مقطع من رواية صندوق الرمل

كان حجم الخندق يتسع ويبتلع الأجساد المتعرقة المنهكة، ويستنزف طاقة الشعور بالألم والخوف والحب والكراهية، فيلوذ الجميع بالصمت والانطفاء، وكلما كبر الخندق يكبر الشعور بالانصهار في كتلة المجموع، وتتلاشى حواجز الاتصال الفيزيائي بين الجنود لتحيلهم إلى آلة في شكل أفعوانة عظيمة، يتحركون فيها كمجموعة تروس تعمل في صمت بلا مشاعر أو ضجيج. وعلى مدى الأيام التي قضاها الجنود في العمل الشاق تحت لهيب الشمس والغبار، أصبح بإمكانهم أن يصفعوا بعضهم البعض دون اعتراض، وأن يبولوا على بعضهم من دون تذمر، وأن يدوسوا جندياً مريضاً بلا تأنيب ضمير، ومن بين سحب الغبار وصوت ضربات الفؤوس وقعقعة المجارف والضجيج، كان على الجانب الآخر من الخندق في حي المنشية أطفال يلعبون، يركضون حفاة في الأحياء الفقيرة، كهول يجلسون عند عتبات المساجد، نساء يثرثرن أمام أبواب البيوت، كانت هناك قطط تموء ورائحة شاي تتسرب من النوافذ، وطعام مسلوق بالبصل والبهار. استطاع ساندرو أن يسترق النظر إلى السكان وهم يمارسون حياتهم على الجانب الآخر دون اكتراث، وانتابته الشكوك في أن صداماً يمكن أن يحدث في هذا المكان. ذات صباح وفيما كان ينحني على حافة الخندق، يستلم أكياس الرمل من الحفارين ويرتبها فوق بعضها البعض على هيئة وسائد للحماية تتخللها فتحات للمدفعية، سمع من خلفه صوتاً حاداً يصرخ بغضب، التفت مصعوقاً بذهوله، كانت فتاة يافعة بجمال أصيل تشير بإيماءات غاضبة وتحاول تمرير حمارها فوق الألواح الخشبية التي صُفّت فوق الخندق كجسر للطوارئ، لكن الحمار رفض العبور، “حمار على أي حال”، قال ساندرو في نفسه واقترب محاولاً دفعه، لكن الفتاة صرخت ثانية، بمشاركة شقيقها الصغير الذي يعتلي الحمار ويمسك باللجام، وأشار كلاهما بحدة إلى دورق الحليب الذي انزلق من مكانه واندلق جزء منه على البردعة، شعر بأنه ارتكب جريمة لن تغفرها الفتاة الحسناء، “صار لديه جرائم أكبر في وقت لاحق لن تغفرها له”. حاول أن يصلح الأمر، أن يفعل شيئاً لتمرير الفتاة إلى وجهتها قبل أن ينتبه الجنود في الأسفل، لكن ضجيجها كان عالياً، فأطلوا برؤوسهم كقنادس برية، مذهولين بجمالها الصاعق. قوام منحوت مثل تمثال روماني، جدائل سوداء متدفقة وفم مصنوع للقبل، هكذا تبادل الجنود التعليقات وتعالت تأوهات وقحة، وبدافع من غيرة امتلاك ليس لها علاقة بالنخوة، دفع ساندرو بقدم حذائه العسكري أكياس المشمع المحشوة بالرمل إلى قاع الخندق أمام صيحات اعتراض الجنود، دفع مزيداً من الأكياس فوق بعضها البعض حتى استوت الأرض على الجانبين، لكن الحمار رفض بعناد كاسح أن يعبر فوق الأكياس، تفتق ذهنه (أي ساندرو وليس الحمار) عن فكرة ردم الأكياس بطبقة من الرمل لاستعادة الأرضية لاستوائها الطبيعي، أهال الرمل فوق جسر الأكياس، فتنازل الحمار عن عناده أخيراً وعبر بهدوء مع الفتاة وشقيقها. “يظل حماراً” تمتم ساندرو ثانية، ولما أفاق من غشيته وشاهد الأكياس الثقيلة المتكومة في القاع بانتظار إخراجها وتصفيفها من جديد، تساءل- متجنباً التفكير بالحمار- كيف لم يخطر بباله أن يهيل طبقة الرمل على الجسر الخشبي ويوفر على نفسه كل هذا العناء؟


مقطع من رواية صندوق الرمل الصادرة مؤخرا عن منشورات المتوسط


صورة الشريط © حيدر ديوه چي