في معنى الترفيس

عزيزتي،
لا تعجبك عزيزتي هذه، ها؟ لكنّك عزيزتي، وها. أبتسم، الابستام ما زال مسموحًا، ولا لأ؟ أبتسم لأنّني مغفّل كبير، والله مغفّل كبير (هل فكّرتِ يومًا بالعلاقة بين مغفّل ومغلّف؟ بلى أخبرونا في سنوات الدراسة عن تقارب معاني الجذور متشابهة الأحرف، لكن بالله فكّري مرّة أخرى.. ما بدّك؟ زي ما بدك). مغفّل لأنّ لي أكثر من يومٍ أرفّس، بالمعنى الحرفيّ للترفيس، لا أستطيع السيطرة على قدميّ ولا يديّ، تركلان كلّ شيء وأيّ شيء، وأنفي ينفث دخانًا ظننتُه طريقة الشتاء في إعلان الوجود. ماذا؟ تشبّهين الدخان الطالع من أنفي بعلم إسرائيل المرفوع فوق مدرسة فارغة؟ تالله لأرفسنّك هذه المرّة، فحذار. 
أرفّس لأنّني ظننتُ أنّني نسيتُك، لكن قولي لي كيف ينسى الإنسانُ تاريخه؟ لا أقصد التاريخ التاريخ، لا ليس ١٩٩٤ أو ١٩٩٢، بل تاريخ القلق، تاريخ الهلع، ذاك الذي تعرفه الأراضي التي مسحتها وقوعًا لا قيامة بعده. 
أمس، عاودتني رجفة اليدين (دون أن تتطوّر الأمور لا سمح الله). أربعة أشهر ونصف لم تكن كافية لمحو ذكرى قلبٍ يضخّ ضعف حاجته، وأصابع اشتاقت للحظة استقامة واحدة. تمسخري، ما إنت نايمة شو عليكِ؟ ماذا؟ النائم حجته معه؟ يعني الصاحي الله لا يردّه؟ تقولين إنّني أقلّد إلياس خوري في “باب الشمس”، يا حيف والله، يا حيف عليكِ، إذ لستُ أنا من غادرَ دون أن يرى الآخر، هيك العين بالعين. تقولين إنّ السنّ عمره ما كان بالسنّ، فلماذا تكون العين بالعين؟ هذا لا يغيّر من حقيقة أنني نظرتُ في عينيكِ، نظرتُ حتّى رمشتُ أخيرًا، لكنّكِ لم تكلّفي الخاطرَ بفتحهما على وسعهما، فقولي ما شئت، خرجك ما وصلت إليه. 
وبالمناسبة، أنا لا أقلّد إلّا نفسي، لا أحد أصلًا يملك شعر ذقني النافر، لا شعرة فيه طول الأخرى، كأنها أصابع اليد الخمسة. اسمحي لي أن أوقف هذا التداعي الآن، فأنا يومًا لم أكن من مريديه، إلّا لو كان جبرا إبراهيم جبرا من يستخدمه، ابن لذين، ضحك علينا طوال خمسين عامًا. أنت وحدك تعرفين أينَ وليد، وأنّ أحدًا لم يكن ليجده. لكن هذا ليس سؤالي؛ سؤالي يا عزيزتي: ما إعراب: فقدتُ وليدًا؟ هذا واحد، اثنان: هل تعرفين أنّ كاتبة أردنيّة قرّرت، هيك من تلقاء نفسها، أنّ وليدًا لا يستحقّ دخول التنوين عليه، كما لو أنّه ممنوع من الصرف، هيك وليد حاف، بلا إحم ولا دستور؟ أتتخيلينه ممنوعًا من الصرف؟ (الصراحة بتزبط، بس لأ، قطبي حاجبيك قبل أن يرانا أحد.. حلوة هاي: جماعة مقطبي الحاجبين (ولا الحواجب أزبط؟)؛ ما رأيك؟ أنا وأنتِ، ضدّ العالم، ضدّ العالم عن بكرة أبيه؟).
شو كنّا نحكي؟ آه، الترفيس، وصلتني رسالة قبل أيّام تطلب طلبًا أخويًّا: أن أكتب رسالة مؤثرة للغاية عن غزة، للغاية يعني كثير كثير إن كنتِ نسيتِ الكلمات بعد كلّ هذا الغياب، تلقائيًّا رفّست، ضربتُ رجل الطّاولة، وقلتُ بس، أكلنا هوا. لو كنتِ بجانبي لضحكتِ، لضربتِ كفًّا بكفٍّ وقلتِ: باعوها، بل ولقلّدتِ موسى حجازين وهو يستدرج الضحك المشوب بالخوف: باعووووها. لكن، حسبي أنّ عبّود (عبود ممكن نمنعه من الصرف عادي) كان بجانبي، عبّود دائمًا ما كان بجانبي، لا لكونه قدعًا، بل لكونه بلطجيًّا نبيلًا، لا يرضى أن تُكتب رسالة مؤثرة للغاية عن غزّة خارج ساعات العمل. قلّي قله نايم، فقلت له أنا نائم، فقال طيب أكتبها أنا وتدققها أنت، فقلت معلش، المنامات كثيرا ما تكون بنت لذينَ، فقبلت. 
في الحلم، الذي استيقظتُ منه وأنا أردّد: استنَّ شوي، استنَّ شوي، لم يستنَّ المجنّد الأمريكي. يا ستّي ما حدث أنّني وعبّود كنّا ننزلُ درجًا ما، درج طويل مش أبو درجتين، ودرجاته كبيرة، لكنّنا كنا ننزلها عادي دون أن نشعر بإنّه مش منطقي ننزل درجة كبيرة هالقد نزولًا طبيعيًّا، قبل أن تقرّر سيّارة للجيش الأمريكي، لا تشبه الـ”أس يو في” أبدًا، أن تأكل الدرج صعودًا. 
كانت السيارة بعيدة، لكنّها (ربّما لاختلال الأبعاد) اقتربت بسرعة كما لو أنّها حدست أنّ عبّود بلطجي ولا يصحّ اللعب معه. اقتربت بسرعة على عجليها الخلفيّين كما لو أنّها موجة بأسنان قرش لتفترس عبّود، بس عبّود ما عبّرها، لكنّني قلت مستحيل، وقرّرت أنّه لن يموت في هذا الحلم، فشددته من قُبُل وابتعدتُ به عن طريق السيّارة، ليختلّ توازنها وتقع على جنبها. ولمّا انتهى الدرج، وصرنا في بهو أشبه بمدخل مبنى تجاريٍّ، وجدتُ عبّود بعيدًا عنّي، والسيارة تسدّ الطريق وتضرب ركبتيّ. نزلَ المجنّد من سيّارته، وطلب الجلوس إلى طاولة التحقيق. إن كنتِ تشدّين ظهركِ بي، فلا، لا لم أعد كما السابق، بتّ من أولئك الذين يهرّون كلّ المعلومات من أوّل كفّ، أو حتّى قبله، فخفت، طبيعي أخاف يعني. ظلّ المجنّد يسألني عن سبب إبعادي لأخي عن طريقه، وأنا أفترض حسن النيّة، فأشرح له أنّ عبّود بلطجي، وقد يكسر السيارة من النصف لو تمادت عن حدّها، وأنّني أعرف أنّ السيارة بنت الكلب هي السبب لا هو، فضحك، وأعاد السؤال، فأجبتُ بنسخة مخفّفة وأنا أميل إلى الحائط بجانبي، فقال أيوا هيك، امشي الحيط الحيط.. شو، مش مصدقة؟ اقسم بالله هيك قال بالحرف. طنّت الكلمة في رأسي، تذكّرت تمّوز ٢٠١٩، وبلا إرادة مني وجدت ظهري ينتصب شامخًا، مثل علم فلسطين فوق السفينة إيّاها، فقام من مكانه، حس بالحامي عارفة كيف؟ وصل خلفي، فاستدرتُ له، لأجده يضع سكّينًا أمامي ويطلب أن أضغط على نصلها بسبّابتي، فبدأ يختلط صوتان في رأسي، لا أعلمُ أيُّهما قيل وأيُّهما أُضمِرَ: “استنَّ شوي”… “الإهانة بس مرّة وحدة، بعدها بتبطل إهانة”.. “استنَّ شوي”.. “الإهانة”… وهكذا حتى استيقظت وأنا أردّد استنَّ شوي. 
الآن فقط عرفتُ شعور من يردّد بعد كلّ قصّة لا تقارب المنطق من قريب أو من بعيد: والله ما بزلّ عليك، لإنهّ فعلًا لم يزلّ بأيّ شيء، القصة قصة قصص، فاهمة كيف؟ القصص لا علاقة لها بالمنطق، وإلّا لما عادت قصّة. لو أنّك أحببتِ “شاي أسود” لفهمتِ عليّ، لكنّك هبلة شو نقول. مثلًا أنا الآن ما بزلّ عليكِ.. ولو مش مصدقة فأنتِ حرّة، حتّى هناك أنتِ حرّة، بل لا أحد أحرر منكِ بديني، أمّا نحن فكلّما سمعنا كلمة حريّة رفّسنا، سواء أكنّا معها أم ضدّها، كلنا نرفّس يا عزيزتي، إلّاكِ.
أنا والله يا عزيزتي غاضب، كنت أقول دائمًا إنّني غاضب من نفسي، لأنّني أُهنتُ أوّل مرّة، والباقي صار رقمًا على عدّاد المسبحة الإلكترونية: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.. سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وكل مليون في مليون بعده، ويا جبل ما يهزّك ريح، رقمًا يشير إلى “الذات” التي قبلت ما كانت تنصب ظهرها له من قبل، لكنّ المجنّد الأمريكي عرّفني أنّني لستُ غاضبًا من نفسي وحدها، كلنا غاضبون من أنفسنا أصلًا، أنا غاضب من كلّ العالم، كلّه، من أوّله لآخره، وأنتِ في مقدّمته (راجعي المادّة الأولى من قانون تأسيس الشلّة إيّاها) ولا أحد له عندي شيء، فليجلبوا لي أشيائي أوّلًا حتّى نتفاوض من ثمّ. أمّا الآن، فأنا الذي لن أستنَّى شوي، لن أستنّى أبدًا، أريد أن أعيش يا أختي، هفت. 
تسألين كيف سأعيش؟ ستعرفين قريبًا، قبل عيد ميلادك بتسعة عشر يومًا، ثمّ قتل كيف قدّر.. إيه والله.
يعني، لأكون صادقًا (أعرف، وحياتك أعرف أنّ الصدق في القول لا يعني الصدق في المعتقد، فخلِّ الطابق مستورًا أبوس إيدك)، سأحكي لكِ أنّكِ ظللتِ أعوامًا سبيلي إلى الكتابة كلّما استعصت، فقلت لأجرّب، وشكلها زبطت؛ كلّ الترفيس خفّ كما لو كنت ثورًا شاهد مقطعًا إباحيًّا فهدأت أعضاؤه بالإنابة، الترفيس الذي لم يفلح معه حتى الليكساتونيل، قاتل القلق الأوّل في أردننا الذي قيل لنا إنّه الأوّل في كلّ شيء. الأردن الذي يقتلني كلّ يوم حتّى وددتُ أن يكون مصرعي إنجازًا يُسطَّر في تاريخه، قلت لندخل التاريخ لو ما قدرناش ندخل الجغرافيا على الأقل! ها ها ها، بايخة أعرف. 
بايخة كما غضبي، وحسرتي التي تتلوّن وتتّخذ أشكالًا تلبس وجوهًا وأسماء، كلّ يوم أسبّ أحدهم كي أرضى عن نفسي، ونفسي هي ما يستحقّ الشتم. رفّس يا أهبل (شايفة، سحبت عنك لقب هبلة، انبسطي)، رفّس كما فعلتَ في أوّل مسبحٍ لكَ، علّك تصل الماسورة، وتكتشف أنّ عمق المسبح لم يتجاوز المتر من البداية، رفّس وخلِّ الدنيا تغني للدّمار، للمجازر، أو لشجر الكينا. 
نخب شجر الكينا يا عزيزتي.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي