عمَّ نتحدث حين نتحدث عن الحضارة يا ولاد الوسخة

١

في البدء، كانت الرائحة. الرائحة النتنة. وفي قصة صيف الآنسة فوربس السعيد، المنشورة لاحقا في مجموعة حجيج غرباء، يشير غارسيا ماركيز إلى هذه الرائحة. تدور القصة حول ولدين لكاتب كاريبي، متلهف تماما للتهرب من أصوله ولديه التزامات أخرى، فيستقدم مربية ألمانية بدرجة صف ضابط من دورتموند، لتحيل إجازتهم الصيفية في جزيرة إيطالية إلى جحيم من العشاءات الكئيبة بعشرات المرات من المضغ على كل جانب وعمود فقري مستقيم تماما. بسرعة انقلبت الحياة الرحبة التي تذوقها الأطفال، ذلك المهرجان الملون بصحبة السكان المحليين، إلى حلقات تعذيبية مطولة من دروس في آداب السلوك والقراءات التحليلية المطولة لشكسبير. بعد أسبوعين من حكم الآنسة فوربس، يقول الراوي وهو أحد الولدين، كنا قد تعلمنا بأنه لا شيء أكثر صعوبة من مزاولة فن الحياة.
كل الأطفال يعرفون أن الإمبراطور لا يرتدي أي ملابس. الآنسة فوربس بالطبع كانت ترتدي ملابس، المشكلة في الرائحة. كانت تفوح من الآنسة فوربس، الألمانية بامتياز، سليلة أطنان من رماد الأمجاد الأوروبية والتي تنقض في الليل ما تبشر به في النهار، رائحة شبيهة برائحة بول قرد. إنها رائحة الحضارة، صحح الأب المبهور للولدين. وهكذا كانت. رائحة الحضارة التي لا تطاق.

٢

أتساءل، فقط أتساءل، إن كانت هذه الرائحة، الأوروبية بجدارة، هي التي خيمت على الاجتماع التأسيسي للجمعية الدولية لاستكشاف وتحضير إفريقيا، لمّا أعلن ملك بلجيكا ليوبولد الثاني، الغرض الأسمى لأصدقاء البشرية المنايك: فتح الجزء الأخير من “أرضنا” الذي ظل محروما من نعم الحضارة واختراق الظلام الذي تعيش في إساره ليومنا هذا شعوب كاملة؟ هل هذه هي نفسها الرائحة التي انبعثت من المرؤوسين البيض الذين فرضوا السخرة على الكونغوليين الذين تساقطوا موتى بالآلاف (خمسمائة ألف كل عام من ۱۸۹۰ إلى ۱۹۰۰ من أجل ارتفاع أسهم الشركات البلجيكية) بالإضافة إلى كاتالوج واسع ومنوع من التشوهات وقطع الأيدي والأقدام والإعدامات بالمسدسات في سبيل الحفاظ على النظام؟ هل هذه هي نفسها الرائحة التي أحاطت المستعمرين البريطانيين من المستوطنين والمجرمين وعمال المخازن، حثالة البيض، وهم يمسحون السكان الأصليين لأستراليا وكانوا حتى وقت قريب، من عمر أبويا والله، يصطادونهم بالرصاص في عرض الشارع دون عقاب؟ لا بد أنها هي نفسها الرائحة التي صاحبت الأوروبيين في إبادتهم لأكثر من خمسين مليون من السكان الأصليين لأمريكا في تحمل عجيب لمشقة أن يفعل كل ذلك بالطرق القديمة: السيوف والفؤوس والسواطير؟ أهي ذاتها الرائحة، التي تنبعث وطالما انبعثت من الردهات الواسعة التي يسير فيها أولاد الوسخة، رافعين العلم الواسع للحضارة والتقدم والفرق بين أولاد النور وأولاد الظلام وقانون المتحضر ابن الناس وقانون الغابة، بينما في الخارج تحدث حرفيا إبادة عرقية لمدنيين فلسطينيين لا حول لهم ولا قوة، أغلبيتهم من الأطفال، قذارة تصل لحد استهداف متعمد لمستشفيات؟ أتساءل، فقط أتساءل، عن رائحة الحضارة التي جلبها الرجل الأبيض، صديق البشرية الجامد، إلى كل الأمم من الدرجات الثانية، نحن الحيوانات، التي حرمها القدر من حنفية التنوير، تلك الرائحة التي مهما مر الوقت ومهما كانت المحاولة في إخفائها، تلبد هناك، ولا يمكن التخلص منها أبدا؟

٣

في الفصل الخامس من كتاب حلقات زحل، وهو كتاب عن الخراب كقدر مكتوم، يحكي ف. ج. زيبالد عن البولندي جوزيف كونراد، صاحب قلب الظلام، المستعمر الذي رأى بنفسه الرعب في الكونغو، ذلك الإمبريالي اللعين، حثالة العنصريين، بحسب تشينوا أتشيبي، لا يستطيع أن يعفي نفسه من الذنب الذي حمله لمجرد وجوده هناك. كونراد الذي بعد عودته من الكونغو، بدت له العاصمة البلجيكية بروكسل، بمبانيها التي تزداد فخامة، مجرد شاهد قبر يرتفع فوق مجزرة للأجساد السوداء، وبدا له المارة وكأنهم يحملون في داخلهم هذا السر الكونغولي القاتم. من يستعرض إلى الآن ومن دفع الفاتورة ولا زال يدفع؟ يضيف زيبالد من خبرته الشخصية عن القبح الذي يراه في بلجيكا، ذلك المتجلي في الأجواء المقابرية لصالونات بعينها وفي تقزم ملحوظ كاللعنة للسكان. صادفت في الشوارع أشخاصًا مقوسي الظهور ومجانين أكثر ممن رأيتهم خلال العام كله. هكذا يكتب زيبالد. الجثث مقطعة الأطراف في قبو حضارتهم المزعومة، لا تتوقف عن النزيف في أرواح دعاتها. ذنب الجريمة بحق المساكين لونه الدماء، علامة من المستحيل إزالتها. هذا التفسخ ليس ابن البارحة، إنه شبح قديم يطارد سكنى المنزل وسيظل يطارد، إرث أولئك الذين وطدوا دعائمه على أكوام وأكوام من الجثث، كعرض جانبي للحضارة ينبغي على المتضرر قبوله من سكات، لأنه هكذا تسير الأمور. لا يوجد منظف بإمكانه، الآن أو فيما بعد، أن يمحو تماما الوحل الذي جلبته أيادٍ بيضاء ترفض حتى الإعتراف بالآخر على أنهم بشر مثلهم، لا بحر يستقبل أجسادا بتلك العلامة يستطيع أن يزيل الرائحة النتنة لحضارة أولئك الذين يستحمون فقط في ظلمة الليل بعيدا عن الضوء.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي