الحياة على سرير آخر

١

يخطر لي أن أعيش على سرير آخر. أراقب المثلث الأخضر عبر زجاج الشباك والبيوت التي تحيط به، أفعل نفس الأمر تقريبًا كل يوم منذ ثلاثة سنوات. يخطر لي أن أعيش على سرير آخر كل يوم تقريبًا منذ ثلاثة سنوات.

٢

المثلث الأخضر خارج الشبّاك على حاله منذ أول يوم سكنت فيه هذا البيت. أتخيّله سوق خُضرة أو ميدان رئيسي في قرية خارج الزمن، وأستمتع بفكرة أنه كومونة يسكنها ما تبقى من البشر على هذا الكوكب، ولما أشطح في عقلي أكثر أتخيّل حربًا نشبت بين سكان حينا والآخر المجاور له؛ هم أيضًا من بقايا البشر، وتقول الأسطورة أن الحيّين كانا واحدًا أيام زمان، لكن حين نشبت النزاعات – ولم أتخيّل أسبابها،اذ أن هذا من طبيعة الأمور – انقسم الحي وصارت الحرب. يفصل بين الحيّين مساحة خضراء شاسعة، أو نصف شاسعة، أو أقل قليلاً من شاسعة، أثناء المشي كل مساء والوقوف في تلك المساحة الخضراء، أقف تحديدًا عند خط النار.

٣

ثمّة اختلاف كبير بين الحي الذي أسكنه والآخر المجاور له. هذا مثلاً معظم بيوته، ان لم تكن كلها، حديثة، ومنشرحة قليلاً – هل منشرحة هي المصطلح الأنسب؟ – لا، ليست منشرحة، بل واسعة، ولون طوبها فاتح، ولها ثلاث طوابق، وأغلب سكانه طلاب جامعات آسيويين وموظّفي بنوك ووكلات خدمات وشركات احتكار وعمّال بارات وبناء، وكلهم أوروبيون. بينما البيوت في الحي المجاور فإنها من الطراز البريطاني القديم: طوب أحمر يغطي طابقين في سَتْفة شوارع موازية تلتصق فيها البيوت بعضها ببعض، وتسكنها أسر وعائلات من أصول ايرلندية وهنود وليبيّون. إنها من نفس نوعية تلك البيوت التي سكنت فيها لدى انتقالي للعيش في هذي البلاد، لذلك بامكاني وصف داخلها، حيث من المفترض أن هناك في الطابق الأرضي غرفتان، واحدة عند المدخل كصالون وأخرى لصيقة بها للطعام يستخدمها الليبيين كوسط حوش، ثم مطبخ تطل نافذته على حديقة صغيرة، وفي الطابق العلوي توجد ثلاثة غرف نوم وحمّام، أو بالأحرى غرفتين ونصف وحمّام. إنه تفصيل انكليزي عتيق لم أره إلاّ في الشمال الانكليزي.
بينما هذا البيت الذي أسكنه فتصميمه مختلف بالكامل: الطابق الأرضي به مطبخ وحمّام وغرفة مكتب – نستخدمها كغرفة خزين – وحديقة واسعة بعض الشي، بالاضافة لغرفتين في الطابق الأول وغرفة أكبر وحمّام ثانٍ في الطابق الأخير، حيث أجلس الأن لأكتب قبيل الراحة كي أراقب ما يدور في المثلث الأخضر خارج الشباك. تُشرف شركة لاحتكار العقارات على مسئوليات وأعمال الحي الذي أسكنه، بينما تقوم بهذه الأعمال في الحي المجاور فلول البلدية، بعد أن باعت جزءًا كبيرًا من أراضيها الحيوية لوكالات صغيرة لا أحد يفهم طريقة عملها.
في بداية العام بعثوا لنا من الوكالة ليعلمونا بأن صاحب البيت – الذي لم نتعامل معه من قبل ولم نراها – قد قرّرت بيعه، لدى فإن وكيلاً ستأتي للبيت بين الحين والأخر لتُرافق المهتمين بشراءه..

٤

.. أحيانًا، أكون في وضع كالذي أنا فيه الأن، جالس بمواجهة الحائط، أطرق بأصابعي على الكيبورد لأكتب عن معنى الحياة على سرير آخر، فأسمع طرق الباب ورائي يتبعه صوت السيدة الوكيلة بشركة العقارات، وهي تناديني وتسألني إن كان بإمكانها الدخول. أقول سيدة لأنها بالفعل كذلك؛ جادّة وصارمة وتختار كلماتها بدقة تؤرقني لمّا يحين وقتي للمبادرة بالرد. لا أعرف إسمها، ولا أظنها تعرف اسمي أيضًا. حتى وهي تفتح باب الغرفة كما الأن وتقف ورائي عند العتبة، وأنا أدّعي أنني لا أسمعها، أنني منشغل بالكتابة، وعلى أذنيّ سماعتين كبيرتين وكأنني بالفعل لا أسمعها وهي تتلعثم في نطق اسمي لتتدحرج الكلمات من فمها فتتكركب ومن ثم تهمس لزبونها عن هذه الغرفة، وتُبلغه بشيء من الأسف أو الحرج أنها قد صُمّمت في الأساس لتكون صالونًا أو غرفة معيشة، بشبّاكها الواسع خلف هذا الستار المُعتم المطلّ على مثلث أخضر، «ولكن بحكم اشتراك البيت بين ثلاثة ساكنين أستُعملت هذه كحجرة خاصة.» أستمر في الضرب على الكيبورد حتى أسمع صوت الباب يُغلق ورائي، وبعد دقائق ستعود السيدة لتطرق الباب مرة أخرى، لوحدها هذه المرة، ولا رغبة لي في التكرار. سأقول تفضّلي. ستفتح الباب بحذر لتطلّ برأسها وتشكرني على الوقت، وستبوح بأسف أنها وقفت قبل دقائق عند العتبة مع «العميل» – وستشدّد على كلمة عميل كأنها تصحّح لي «زبونها» المكتوبة أعلاه – لتُريه الغرفة، لكنهما لم يدخلا.
سأتوقفُ عن الطباعة وسألتفت. سأشكرها دون أن أدري لماذا، بل إنني سأقف وسأسرع خطاي نحوها، وسأمدّ يدي كالآبله كي أصافحها. ستتجمد السيدة أمام يدي الممدودة، متردّدة، في لحظات ستساوي بالنسبة لي الدهر كله، وهي ستفكر، وأنا لن أدري بماذا تفكر، سأنظر لعينيها، وهي ستنظر لعينيّ تارة، وتارة أخرى ليديَ الممدودة، والعرق سيصب. لا أحب فكرة أن أصافح الناس أصلاً، لكن فكرة أن يردّ أحد ما يدي الممدودة، فهذه لن تُكتب لي، لأن ذلك يؤرقني، لأنها تذكرني بأشياء لا طائل من شرحها هنا، وبالتالي فإن يدي ستبقى ممدودة إلى الأبد ان أُضطررت لذلك، أو أن أتحول لكرة لزجة.
استسلمَت أخيرًا، رفعت يدها وصافحتني.

٥

ذلك المساء، وبينما كنت أخبر زميلي في البيت عمّا حدث بنبرة صوت مشحونة بالدهشة، لم أشاهد على ملامح وجهه أي علامات تدل على العجب والاستغراب، بل بقيَ يستمع إليّ وهو يعبّئ الغسالة بملابسه المستعملة ثم يصبّ سائلاً معطّرا في كوب بلاستيكي أزرق مخصص ويضعه بحذر فوق كومة الملابس وبعدها يُغلق باب الغسالة ويضغط على زرين فيأتي صوت احكام غلق الباب يتبعه صوت العجلة تهمّ بالدوران، وقتها فقط أقول، انتهيت من الحكي ومن امتعاضي ومن تفسيراتي المتعدّدة لحادثة السيّدة واليد الممدودة، وحينها فقط أيضًا، التفت زميليَ في البيت وقال لي: «لكن الناس توقفوا عن مصافحة بعضهم.»
لم أفهم، لو أردت قول الحق، لكن قلت كأنني فهمت: «جيّد، وقريبًا سيمشون تتقدّمهم التكية والعصي.»
لم أشرح قصدي، وهو لم يبالي.

٦

أقول أنني هنا من ثلاثة سنوات، أقوم بنفس الأمر كل يوم تقريبًا، وأراقب المثلّث الأخضر عبر زجاج النّافذة، وأحفظ مواعيد خروج وعودة الجيران لبيوتهم، وأوقات خروج أربعة كلاب للتنزه امّا في الصباح أو في المساء، والملابس التي يرتديها أصحابهم.
الجيران الملاصقين للبيت من الجهة اليمنى للشباك أسرة صغيرة متكوّنة من أمّ وأب وولدان. الولد الكبير في آخر سنة اعدادية، والأصغر منه في السنة الأولى، أو هكذا أعتقد، يلعبان كرة الطاولة في حديقة بيتهم كل عشية، وكنت حريصًا على جمع الكور التي تنهمر على حديقتنا في كل شوط ورميها مجددًا في حديقتهم. لكن حين صار الأمر مزعجًا بالنسبة لي اقترحت على الولد الأكبر أن يقفز لحديقة بيتنا متى أراد كي يلتقط كوره بنفسه، تحمّس للأمر وشكرني كثيرًا، وفي اليوم التالي قفز في حديقتنا، وحين رأته زميلتي في البيت لما كانت في المطبخ تعدّ عشاءها، خرجت تجري وراءه بالشبشب. وصلني الخبر طازجًا في رسالة واتساب من زميلتي المنفعلة، شرحت لها ما حدث وذهبت فورا للجيران كي أعتذر، وأكدت لهم أن هذا الأمر حدث خطأً لعدم اعلامي زميليّ في البيت بإتفاقنا الضمنيّ، لكنهما على علم الأن. لم يجرؤ أي من الولدين على القفز في بيتنا بعد أحداث الشبشب، والأن، لما أخرج للحديقة للتدخين، أراقب العدم متجسّدًا في الكور البيضاء على العشب الأخضر، فأسرح مُفكرًا في البيض الذي عبّأ حياتي.

٧

العزلة خيار، أعتقد، الوحدة هي لمّا يكون ثمّة بديل، لكن العزلة هي ما تبقّى، ربما. تلوح أمامي كلمة من أربعة حروف ليس عندي نية لأكتبها هنا، ربما لسخافتها، أو لتفادي الكليشيهات. الحياة على سرير آخر، أفكر مجددًا. كل شيء مختلف خارج السرير. خارج السرير مكتب لصيق به ومواجه للحائط، أو بالأحرى، مواجهًا للوحة خشبية أدبّس عليها أوراقًا بها أفكار، وهوامش نصّ أشتغل عليه، وأخرى لنصوص ستأتي أو سأتخلص منها لمّا تذبل، بعضها هناك منذ ثلاث سنوات، بعضها البارحة. لقد توقفت عن كتابة المنامات منذ ثلاث سنوات. أخر ثلاثة دفاتر للأفكار والملاحظات حين أتصفّحها الأن أجد أنها في المجمل منامات كثيرة، بعضها يمتد لصفحات وصفحات، وبعض هذه الصفحات الطويلة والممتدة دونتها في ليلة واحدة. هذه المنامات تلاشت منذ انتقلت للعيش في هذا البيت. لا أحلام هنا، ولا كوابيس أيضًا، أقضي يومي أمام الشاشة والكيبورد، وحين يصيبني الغم أتفرّج على المثلث الأخضر خارج الشبّاك، وحين يحل الظلام وتشتد العتمة أنام، بلا منامات، وأحلّ عينيّ بعد ساعات، مجددًا افكر في الحياة، كما لو أنها على سرير أخر.
يحدث الأمر كل يوم، إلاّ السبت:

٨

أقف أمام لوحة خلتني لم أرها من قبل، عادي؛ فعادةً لا أتفرج على لوحات العرض كلها دفعة واحدة، بل أترك لنفسي فرصة التفرج على واحدة أو اثنتين في كل دوام. السبت هو اليوم الوحيد الذي أترك فيه السرير والمكتب والغرفة والكور البيضاء في الحديقة والبيت والمثلث الأخضر والمساحة الخضراء والحي والحي الآخر، وأقضي معظم اليوم أتفرج على لوحة أنتقيها بعشوائية. اللوحة التي أشاهدها الأن مثلا عن امرأة تجلس على حافة سرير في غرفة لا تشبه غرف النوم، بل ربما صالة استقبال في بيت أو ممر، خلفها درج ورف عليه ميكرويف، وهي كما قلت جالسة على حافة السرير وتتفرج على شيء أمامها لا نراه، لكنّي أرجح أنه التلفزيون. الألوان داكنة في اللوحة، والميكرويف خلفها يبدو كإنه الشيء الوحيد الذي يشدّها للبقاء، وليس السرير.
كنت أنظر تحديدًا للدرج الذي بدا كأنه جزء من الحائط، اذ يمتد من منتصف اللوحة وحتى أعلى الزاوية اليسرى، حين سمعت صوتًا يسأل: ماذا تشاهد؟ إنها زميلتي في العمل، وقد ملّت هي الأخرى من المشي في المساحة ذهابًا وإيابًا، فقررت بدافع الملل أن تفتح معي حوارًا حول شيء أنا نفسي لا أرى فيه إلاّ ما أريد أن أرى فيه. أخبرتها ما أراه، فعمّ الصمت، وربما لتداري ذلك سألتني عن لوني المفضّل، لم أفهم ان كانت تقصد لوني المفضل في اللوحة أم الألوان بشكل عام، وفي الوقت نفسه لم أرغب في الإجابة على السؤال بسؤال، أو شيء من هذا القبيل، فقلت لها بحسّ شاعري وعينيّ تراقبان الدرج النازل في اللوحة: كل الألوان الداكنة، أضفت: خاصةً لما تأتي مُجتمعة، واسترسلت: كلون الماضي والحاضر والمستقبل، وتجلّيت: كلون كل الأشياء الحيّة والميّتة، واستفحلت: كمستقبل هذا الطفل – وأشرت لواحد مرّ للتوّ أمامنا وكان يرتدي قميصًا أحمر – والدم الذي سيراه عندما يكبر.
انشغل كل منّا بمراقبة اللوحة، ثم مشت صاحبتنا وغابت في الممر اللولبي، نفسه الذي عبره المئات من قبلها، والذي سيعبره المئات من بعدها.

٩

أفعل ما أفعله كل يوم، أحاول السيطرة على عالم يمتد من المساحة الشاسعة التي تفصل بين الحيّين ورأسي، وبين هذا وذاك أستلقي على السرير وأفكر بمعنى الحياة على واحد أخر، ولما يضيق المثلث الأخضر في الشباك، أنام.

١٠

إزداد الضوء في شبابيك البيوت المحيطة بالمثلث الأخضر بعد الحَجر، ولم تعد السيدة لزيارتنا رفقة عملائها، والأسرة الصغيرة التي تسكن في البيت الملاصق انتقلت، وحلّ محلّهم أسرة صغيرة أخرى متكونة من ماما وبابا وبنت وولد، يلعبون أيضًا البينغ بونغ في العشيّات، والبابا اخترع عصاة طويلة في آخرها شدّة لاصقة، يلتقط بها الكُور لما تسقط في حديقة بيتنا، وحين لا يفلح في جمع الكُور البعيدة يأتي ليرنّ جرس الباب ويقف على مسافة مترين، يعتذر في الأول على رنّه الجرس وإن كان الوقت غير مناسب، ثم يطلب منّي بأدب مُربك أن أرمي الكُور لحديقته، لو عندك وقت، يضيف، وقبل أن يمضي يعدني بمباراة ودية بعد تحسن الظروف وانتهاء فترة الحَجر، أشكره بأدب مرتبك، وكلانا يعلم أن هذا الأمر لن يحدث.

١١

يحدث هذا في المساء، قبيل خروجي للمشي والتوقف في المساحة الخضراء، حيث خطّ النار.