جموع

فصل من الرواية الجديدة

السماء بلون زهري كالدخان وتبعث على الكآبة. لم يفهم حسن ما يحدث حوله فواصل السير تائهاً عبر طرقات ترابية، حين رأى هيئات بشرية تقترب صاخبة. صبيان بأسمال بالية، يزعقون ويرجمون ثلاثة أسرى، يكادون يسقطون على وجوههم من التعب، كانوا مقيدين من أعناقهم بحبل واحد، يُشكلون صفاً بائساً ويقتادهم جندي قرمانلي معجب بما يفعله الصغار، وفي الخلف يتبعهم رجال ونساء على وجوههم ملامح الخوف والشهوة.
“من هؤلاء؟”. سأل رجلاً.
“كفار”. أجاب الرجل زاعقاً. الأسير في المقدمة كان مسناً بشعر ثلجي منكوش وقد نتفوا لحيته، فاختلط الدم بسواد مثل الهباب على وجهه الأبيض، يتبعه رجل ضخم الجثة بهيئة بحار متمرس وقد تلقي عشرات الضربات في أجزاء مختلفة من جسده، لكنه كان يتحمل أذى الصغار والكبار، ويمشي مكابراً على آلامه، ووراءه شاب في عشرينياته، يرتدي مسوحاً كنسياً بالياً، رغم كل آلامه تبدو على وجهه علامات الإيمان والرضى.
على مبعدة رأى حسن نصباً بهيئة رجل ضخم يرتكز بيديه على سيف مغروس بين رجليه. المئات تجمعوا حوله، وبدؤوا بالهتاف حين لاحظوهم، فعرف حسن وجهتهم، أدرك بسبب الألم في بطنه، أنه على وشك رؤية مذبحة بشعة.
أثناء سيرهم باتجاه النصب ومع انكشاف البحر على الساحة، سمعوا دوي مدافع قوي جداً، أجبر العشرات على الانبطاح، التفت حسن ولمح الأسير الضخم يبتسم وهو ينظر ناحية نحو البحر، وجه بصره إلى حيث يتطلع، فشاهد عشرات القوارب الصغيرة تصل الشاطيء وينزل منها رجال، رفع مستوى نظره، فرأى سفناً ضخمة تقف بشكل جانبي بأشرعة مفرودة، تطلق من مدافعها باتصال ناحية المباني، وقبل أن يستوعب ما يحدث، انقجرتْ قنبلة بالقرب منهم، فغاب حسن وسط الغبار والنار واختنق.
استيقظ حسن الصافي بعد سماعه لدوي مدفعية. عرف أنه وسط غرفة نومه. حاول الخروج من الكابوس. نهض متثاقلاً وفتح النافذة. أصطدم بصره بخمس سفن حربية شراعية تجثم عند الأفق بأشرعة لا تزال مفرودة، فلم يُصدق ما كان يشاهده أمامه، فانحرف ببصره إلى الأسفل، كان شارعه محتشداً بالمارة يتجهون ناحية الساحة، لوهلة لم يعد يعرف الحلم من الواقع.
خرج من منزله، واختلط بالحشد. اقترب من شاب أشقر وسأله عما يحدث. “من أين أنت؟” تساءل الشاب مستنكراً: “هل ما زلت نائماً؟” وأسرع متقدماً، فما كان من حسن إلا متابعة مشيه القلق بصحبة الجموع. لاحظ ارتدائهم لملابس من الزمن القرمانلي وبينهم صغار يتشاغبون، لكنهم لا يتمادون ولا يبتعدون عن أمهاتهم وآبائهم، انتابه شعور بالخفة، واندفع مع الحشود، إلى الساحة.
ساحة شاسعة بأرضية قرميدية، السفن الحربية ما تزال ظاهرة، إلا إن المباني العالية أمامه خلفت في نفسه رهبة، خوف وقلق حاما فوقه حين تطلع إلى الشعلات النارية فوق الأعمدة، نيران هائلة تتراقص بتمادي عدو منتصر. في أيامه الأولى داخل منطقة السفارات، قرأ كتيباً تم اعداده للسياح، يحتوي سيرة ذاتية قصيرة عن رئيس الحكومة ورؤيته لمخطط منطقة السفارات، وهو مهندس مغمور شغف بنمط المعمار الفاشي، حتى إنه كان يتفاخر بتلقيه تدريبات الليتوريو من والده المنتسب للشبيبة الفاشية في صباه.
كأنهم خرجوا جميعاً لحفل تنكري، اندفعوا باتجاه منصة وضعتْ بالقرب من تمثال ضخم لسبتيموس سيفيروس وهو يشير بأصبعه ناحية البحر محذراً من السفن الجاثمة كالجبال، مئات من الحضور يواصلون الاقتراب من المنصة متطلعين ووجوههم تتلالأ بانعكاسات النيران، إلى رجلين فوق الخشبة، أحدهما ضخم بلباس الشرط من الزمن القرمانلي، والآخر ضئيل الحجم، استطاع حسن من مكانه ملاحظة عينيه الضيقتين وابتسامته الخبيثة، قدم صفاً من الرجال والنساء، بلباس أوروبي مبهرج، وقدمهم باعتبارهم قناصل دول دنمارك وفرنسا وهولندا وانكلترا، كانوا بصحبة نسائهم الجميلات الواقفات يتطلعن بحماس للجمهور تارة ولمن يقفون على المنصة تارة أخرى، وبعد أن انتهى من تقديمهم للجمهور، جلسوا على الكراسي المخصصة لهم في طرف المنصة.
ظهرت فرقة من فتيات بلباس شعبي وهن يرقصن بحركات لطيفة. دخول أشعل حماساً وهتافاً من جميع المتابعين سواء على المنصة ومن بين الجماهير التي بدأتْ التدافع والاقتراب من المنصة. خمس بنات أقرب إلى سن المراهقة يحملن معهن جرار الماء، ثم تبعهن خمسة شبان بحركات أقرب إلى التباهي من أجل إثارة اهتمامهن. وبأ الصفير والصراخات والكلمات البذيئة، طلبات شهوانية بضرورة خطف الجبليات، فاقترب الشبان منهن ولكنهن اعترضن مبتعدات برشاقة فيما تشبث الشبان بحلقات الجرار. دخلوا صراعاً لطيفاً كالغزل العذري بين الجدب والدف. تتبع الجمهور حركاتهم وتمايلوا جيئة وذهاباً حتى استطعن دفع الشبان بعيداً عنهن بحركة جريئة من خصورهن، وعلت الضحكات والهتاف، وانتهى الرقص بتلك السقطة وهربن بعيداً.
أدرك أنه وسط مسرحية يُشارك فيها الجمهور بقوة. كل سكان منطقة السفارات، حتى الأجانب منهم، جاؤوا بلباس من القرن الثامن عشر. أرادوا الظهور بجدية تليق بذلك الزمن. وسط كل ذلك الصخب الجماهيري اطلقتْ عشرات القذائف، فدوت تباعاً فوق سماء المنطقة، قادمة من السفن الحربية الجاثمة أمام الشاطئ، وأخذ الجمهور يحسب كل قذيفة تطلق، وصل عددها إلى مئة وعشرين قذيفة، أطلقت من قرابة أربعين مدفع من فرقاطة دنماركية، بحسب شروحات الضئيل بلباسه القرمانلي. بعد انتهاء دوي القذائف بدأت حركة مريبة على المنصة، من خلف القناصل وزوجاتهم، خرجتْ مجموعات من الفرسان المسلحين، ووقفوا بتأهب في الطرف الأيمن للمنصة، فيما ظهر من الطرف الآخر قرمانليون يقتادون ثلاث هيئات بشرية، وواجهوا صف الفرسان لدقيقة ثم أطلق سراح الثلاثة، فعبروا المنطقة الفاصلة بين الطرفين، وتلاشوا وراء الجنود، بدت كعملية تسليم أسرى، فهتف الجموع مطالبين بقتل أعداء الله وعلا السباب حتى طال الباشا نفسه، ولم يكن هناك أي باشا على المنصة، فقط الجنود بلباس القرمانليين، ما لبثوا أن دفعوا إلى منتصف المنصة سبعة رجال بلباس قرمانلي.
“هذا مصير كل من يتطاول على ضيوف الباشا”. هتف الجندي.
“اقتلوا الكفار، اقتلوهم”. هتف الجماهير.
“من لا يطيع، مصيره الموت”. أخرج الجندي سيفا ولوح به في الهواء مواجهاً صراخ الجموع: “أقتل أعداء الله ولا ترفع سيفك على المومنين”. من مكانه بين الجمهور لاحظ حسن ابتسامته الماكرة ثم بحركة واحدة قطع رأس أول رجل. بدا مشهداً واقعياً جداً، فصعد الدم إلى رأس حسن وهو يرى الجسد يقع على أرضية المنصة، حتى إنه تخيل صوت الارتطام. انحنى الجندي القرمانلي وحمل الرأس المقطوع ثم القى به بين الناس، فازداد الهياج والتدافع مع ارتفاع السباب، في اللحظة التالية تقدم الجنود وحصدوا رؤوس البقية، سقطتْ الأجساد تباعاً، فبدؤوا بإلقاء الرؤوس المقطوعة وسط المتدافعين. أحد الرؤوس وقع بين رجلي حسن الصافي، ومن النظرة الأولى، أدرك أنه يتطلع إلى رأس حقيقي، بعينين جاحظتين وشفتين مطبقتين والدم بدأ يشكل بركة صغيرة.
قبل أن يستوعب ما حدث ومع إزدياد التدافع والغضب، بدأت انفجارات هائلة تدوي وسط الساحة، فساد الهلع وتشتت الجميع في اتجاهات عدة، مع تساقط العشرات كان حسن يركض وصوت الطنين يملأ رأسه، والهلع بادي في أعين الجميع، ركض بأقصى سرعة يقدر عليها عبر الممرات، مصطدماً بأجساد الفارين وكان يتجه نحو منزله بحثاً عن الأمان، ومن الطرقات الفرعية ظهرت فرق عسكرية خيالة وهاجمتهم مراراً وتساقط مزيد من الهاربين، شاهد العشرات يداسون حتى وصل لباب منزله، دخله وحيداً، وأخذ يتنفس بشدة محاولاً استيعاب ما حدث للتو.
أضواء الانفجارات واصلت إضاءة غرفته عبر النافذة، فأراد رؤية ما يحدث في الخارج، قبل أن يصل إليها، بدأ حسن يتعثر ويفقد وعيه تدريجياً حتى غاب في ضباب دافئ.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي