يبتسم لوحده

١

راوند ميدنايت. التوقيت على اسم مقطوعة موسيقية لمايلز دايڤز. الفن هو أوراق الزمن الرسمية. في المطبخ. يجلس يحيى، في آخر أيام العقد الثالث من عمره، بوجه عرف الوسامة قبلاً، على الغسالة الأوتوماتيك، إذ يضع بالكاد جانب من مؤخرته على جانب من جسم الغسالة. حافة على حافة. على الجانب المقابل، طبق كبدة على الرخامة المستطيلة، الملساء والباردة. إمرأة بلا روح. المسافة بين الرخامة والغسالة ليست بعيدة، لكنها ليست قريبة إلى درجة تسمح ليده بالوصول إلى الطبق بدون تحريك جزء آخر من جسمه. لذا فهو يشب مرة على أطراف أصابع قدميه، دافعاً جزعه قدر الإمكان إلى الأمام، ويسقط بكف يده على الطبق، ويغمس اللقمة في قطعة الكبدة الغرقانة في بحر الزيت وسط أسماك البصل المِزِز، يهبش هبشته ويعود إلى تلقيم آلة الفم الشغالة في وضع الإستعداد. ومرة يرفع جانب مؤخرته من فوق جانب الغسالة، ويتحرك بمقدار فركة كعب، مسافة السكة، نحو الرخامة، والطبق فوقها، ويصير هو فوقه، فيُسقِط فانوسي وجهه عليه، ويمد يده في حركة مسرحية استعراضية، ويلتقط قطعة الكبدة الملتاثة بالزيت والمصحوبة بالبصل، بقطعة الخبز الرقيقة، ويضعها في فمه بأريحية ولذة.

٢

نصف ساعة بعد منتصف الليل. توقيت جيد للقيام بأمر غامض، أو التخطيط لشيء مستحيل. يحيى في حوش البيت. القمر يرسل من بعيد ضوءاً خافتاً لكنه كافٍ لإضاءة قلب رجل مهجور. على أحد أن ينقذ القمر من الروتين. بيروقراطية هنا. بيروقراطية هناك. يشعل سيجارة. يدخنها على مهل. لكنها لا تستغرق أكثر من دقيقتين، ثم تحتضر بين يديه، فيلقي بها بعيداً، بطاقة قصوى، لكنها لا تبتعد أكثر من خطوة طفل صغير يتعلم المشي.

٣

الساعة الواحدة إلا الثلث. يحيى في حجرته. يزيح إحدى قطعتي النافذة الألومنتال الصفراء. يظهر وراءها سلك رهيف. فتحاته متناهية الصغر، أضيق من فتحات قضبان زنزانة السجن. يتسرب الهواء المنعش بدوره من الثغرات. الهواء فقط يعرف كيف يسلك طريقه دائماً. يتقدم أكثر من جانب النافذة المفتوح. يضع أنفه على السلك، ويلتقط بدوره الهواء عبر ثغرتي أنفه في نشوة. ثغرات مصممة لأغراض نافعة. يتصاعد صوت موسيقى تدريجياً، حتى يصل إلى درجة معينة تقع عندها الفريسة في الشَرَك. يكتفي بجرعة معينة من الهواء النقي ثم يعود بوجهه إلى الغرفة. بصره يستقر على شاشة موبايل نائم على سرير في زاوية تسمح له برؤيته. تكنيكات سلطوية. موسيقيون على المسرح. واحد على الطبلة. واحد على الدرامز. واحد بصحبة الدف. وواحد يلعب على الجيتار. بعد برهة تغلق عيناه أبوابها. وتبدأ باقي أعضاء جسده في العمل، في الحركة وفقاً لنظام يفرضه الإيقاع. الجسد مكبل بقيود وجنازير وكلبشات خفية. اليدان تقومان بالدور الأكبر، دور البطولة. مرة تحاكي حركة الطبال. مرة تحاكي حركة الجيتاريست. مرة تحاكي حركة الدفاف. ومرة تحاكي حركة الدرامر. ثم، وعلى نحو مفاجئ، تُفتَح عيونه، انتباهاً وإستجابةً وإذعاناً لفكرة خطرت له، على نحو مفاجيء أيضاً. الفكرة هي أنه يقوم بالعزف على الآلات جميعها، الآلات الأربعة التي يلزمها أربعة أشخاص على المسرح، بمفرده، لوحده، بطوله. يبتسم لوحدته.

٤

الواحدة صباحاً. الصباح الحقيقي، أبو شمس ونور ووهج، مازال بعيداً، على بعد خمس ساعات على الأقل. سيجارة أخرى لمناوشة الليل. يروح يحيى ويجيء في خط مستقيم، في شريط محدود ومقتطع من مساحة الفناء الكبيرة والمفتوحة أمام إحتمالات المشي والجري والدهس بحرية. نزعة فطرية إلى الإلتزام، تجافي نزعة فطرية أخرى إلى التمرد. بين النزعتين معاناة الإنسان. على السور قطة، جسمها ليل وعيناها قمران. يروح ويجيء لم يزل وسيجارة مشتعلة في يده. القطة ،وهي في زاوية تسمح له بمعاينتها طوال رحلتي الذهاب والإياب، تتوقف بعد حركة. تمعن النظر بعد لمحة. عينها عليه. السيجارة تصعد في يده، مع تقدمها إلى جرن الفم، وتهبط. وخلال رحلة الصعود والهبوط، تفقد شيئاً من نفسها. مواء عنيف يأتي من بعيد، من بقعة تحتجب خلف السور، تستجيب لها القطة على الفور بنظرة سريعة وخاطفة. يحيى لم يزل منخرطاً بما في وسعه من حيوية ونشاط وطاقة في الذهاب والإياب الفقير والمعدوم من المعنى. يسحب نفساً من السيجارة فتتوهج فوهتها وتلمع في الظلام للحظة قصيرة مثل البرق ثم تخفت من جديد. ينطفئ القمران في وجه القطة المعتم، ويضيئان في رمشة عين. تسقط السيجارة. تنطفئ وتموت. تقفز القطة بخفة إلى أسفل. خفة مزعجة. وتنطلق في حركة مرتبكة، كأنها تفكر خلال الذهاب، في العودة.

صورة الشريط © حيدر ديوه چي