ما الفائدة من إخراج نص، أي نص، إلى النور؟ عذراً على أجواء العيادات النسائية، ولكن يشبه الأمر حقاً ولادة جنين، إن كان حياً أو ميتاً عليه أن يخرج في وقت ما. يروح المرء ويجيء أمام الشاشة، يكتب عدة عبارات كأنها مهمة يتوجب إنهاؤها، ومن ثم رميها في وجه العالم، لأي درجة هو العالم مهتم بقراءة نص عن ذواكر عالقة في دهاليز خرائط ألعاب فيديو قديمة؟ لنفس الدرجة التي يهتم بها برؤية بقايا جنين غير مكتمل على منديل: عادة أكثر مما يتوقع الكاتب ومشروع الأم المُحبَط. ليس المقصود أمراً حسناً بالضرورة، وأن العالم متلهف لابتلاع إبداعك أو للتمعن في إعجاز تكوين اللطاخة الحمراء على منديلك حبيبتي. بعضهم يريد حمل هذه اللطاخة في المظاهرات التي يصرخ فيها أشخاص ذوو نظافة فموية سيئة غاضبين أمام عيادات الإجهاض، بعضهم مهتم بما تكتبه كنموذج للدلالة على مساوئ تيار يفترض أنّك تمثّله. البعض ربما يحبك شخصياً ويرى ظرافة في أي شيء تكتبه، أفراد بعيدون من العائلة يقرأون بفضول وزمزمة شفاه، أصدقاء يحاولون التصيد والتقاط خيط خفي نحو أشخاص حقيقيين مذكورين في النص، يكره الكُتّاب هذه العادة ويتبرمون منها طيلة الوقت، ولكن حبيبي صديق الكاتب: هناك علاقة طردية بين مقدار تبرم الكاتب من سخافة من يحاولون تصيد آثار وقائع من حياته الشخصية في كتاباته التي يدعي أنها خيالية وبين كمية الوقائع الحقيقية. يعني شكوكك في مكانها غالباً، خصوصاً نصوص الحب وما إلى ذلك. لاحظ: «ما إلى ذلك» لاحقة متعجلة صيغت لدفع الإحراج عن التلفظ بتلك الكلمة. نعم. الكلمة إياها، من حرفين/ أفقي/ مشاعر يصعب الحديث عنها/ تصعب كتابة نصوص عنها/ بالغة البساطة/ مثل عنوان اسم الوردة، جلاؤها يغشي الأبصار/ بيّن وساطع مثل وردة حدودها تلمع في الظلام في مشهد من لعبة بوينت أند كليك من الثمانينات فتعرف أنها الغرض الذي يجب الضغط عليه. يظهر خيار حصد الوردة ووضعها في الحقيبة إذ ستلزم لإتمام مهمة في مكان آخر من اللعبة لاحقاً.
البساطة الفاقعة، مثل حقيقة أنني اخشى إن أريت صورتك للناس، لأشرح موقفي، أن ترهبهم عيناك المخيفتان.
«البيكسلز الواضحة في اللعبة والجرافيكس تشبه قبلة رقمية من الثمانينات»، يقول ريفيو اللعبة، هذا ليس أمراً إيجابياً بالضرورة إذ ليس الكل من هواة هذه القبلة. ولكنني من هواتها، اشتريت اللعبة. أيام متواصلة في الظلام أمام شاشة مضاءة. عتمة حياة تحيط باللعبة، المحققة بطلة اللعبة تتحدث بلسان ناشطة نسوية، هذا لم يكن ليحدث في العاب الثمانينات ذات الأخلاقيات السياسية المروعة. شكلها يبدو رغم المربّعات شبيها ببطلة إكس فايلز. باردة بشكل مثير. تعلق على استغراب زميلها لبراعة إحدى الشخصيات في البرمجة: «ياللهول.. امرأة ذكية؟»
خطاب تحرري لن ينفعني بشيء. القيد في رقبتي أثقل من لمسة يد تمر عليها، بيدك النحيلة التي يستهين بها المرء للوهلة الأولى، لا يحررني حوار في لعبة، يحررني ان أجلس لأكتب، وأكتب مثلك، بروح ذكورية تافهة. أن أستولي عليك كان أقبض على يدك، باليد العليا وأضغطها على الطاولة حتى يُسمع صوت طقطقة المفاصل. هذا يحررني. ألا يرى أحد صورة انعكاسي الحقيقية، ورأسي مرمى على الطاولة الى جانب قدح صغير. أن أفعلها أخيراً، ألتفت إليك وأرشقك بخنجر يستقر الى جانب أذنك في الجدار وأنت كما أنت، بالكاد تطرف عيناك المخيفتان.
لعبة التحقيق مستمرة. الصوت النافر يبدد الصمت ولا يبدد أفكار هروبي من المنزل. أغيّر إلى لعبة أخرى، لعبة تحقيق أيضاً، مبنية على لغز قصة اختفاء القطار لشيرلوك هولمز، يضيء على الشاشة الآن رسم للخلايا الرمادية في دماغ المحقق كمراكز لخيوط الربط بين الأدلة. أتخدر قليلاً وأسترخي أمام الجماليات الفيكتورية متقنة التصميم في اللعبة وأمام الإغواء البدائي للتمعن في الروابط، روابط متعرجة ومعقدة كالمحاور العصبية وأخرى مستقيمة حادة كالخطوط البيانية. خط بياني ينطلق من بناء سكني متطاول كالبرج في دمشق، تتوهج صورته ويتوضح المشهد المحيط به، لحظة الغروب مع صوت طيور السنونو ولحظةٌ مراهقة واستراق النظر إلى الشارع حيث يتسكع شبان الحي، يمتد الخط حتى يصل إليّ الآن، وراء طاولة في برلين أسير منها أعمالي كشخصٍ ناضج. العودة بهذا الخط البياني انتحار فيه مختلف انواع البيكسلز، ألعاب محاكاة وسلسلة ألعاب المغامرات (point and click) التي قدمتها شركة سييرا إنترتينمنت في الثمانينات والتسعينات، ونسخ مقرصنة تحتوي 300 لعبة فيها عشرون لعبة مكررة، ولعبة ألغاز جننت وأنا أحاول استذكار اسمها على مدى ثلاثين عاماً، أتذكر مشاهد خاطفة، تمائم ودريم كاتشر ومقبرة للسكان الأمريكان الأصليين وبعض الجمل الحوارية، حتى اهتديت إليها قبل أيام فقط من كتابة هذا النص: alone in the dark، لم أكن أعرف أن النُزل المسكون الذي تجري فيه أحداث اللعبة سمي على اسم الآلهة السورية ديركيتو/ أتراغاتيس، خط بياني آخر، كيف وصلنا إلى هنا؟
1 – عالم اللعبة ذو نهايات واضحة
في كتاب الفيزياء للصغار عن دار مير السوفيتية للطباعة والنشر، تعلمت قاعدة المتاهات، قاعدة المتاهات تصلح أيضاً لخرائط الالعاب مهما بلغت من التعقيد، تخيل وضع اليد اليمنى او اليسرى على الجدار المحاذي لها والتزام خط السير هذا، تمكنك هذه القاعدة من الوصول لنقطة نهائية وتجنبك أن تعلق في سلسلة من المسارات المتكررة والعودة لمكان كنت فيه، ولكنها لا تضمن أن تأخذك في كل ممرات اللعبة.
نقطة شاطئ البحر تقع في أقصى شرق خريطة الجزء السادس من لعبة ليجر سوت لاري leisure suit larry وكشك حارس الفندق في الطرف الآخر. سيقطع المرء ما بينهما جيئة وذهابا مئات المرات قبل أن يختم هذه اللعبة التي تهدف إلى تمكين رجل عادي وعديم الحيلة للغاية مثل لاري من إقناع امرأة ما بـ .. ، صحيح هل وصلنا في هذه اللحظة من تاريخ الأمة بعد إلى أبلغ تعبير أدبي عن السيكس بالعربية؟ لا مفردات النكاح الروض العاطرية مناسبة وما نقوله بالعامية يبدو مقحماً، سيشهد الشاطئ موعداً غرامياً ينتهي نهاية فجة، تدمع لها عيون الصوابية. المرأة التي اصطحبها لاري إلى الشاطئ وكررت من قبل بشكل مريب: «أعرف ما يريده الرجال»، ستخطف الكوندوم من يده لترتديه هي. لن يفوت المطورون الفرصة لبث رسالة سخرية عبر الشاشة: «لا عجب يا لاري أنها تعرف جيداً ما يريده الرجال». قلنا لكم في البداية أن أخلاقيات ألعاب الثمانينات السياسية إشكالية بعض الشيء.
من كشك الحارس الذي يحد الخريطة من الجانب الغربي يستطيع لاري اختلاس النظر إلى الكاميرات المزروعة في حمام النساء في الفندق. العوم في خريطة واضحة المعالم يجلب اطمئناناً عوض الضياع في كل هذه الفوضى، فوضى المعارف والاحتمالات والمآلات الماضي والمستقبل وما يصل بينهما. إمكانية العودة من الموت والفرصة الثانية لاكتشاف كل شبر في الخريطة. نحتاج إلى ذلك.
2 – حل الأحجيات/ المهمة وردة تلمع في الظلام
أحتاج إلى مهمة، سحقاً للإرادة الحرة.
ألم تسأم سماعات خطابات التوعية التشجيعية عن أنّ النجاح والفشل أمور نسبية وأن لا وجود لوحدات تقيس نجاحك إلا مفهوم غامض هو «السعادة» وأن عليك التوقف عن مقارنة نفسك بالآخرين؟ ألا تشعرك هذه الطبطبة بوضاعة أكبر؟ حسناً، نحن لا نتعرض لهذه السلوكيات العدوانية في عالم الألعاب، النجاح غير نسبي. على الإطلاق. منظرك وأنت تسير إلى عالم الأموات بعد تصرف أحمق في اللعبة هو فشل بأل التعريف. أليس ذلك شديد الوضوح بشكل رائع؟
جلست أستمع إلى صديقي، الشاعر يقراً قصيدة. كانت القصيدة تخاطب امرأة أعرف من هي. تملكتني مشاعر حقد اثناء الاستماع للقصيدة اذ حسدته على انطلاقه بالتعبير عن مشاعره بهذه البساطة لواحدة يحبها.
انتظرت حتى انتهى وقلت له على فكرة انا ايضا استطيع ان اكتب نصاً سينتمنتال.
– هل هذه شتيمة؟ سأل
حلفت بصدق أنها ليست شتيمة، وأن الحقد يتآكلني حقاً.
خرجت أبحث عن عناصر المهمة التي يتوجب عليي أداؤها لإنهاء هذه المهزلة. وردة زهرية اللون تُحرق في الطقس الذي أسميه الجزء غير الموجود من لعبة ليجر سوت لاري بينما يسميه أصدقائي باحتقار: «سحر جلب الحبيب» زاد حماسي كون اليوم أحد وعلي ان أعثر عليها في مكان ما عوضاً عن شرائها. بدأ المطر بالهطول والشمس بالمغيب، برلين الرمادية الحبيبة، معي ساعة واحدة. حديقة «غناء» تعج بباعة المخدرات الجائلين. كيف سأعرف الوردة المطلوبة؟ ستكون حدودها واضحة في المشهد. تلمع في الظلام.
اللعب بشخصية لاري حتّم علي على مدى 7 أجزاء جمع أزهار من حاوية وطبع مفتاح غرفة على صابونة وسرقة فستان مغنية بار الفندق من غرفة الساونا من ضمن أشياء أخرى لإبهار شتى أنواع النساء، ولذلك تصيبني حياة المواعدة المعاصرة بالإحباط الشديد في كل مرة أجلس فيها قبالة رجل يظنّ أن الحديث عن فهمه بأنواع النبيذ كافٍ ليطير عقلي. حبيبي الزمن تغير أيضاً، سيبك من أجواء روايات التسعينات العربية، وكفوا عن فضحنا بين الأمم، النبيذ موجود في أحقر كشك وليس أمراً مهماً.
أين أنت يا لاري، الأحمق القصير، الذي تحتاجني لأمسك يدك وامشي بك في هذه الحياة القذرة، بين ردهات فندق في الجزء السادس وقارب الحب في الجزء السابع، أنقذك من مواقف عصيبة، مثل حريق يدب في غرفة قيّدتك فيها إلى السرير فتاة ظننت انها الجائزة الكبرى وخاتمة الجزء السادس قبل أن تسرق محفظتك.
3 – كلمة سر السلاح IDKFA
ذخيرة لا متناهية، جزّ رقاب الوحوش، المنشار الكهربائي، أو بقبضتك العارية، المسدس الكلاسيكي تقتل به بأناقة كائنات همجية، مسدس البلاسما، البندقية، الرشاش، The big fucking gun تقذف منه الموت منتشياً على وجوه المسوخ ، لا أعرف هذا الإحساس كما تعرفه، ولكن هذا ما قصدته بأن لا يحررني سوى أن اكون في مكانك، لا قبالتك، أطالب بحقوق أو باحترام ما.
انفجار البيكسلز الحمراء على الشاشة في مشهد الدماء المسيّحة أمامك هي آخر أمل سيضيئ ليلتك الباهتة، جز رقاب الوحوش، لا رائحة مسحوق الغسيل تفوح من الثياب المنشورة ولا الأواني الموضبة في رف تجفيف الأطباق دليل على العافية وأن حياتك تسير على ما يرام، هي بنفس درجة صدق خطابات الطبطبة التي تتحدث عن كنز السعادة الخفي، العجلات انحرفت منذ زمن طويل عن السكة الخربة يا صاحبي، لا سيطرة لك على شيء، إلا زناد 7 أسلحة متنوعة بذخيرة لا نهائية في لعبة DOOM.
4 – المحاكاة
هناك سبب لم يحصل كُتاب كتابات نوع معين على زخم مراسلات من نوع نصك أدهشني وكلماتك لمستني وكزا. أولئك كُتّاب لديهم جمهور بالفعل، من لحم ودم، أما أنت فخليك بكتابة الماورائيات وسقفك أن تتواصل مع بنات الهينتاي في خيالك المسعور. للتوضيح لا يعني ذلك اي احتقار لأولئك الكتاب. من يكتبون واقعية شاعرية ماهرة، يستحقون الاحتفاء، أكثر حتى مما يُقابلون به عادة. عادة هم كتاب سرد يرد في رواياتهم مقاطع مثل مشهد التقاء مع حبيبة في مسبح او مقهى حيث تدور كؤوس البيرة وتدور حوارات بالعامية ومن نوع استقبلت س في محطة القطار وحدقت في يديه وقال كزا وكزا وشردت عن كلامه وانا اتمعن في عروق جبهته النافرة وما إلى ذلك.
ربما لا يروق هذا للجميع ولكنني أشعر تجاه أولئك الكتاب وكتاباتهم ذات رائحة خميرة البيرة بحسد شديد أيضاً، اذ لا شيء ينقصني أنا أيضاً لكتابة شيء من نوع رحت وجيت وأحببت فلان وماشابه على مدى ثلاثمئة صفحة. على كل الأحوال سبب تلقي كتاب البيرة أولئك بشكل مؤكد رسائل القراء التي نسمع عنها. هي أن تخيل المرء لنفسه في هذه الأحداث سهل جدا ويزداد تأثيرها نجاعة كلما لامس اخيلة ومواقف بدئية مثل الذروة والحماس والدراما والغدر والانكسار، يصح ذلك على الألعاب أيضاً، سيناريوهات تعويضية عن الركود الذي نحدق منه في هذه العوالم الغنية. شخصية كوماندوز مليء بالحيوية واللعب مع شريك في عملية هجومية، احساس الشراكة، هذا السخاء في الاحتمالات، في السيمز تصبح عالم صواريخ وتتقن أعمال الصيانة في المنزل أثر قراءة كتاب وتجبر شخصيات أخرى على الزواج منك وطبعاً: إمكانية إغراق الاطفال في المسبح إن لم يكونوا على ذوقك.
الكاتبـ/ـة رشا عباس
كاتبة تقيم في برلين، صدر لها ملخص ما جرى (المتوسط، 2017)، كيف تم اختراع اللغة الألمانية (دار، 2016) وآدم يكره التلفزيون (دار، 2008).