ماذا عن الغد؟

– ما يزال الوقت مبكرا. أترغب في بعض القهوة؟
بينهما طاولة قهوة عليها علبة بيتزا كبيرة الحجم، فيها قطع دون بصل وزيتون، لم تمس بعد. زجاجتا شاي مثلج فاترتين، مناديل متسخة، جهاز تحكم عن بعد بطاريته تحتاج إلى تغيير، وهاتف محمول، على الصامت، شاشته إلى الطاولة. ساقيها ممدودتان على الطاولة بعد أن خلعت جواربها البيضاء؛ اسودّت فألقتهما على الأرض.
– إنها الحادية عشرة. – أشار إلى ساعة الحائط، عقربها الصغير يسرع متجاوزًا الدقيقة الأولى.
– وإن يكن؟ – ذراعاها خلف رأسها.
– تناولنا بيتزا للتو. – بسبابته دفع النظارة على أنفه.
– وإن يكن؟ –  تمطت.
– وماذا عن الغد؟ 
– بعد القهوة. 
نهضت. رفعت سروال البيجاما. نهض هو الآخر. أطفأ التلفاز، قبل أن يصل البطل مفتول العضلات إلى سيارته هربًا من انفجار مكتوم في فيلم ممجوج الأحداث. أعاد جهاز التحكم إلى موضعه. غدًا يشتري بطاريات جديدة. ألقى نظرة على شاشة الهاتف. لملم الزجاجات والمناديل وألقى بها إلى القمامة. وضع بقايا البيتزا – سيتغدى بها وحده غدا – في حافظة بلاستيكية، ودفع بها في الثلاجة. 
وقفت خلف الستار، حافية، وشرّعت الشباك على ليل المدينة وبداية الربيع. استدارت عائدة إلى غرفة الجلوس، مرت به منحنيًا يلتقط الجوارب، تكاد نظارته تنزلق عن أنفه. عليه أن يصلحها. 
فتحت إحدى الخزائن، بالكاد تصل إليها، وقوفا على أطراف أصابعها، وتلمست بأصابع معتادة أولى العلب المعدنية على الرف، باردة، صقيلة. ناورتها، ناوشتها، دفعتها إلى الحد، والتقطتها قبل أن تقع. لربما كان عليها أن تضعها في مكان آخر يمكنها أن تصل إليه بسهولة. راقبها وهو يغلق الشباك دون أن يسحب الستار. لم تزل الجوارب في يده. أغدًا يوم الغسيل؟ مدّها، نفضها، وضع الفردة فوق الأخرى، ولفهما معًا، كورّهما عائدًا إلى الأريكة. قرقعت كبسولات القهوة في العلبة. أيها قد يساعدها على تفادي النوم ليلة أخرى، وأيها لن يؤثر في نومه؟
– هذه لك. رفعت كبسولة برتقالية تريه إياها، وهذه لي. أشارت إلى كبسولة سوداء، تركتها على النضد.
ملأت خزان الماء، وأيقظت الآلة الصغيرة ألقمتها أولى الكبسولات. ومضت الخيارات محتارةً لعشر ثوانٍ، تنتظر قرارها.
– جرعة أم اثنتان؟
– اثنتان، وزيدي عليها مقدارًا من الماء. – تفقّد الأريكة بحثا عن فتات. لا يكاد شيء يبين في نقوشها. سوّى وسادة وغيّر موضع أخرى.
– حسنٌ.
– إذا، ماذا لدينا للغد؟ – سألها جالسًا حيث كانت. ظهره إلى التلفاز المعتم، يداه مشغولتان بكُرة الجوارب.
ضغطت على الزر، فارتفع الصوت آليًا، رتيبًا، يستدر القهوة. استنكر المقاطعة بعينيه. تاركًا الكُرة، تناول مجلة قديمة من على الطاولة، التمعت على غلافها الداكن بقعة زيت تركتها علبة البيتزا. على مسافة ذراع منه، ومنها، وضعت الكوب أمامه على الطاولة. 
– وصلكَ طردٌ آخر اليوم.
– عليّ أن أطلب منهم التوقف عن إرسال هذه المجلات. كانت الأعداد القديمة أفضل. ألا تعتقدين ذلك؟
عادت إلى المطبخ. أعادت تلقيم الآلة بالكبسولة الأخرى، وشغّلتها. اتكأت على النضد، تضغط ذراعيها على سطحه الرخامي. سيترك الضغط أثرًا. تراقب القهوة تترجرج بارتجاج الآلة، يرتفع منسوبها في الكوب. وتراقبه يقلب أوراق المجلة من الغلاف إلى الغلاف دون أن يستوقفه شيء، منتظرًا توقف الآلة. لسحنته لون القهوة.
– هل أعددتِ القائمة؟
– نعم. على باب الثلاجة. – أشارت برأسها إلى الثلاجة إلى يمينها.
– حسنٌ. أتحتاجين لشيء آخر؟
– ليس الآن. سأخبرك ان احتجت شيئا.
– أخبرتِ والدتك؟
– لا داعي.
– تريديني أن أخبرها؟
– لا داعي. – تنهدت. ربما، غدًا. سأتصل بها. غدًا. – ظلت واقفة قبالته. بينهما الطاولة. بدأت حرارة الكوب تلسع أصابعها.
– حقيبتكِ جاهزة؟ – رشفة أولى. هذا ماء أكثر منه قهوة.
– نعم. لِمَ أغلقت الشباك؟ الجو خانق بعض الشيء. – هفهفت كُمّ البيجاما، طلبًا للهواء. اتجهت نحو الشباك.
على مكتب صغير، يبدو الآن أصغر مما هو عليه، إلى جوار الشباك، وضعت الكوب على كومة من الكتب. كان عليها أن تحزم الأوراق أيضًا. ليس هناك ما يكفي من الوقت. فتحت الشباك مجددًا. تتجاهل آثار الأيدي التي تناوبت على الوقوف عنده، تترك بصماتها على الزجاج. يجفف الهواء من فوره دبق العرق على وجهها ورقبتها. غيّر موضعه، يستقبل النسيم هو الآخر، يطالعها. لمَ أغلق الشباك؟ حكّ ذقنه. لم يحلقه منذ أيام ولا يجد سببًا لذلك. ربما غدًا. عادت إلى المكتب. جلست على كرسيه الخشبي، لم يعد يصر، تطل على الأضواء التي لا تخبو في الأفق. صالبت ساقيها، تنتظر أن تفتر القهوة.
– عليّ أن أكون هناك في العاشرة. – مدت يدها للكوب.
– أنغادر في التاسعة، إذًا؟ – نظر إلى ساعة معصمه. أزاح ثقلها. مسح وجه الساعة بإبهامه مرتين قبل أن يتركها على الأريكة. خمس وعشرون دقيقة بعد الحادية عشرة.
– يمكننا وضع الأغراض في السيارة مبكرًا. ربما تمكنت من ترتيب هذه الفوضى قبل أن نغادر. على الأقل يمكنني وضع الكتب في الصناديق الكبيرة. أين تركتَها؟
– قررنا ألا نشتريها. ألا تذكرين؟ 
التقت عيناها – مدهوشتين – بعينيه، لا تخبوان كأضواء المدينة. متى قررنا هذا؟ أمس؟ لا يهم. تبسمت، فتشققت شفتاها. يضحك لدهشتها. رشفة أخرى. بالكاد يستطعم القهوة. نهض يفرغها في المجلى. أعاد ملئ الكوب بالماء، وتركها في المجلى. يمكن للكوب أن تنتظر حتى الغد. وقف أمام الثلاجة، يقارعها طولا، ينشف يده، بالكاد ابتلت أكمام فانيلته. أزاح المغناطيس عن القصاصة، مكتوبة بخط مستعجل مائل على السطور. يتحسس المكتوب بقلم الرصاص، يكاد يمحوه. أظافره طالت بعض الشيء. سيقلمّها غداً. تمتم لنفسه يقرأ القائمة: معلبات، معلبات، معلبات، لِمَ كل هذه المعلبات؟ حليب طويل الأجل، خبز، بيض. ملاحظة: اشترِ من الخضار والفواكه ما تحتاجه فقط (حولها دائرة). تذكر العفن. (وجه مبتسم في آخر الجملة). بطاريات لجهاز التحكم. مصابيح غرفة النوم. السيارة بحاجة إلى تصليح.
– سأغيّر المصابيح قبل عودتك. – أعلن شاردًا.
– هلا اشتريت لنا مداسات جديدة؟ تلك التي عند باب الحمام اهترأت تمامًا. لا تقلق بشأن ذوقي. أي شيء يؤدي الغرض.
– حسنا. – أعاد تثبيت القصاصة بالمغناطيس. غدًا يأخذها معه قبل أن يغادرا.
– ولا تقلق بشأن تغيير الملّاءات والبطانيات. تمكنت من ترتيب الغرف اليوم على الأقل. ونظفت الحمامات أيضًا.
– ما كان عليك القيام بهذا وحدك. – عاتب نفسه. قضى النهار في المكتب مدركًا أنها ستفعل.
– كان عليّ فعل شيء ما. – فكت شعرها وتركته ينسدل حتى كتفيها. مررت أصابعها فيه، رطب، تفوح منه رائحة الشامبو. احتست المزيد من القهوة.
– أعدتُ الصحون إلى جارتنا أيضًا.
– هل أخبرتها؟
– كلا.
تركت الكوب على المكتب، واتجهت نحو المدخل. أطفأت الأضواء، ضوء المطبخ، وغرفة الجلوس، وتركت واحدًا ينير سطح المكتب. النور شاحب بما يكفي لنوم هادئ، وربما قراءة أهدأ إن تمكنت من التركيز. اقتربت من الأريكة وأطلت عليه. يشبك ذراعيه على صدره، مغمض العينين. تجاوزت الأريكة وطاولة القهوة وعادت إلى مجلسها الأول. انتبهت لكُرة الجوارب. حلّتها، ورفعت الساق تلو الأخرى لترتديها. 
– ألن تنام في الغرفة؟  – ضمّت ساقيها إلى صدرها واسندت ذقنها إلى ركبتيها.
استدار ناحيتها. لا يراها بوضوح دون النظارة. 
– هلاّ تأكدتِ من المنبه؟  
حررت يديها وساقيها، وتناولت الهاتف من على الطاولة. انزلقت أصابعها على الشاشة تتأكد من ضبط المنبه ليرن في السابعة. أدركت للتو أن عشر دقائق تفصلهما عن الغد. الزغب على ذراعيها ينتصب، لربما كان عليها أن تغلق الشباك. نهضت. تجاوزت الطاولة، لا باتجاه مكتبها قرب الشباك، وانما نحوه. تابعها بعينيه. جلست إلى جانبه. يهدر كالموج هادئًا عميقًا. 
– ماذا عن الغد. – دون نبرة سؤال.
– ماذا عن الغد؟ – داعبت أذنه شاردة تراقب الستار يموج هو الآخر في الضوء الخافت والنسيم.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي