قصيدتان

طواف أثيري لظلٍّ أعمى

في مكانٍ ما بجثةِ الأرض الهامدة
أنا طوافٌ أثيريّ لِظِلّ. 
سكّيرٌ يعطش في صباحِ توبتهِ الأول
لنكهةِ المارتيني 
وهي تلوحُ كلبؤةٍ من كأسهِ الفارغ.
سكّيرٌ يقظ، 
فتح بابًا ثم نافذتين
شطبَ السقف الذي رسمَه فوق رأسهِ
وطاولةً تُكابِر أن تعطيه قلبَه المفتوح لثانيتين
فيمنحه لعابرِ كأسٍ جديد
ليخيط ثقبَه المبقور كفوهةِ بئر
ومن ثمَّ يضعه في مكانِ لعْنتهِ الصحيح.
هذا مضحك، 
-مضحكٌ حدّ السخف!-
أن أشارك الظلالَ طوافي
أشارك المحطاتِ التي تركن فيها الظلالُ  
تأخذ وقتها لملاحقة الركاب 
وعمال النظافة الكسالى
وسيداتٍ يرتجلن علاماتِ الاستفهام فوق الأرصفة 
ويتابعن أجوبةً لمعضلاتِ الوجود
تقفز من نوافذ القطاراتِ المارقة.
انتظري إذن بكأسكِ عند كلّ ناصيةٍ 
لتجمعين ظلاليَ المبعثرة في طوافها العارم.
عند مدخلِ كلّ مدينةٍ مغلقةٍ على موتى 
لا يرقصون “التانجو” وهُم سكارى
يرفعون شاعرهم فوق منصةِ التتويج..
ليس صحيحًا أن يمنحوه وسامًا؛
إنما لتكون نُبّوته في وضعٍ يليق بجُثة.
انتظريني، 
-أيتها الغانيةُ المبجلةُ بخُطى الطُّهر.. 
  والمدانة عند قياصرةِ الحداثة-
فقلبيَ المصقولُ بالترحالِ زمنًا
مدينٌ لروحكِ بانتحال بصيرةِ الموت.
انتظريني، 
وامنحي طوافَ ظلالي يديكِ.. 
كي أعيد العالمَ المجنون إلى إيقاعِ رشده/
العالمَ المجنون في رأسي..
في مزاج قصائدي المرتد عن دينه
في أطنان القشّ 
التي أفتش فيها عن إبرتي النحاسية.
أعرف أن صناعةَ معجزةٍ لضريرٍ..
أسهل ألف مرةٍ 
من انتقاءِ قطرةِ عطرٍ 
من فنطاسِ نبيذٍ مُعتّق.   

هذه الحرب التي تسمعون كرازتها

أعرفُ قيمةَ العتمة،
فهي تسمح للصوصِ بسرقةِ لحمي
وتساعد في حياكةِ مقبرةٍ على مقاسِ مجرّة. 
هذا ملفك الأول أيتها الحرب..
أورثتِ البحرَ ضبابَه الأسود
كبّدتِ العصافيرَ أعشاشها المُهجّرة
فماذا تبقى إن نزعتِ مساميرَ النعوش عن جثثِ العاشقين،
وصنعتِ لأرواحهم المتعبة ثقوبًا تجعل التحليقَ مرِنا؟!

أربعةُ قرون كافية
لزرع مكان كلِّ جثة خلّفتها الحربُ وردةً حمراء
مليارَ وردةٍ وأكثر
تصنعُ ظلاً يراوغ ذكرياتِ الموت.

أنا أزليّ يا صديقي،
إذا ما فكروا في شطبِ التاريخِ ذاته
أنا أزليّ، لا تهُمّني الحرب
كلّ الحروب التي أرغموها المضي قدمًا نحوي
صليلُ حوافرها مجوّف كقعرِ طبل 
كتيبةُ المشاة أطفالٌ زرعتهم ظروفُ اليتم
في منصّاتِ التتويج بالموت
نزعوا من صدورهم دُمى اللعب
وزرعوا مكانها أحجارًا..
كتبًا إرشادية لحمل البنادق،
ورسوماتِ إطلاق الرصاص الحيّ
لا تدفعهم غير أنات الأرامل
والأطواق المكهربة في كواحلهم.
أنا أزليّ، لا أرتعدُ لحربْ..
فأعلنوا الحرب على الأرحامِ التي تأكل نُطُفها
على الأمهاتِ اللاتي ولدن أطفالاً
في غفلةٍ من نوافذِ الموتِ المشرعة
ويقتسمن خلفَ الأبوابِ تعاستهن برفق.
بعد كل حفلةِ قتلٍ
تتوزع جثثُ الموتى على عرباتِ الكارو 
تشيّعها أجنحةُ الريحِ إلى مثواها الأول
الحظُّ يحالفُ الوردةَ وهي تنشعُ حزنًا
في أصيصها المكسور بلا رحمة 
أو دميةِ طفل فضّتها غريزةُ جندي أحمق
أو فكرةِ أنثى ذبحوها بسكينٍ بارد..
لا تتصلّب مفاصلُ الحرب من الوقوفِ طويلاً 
في باحاتِ كلّ مدينةٍ خربةْ
أسفلَ الشبابيكِ التي كانت همزةَ وصلٍ لعاشقِين
لن يكون هناك مكانٌ معتمٌ لتبادل القبلات
أو لفائفُ التبغ المحشوة بالوهج
هذه الحربُ خُلقتْ لتتحدثَ في شاشةِ التلفاز كواعظٍ
يُلقّن الجماهيرَ كرازة العدم.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي