم أتوقف لأرتاح قليلاً وأنظر للأعلى، المعطف ثقيل وأنا ضجر. في الطابق الخامس أو الرابع شقة، طرقت الباب، باب خشبي طُليَ بدهان أخضر قاتم. طرقت مرة أخرى. فتح الباب رجلٌ شبه نائم(2)، قلت له وقبضة يدي مستعدة: لماذا ضربتَ المرأة على السلم؟ قال لي بخمول: لم أضرب امرأة على السلم، ثم استدرك وقال: هل أنت بوليس؟ وما عليك لو ضربت امرأة. قلت له: أنا إنسان حديث ولا يحق لك أن تسبّب الضرر لأحد ما. أمسكَ المعطف المبتل: أنت مريض تائه، انصرف وإلاّ

(2) هذا رجل بائس، لم يؤذ أحدًا ما، لكن الناس يطرقون باب شقته في وقت متأخر ويقولون له لماذا فعلت كذا. في تلك الليلة جاء شخص غريب وطرق باب شقته وقال له لماذا قتلت المرأة على السلم. وهو لم يقتل زوجته على السلم، بل لم يقتلها أصلاً. لقد ماتت على الطريق، ماتت في يوم من أيام الحياة الطبيعية، كان يقود السيارة مسافرًا من مدينة إلى أخرى، لم يصادف في الطريق حيوانات برية، ولم يكن الطريق زلقًا بسبب المطر، وإطارات السيارة جديدة والشمس مشرقة، لكن السيارة انقلبت. كان يسير بسرعة ويستمع للإذاعة، الزوجة قالت له أن الطفلة جائعة، لكنه لم يسمع جائعة لأنه عطس عطسة قوية سبّبت له الصداع، انحرفت معها السيارة عن الطريق وانقلبت. لعلّ يده خبطت بمقود السيارة، لا أدري، لكن السيارة انقلبت وعجنت رأس الزوجة. ماتت الزوجة والطفلة الجائعة، أما هو فخرج من السيارة المقلوبة بصعوبة، خرج  مشوشًا ووقف ينفض ملابسه. أجد أن هذه ميته كوميدية بائسة، تناسب حياة رجل يطرق الناس باب شقته لأسباب غريبة. حاولت أن أعرف هل كُتب في شهادة الوفاة: سبب الوفاة عطسة الزوج أم كُتب: توقف في الدورة الدموية وهذه الأشياء الطبية، لكن لم أفلح في الوصول إلى شيء. ربما في يوم ما أطرق أنا أيضًا باب شقته في وقت متأخر وأسأله عن شهادة وفاة الزوجة. 


طلبتُ لك البوليس. من تحت ذراعه رأيت ظلال رجل عجوز نائم على كرسي، ظلاله على الجدار تشبه… دفعني ولم أقل شيئًا، وأشار بحاجبيه ويده وأغلق الباب، سمعته يُكلم شخصًا ما، ولما سمعته يقول البوليس تذكرت أشياءً مريرة، لذلك لم أضربه بقبضة يدي المستعدة، وقلت لعلّ المرأة سعيدة لأنه لم يطردها في الشارع تحت المطر الذي اشتدّ الآن. نزلتُ السُلم دون أن أتوقف وأنظر للأسفل. أردتُ أن أقول بصوت جهوري: أقتل المرأة. لأني غضبتُ من تلك المرأة، لم أقل شيئًا ونزلت بسرعة – ظنّ أنه سمع صوت منبه سيارة البوليس-  انتظرتُ في مدخل العمارة، كان المطر غزيرًا في الشارع. خمّنت أن المطر لن يتوقف وخرجت. كان المطر غزيراً وهجست أن أحداً ما أراد أن ينتقم منّي. مشيت دون أن أنظر للبنايات الخائبة، المطر الغزير يجعل الأشياء تبدو غير واضحة. حاولت أن أتذكر الطريق، ثم دخلت في زقاق قذر. في الأزقة القذرة تكون القطط أقوى لأنها تعرف هذه الأزقة، ولذلك أسرعت، وخرجت إلى شارع عريض، ما من إضاءة إلا في مداخل بعض البنايات المتباعدة، خَطَر لي أن أندسّ تحت سيارة من هذه السيارات النائمة لأتقي المطر الغزير والريح الباردة، إلا أن هذا مؤلم، وقد تنحشر رأسي في مروحة السيارة، وستكون إهانة لي لو رآني أحدٌ وأنا أخرج من تحت السيارة مثل قطة جائعة، وربما يجدني صاحب السيارة ويظن أنه وجد سارقًا فيطلب البوليس. وقفَ أمامي سور حجري قديم، لولا المطر الغزير لكنت رأيته من بعيد ورجعت. نظرت إلى السور ثم نظرت للطريق ولم أدرِ كيف وصلت إلى هنا، تسلّقت السور ومشيت. الشارع مظلم والمطر غزير، توقفت ونظرت للسماء. الريح الباردة تؤذي الأذنين. شعرتُ ببعض الخفة تحت المطر لأني استطعت أن أتجاوز عقبة ما. عدتُ للسور وقلت في نفسي إن تسلقه سهل، أضع قدمي هنا ثم أمسك بيدي وأرفع جسمي بقوة عضلات الذراعين. تسلقته ومشيت، نسيت إلى أين كنت أريد أن أصل، كنت أقصد مكانًا به ملابس نظيفة لكن لم أعد أتذكر أين هي الملابس النظيفة، لذلك قلت سأمشي في أي طريق ولن أسمح لشيء أن يعطلني، حتى لو هجم عليّ كلب شرس يحرس مدخل العمارة فلن أتوقف. وأعجبني من نفسي هذا الإخلاص، وأردتُ أن أجري في كل الشوارع وأن أدخل كل البنايات، لكني خجلت أن يراني أحد من النافذة، وحينما أكلمه لا ينتبه لوجودي. لم أجرِ بل مشيت بسرعة، انعطفتُ يمينًا ثم توقفت ونظرت. مررتُ ببناية لها نوافذ، المطر قوي وأنا أمشي. في آخر الشارع انعكستْ ظلال قطة تخرج من حاوية نفايات، حاوية ظننتُ أني قد مررت بها من قبل. مشيتُ بالطول وبالعرض حتى وصلت إلى غابة مظلمة؛ أشجارها كانت في الأصل غربانًا تريد أن تنقض. لعلها مقبرة أو مبنى حكومي جعلني المطر الغزير أراه غابة. قلت في نفسي لن أجد هنا ملابس نظيفة، ودخلتُ الغابة لأتقي المطر الغزير. وقفتُ تحت الأغصان والأوراق الكبيرة. كانت الأرض موحلة لكن المطر لا يبلل رأسي ولا ياقة المعطف، جلستُ وقررت أن أنام هنا وفي الصباح سوف يتوقف المطر وحينما يتوقف المطر سوف أعرف إلى أين كنت أريد أن أصل. 


صورة الشريط © حيدر ديوه چي