أنا وكلبُ الكتابة

الأرض وأرض الأرض

ما دام لا أرضَ حملتني فوق الأرض
فهل تحت الأرض أرضٌ ستحملني؟
أجنحتي قصيرة على الطيران، ولو حاولت ذبابةً، والزحف
بلا سُمٍّ ذلّةٌ
فيا ليتَ خطوتي تعرف عملها الحقيقي بدلًا من هذي العطالة المقنّعةِ
كلما طرقتُ تُرابًا التفّت على الساق ساقٌ وثارَ غبارٌ كالجراد في وجهي
وأما الماءُ فتعرفون أنني لست المسيحَ
ولا محيي الدين بن عربي لأمشي فوق ماء اللغة، على الأقل

آه من هذا الحجر المعدنيِّ الذي يقاوم صدأ الشاعر، أيتها الأرض،
يا لولبيّة المماشي
وأنا دوختي سهلةٌ كتخويف الغريب،
لقد ذهبت إلى النادي ومرّنت أجنحتي، ودخلت في الآياتِ حتى صارت سُمرتي بلون بياضها، وقفزت من شبابيك المجاز ما بين أوتار التخيُّل والواقعية
كالبلهلوان -إلا أنني كنت كسمكة تنتفض على الرمل-
لقد فعلت كل عبث ممكن حتى انقلب المعقول إلى مستحيل بين يديَّ
ويداي هجرتان إلى مدينتين متقابلتين بلا خرائط أو نجم أما الكتابةُ في المنتصف
في الطريق اللامطروقة
حيث الأجنحة القصيرة لا تطير هناك
والخطوات العاطلة لا تُقبَل سيڤيهاتُها ثمةَ
والذين يتمنون أرضًا تحت الأرض تحملهم سيحملهم سادنُ الباب، إن وصلوا، ويرميهم عند مقبرة البهائم
دون دفن
ولا صلاة
وبشاهدة قبر على هيئة قلم معقوف على نفسه كأير نائم!

كلبُ الكتابة

كلبٌ يستشري في الهواء نباحه
في الصباح الثقيل من شدّة الضباب
وكنتُ أدخّن ناظرًا إليه
تفتنني الكلاب النحيلة، تلك الضلوع البارزة وذلك الهُزال الأصفَرُ حتى ليبدو وكأنه شاعرٌ مريضٌ بالحب
قلت، أسأله: هل للكلاب من جنّةٍ، يا كلبُ؟
قال: ليسَ على الأرض ولا في السماء،
يا آدمي، بل بينهما في الريح.
وهل للآدمي أن يدخلها لو حاول؟ قلتُ.
فقال: أعرف أن الجِنان استُنفدت عليكم حتى أكثرها بساطةً وواقعيةً،
لكن جنتنا صعبةٌ
لابد وأن تكون وفيًّا لصوتك كي تدخلها، وفيًّا حتى لو كان صوتك نُباحًا مبحوحًا.
قلت: لكن ذلك صعب فنحن نعتمد على اللغة واللغة تناص، لا جديد فيها لا وفاء لأنفسها مهما حاولنا ذلك، نحن نستعيد بلا نهاية.
قال: لا تُثرثر، وحاول النباح في هذا الضباب، لا أحد يراك غيري!

ظهيرة

كنتُ وروبيتو بولانيو معًا تحت شمس الطائف   ظهيرةٌ
حنونة وصافية كربة منزل تنظف صالة البيتِ    أكياسٌ
پلاستيكيّة، مناديل، أعقاب سجائر وحشيش، عُلب كولا،
وناس قليلون يمشون ببطء:  أي كل أنواع الزبائل تتحرك
بين يدي الشمس بمكنسة الريح    ظهيرة كئيبة إلى درجة جعلتني أخمّن أنها ربة منزل ترملت للتو أو طُلِّقَت: مَن طلّق الشمس، يا صديقي بولانيو؟     ولم يكن ليرد عليّ، منذ البداية كان يلهج بقصائد لشعراء أسپان قدامى وأغارقة لا أفهم قصائدهم     فجأةً ردّدَ شطرًا لامرئ القيس بلسان مُكسّر خمنت أنه ردًّا على سؤالي:              ولكنها نفْسٌ تَسَاقَطُ أنفُسا! 

Hope is the thing with feathers

هذه ليست غيمة، إنها ريشة عملاقة تطير بالسماء كاملةً  وتومئ لي من بعيد أن “تعالَ معي       هناك طيور كثيرة من نفس طينتكَ”         وقلت هذه ليست غيمةً، إنها هيكل عظمي لطائر الأمل الكبير         ذي المناقير الكثيرة والجميلة كشِفاه الحوريات        وكالحوريات هُوَ يغوينا بالقُرب ليأكلنا        لكننا يا ربِّ مازوخيون جميعًا ونحب هذا        نستطيب أن نأكل في كبِد الليل أفئدةً من الكآبة والحسرات         يا ربَّ الغيمة والريشة العملاقة والهيكل العظمي واللحم القليل الذي على عظامنا     يا ربُّ أنا لا أحب إلا الغيوم فصيّرني غيمة       أو حبّبني إلى الغيمات وارفعني عن الأرض مطرًا         إباحيًّا خفيفًا عفيفًا يتركُ الأثر خلفَهُ لا ماءً بل ابتسامة في وجه محزون !


صورة الشريط © حيدر ديوه چي