أنا وفيسبوك والمكان الآخر

أتصور إن البحث في الإنترنت عن مكان آخر بدأ من قبل الثورة، يعني من سنة ٢٠٠٨ أو ٢٠٠٩. وطبعاً من قبل كده بكتير وأنا شخصياً بشكل أو بآخر بأدوّر على مجتمع بدل المجتمع وناس بدل الناس ومساحة للتفكير والتعبير من غير ضغوط وهبل.
كان عندي حساب فيسبوك كمان من قبل كده وكان عندي المدونة وحسابات تانية كتير بس ما كنتش بأستعمل الحاجات دي قوي ولا كنت متأكد إن ليها استعمال. اللي حصل في ٢٠٠٨-٢٠٠٩ – أياميها كنت عايش في أبو ظبي، قعدت سنة واحدة في أبو ظبي وعمري ٣١-٣٢ سنة – إنه بدأ يبقى بيني وبين فيسبوك علاقة شبه يومية وإن كان التركيز فيها على الاتصال الشخصي مش الحالة الجماعية اللي حتطّور بعد كده.
يمكن لازم أقول إني في الوقت ده كنت خارج من تجربة جواز كارثية وتقريباً هربان من القاهرة، وأبو ظبي مكان صعب حقيقي اجتماعياً وعاطفياً بالذات لما الواحد ينقل عليه لوحده. فالشات كان شيء دائم وضروري بغض النظر، لكن على فيسبوك الميزة إنك مش بس بتتكلم مع أصحابك إنما كمان مع ناس ما تعرفهمش لكن حاسس إنك تعرفهم من صورهم وتصريحاتهم وأصدقاءكم المشتركين وأوقات كمان مع ناس حابب تشوفهم في الحقيقة. المهم أنا بسرعة اتخنقت من الأجواء الكوربوريت المصطنعة والتراتبية العنصرية اللي مخلية شخصيات وقيع من إنجلترا يتحكموا في مصيري من غير منطق، وبعد أول خلاف في الشغل ما صدّقت سبت أبو ظبي ورجعت.
أظن دي كانت بداية اندماجي مع فيسبوك كحياة بديلة أو مكان آخر فعلاً، لما رجعت من أبو ظبي، مع إني لحد ٢٠١٠ مثلاً ما كنتش شايفه كده بالذات. يعني زي ما بأقول كنت بأدور وبأبحث وكان عندي أمل في الإنترنت كمكان آخر أكتر بكتير من دلوقتي، لكن لحد ٢٠١٠ ما كانش عندي سؤال واعي عن الفرق بين الواقع الافتراضي الحاصل على النت والواقع الفعلي اللي أنا عايشه في الشارع، بالذات وإني حتى لو فيه ناس من اللي بأتعامل معاهم أونلاين ما شفتهمش فأنا مقتنع إني عارف ميولهم وأجواءهم وأقدر أتخيل هما حيكونوا فين ومع مين.
فيسبوك بقى زي القهوة اللي أنا مواظب عليها، واللي بأسوّق فيها شغلي كمان. فبسرعة بقى فيه إحساس بالتطابق بين الفريندزون والحياة العملية (اللي هي الاجتماعيات الخاصة بالوسط الأدبي أو الحياة الثقافية). ولما التطابق ده حصل بقى فيه إحساس إن أنا جزء من مجتمع صغير إن ما كانش في مواجهة المجتمع الكبير فعلى الأقل مش نافيني ومحسّسني بالغربة زي ما المجتمع الكبير ده عامل، لإن فيه قيم أو مبادئ جامعة الناس ومخلّياهم مصدّقين بعض.
اللي فهمته بعد كده إن أول ما الإحساس ده يترسّخ بيترتب عليه حاجتين. أول حاجة إن الموضوع بيتجاوز فكرة إنك تتكلم مع شخص أو مجموعة أشخاص ويبقى زي كإنك شخصية عامة بتخاطب المجتمع – ده بغض النظر عن إن شغلتك الكتابة أقصد، وإن كان الأمر ممكن يختلط عليك أو على أصدقاءك الافتراضيين فيبقى فيه إيحاء بإنك بما إنك بتكتب تبقى شخصية عامة فعلاً وكونك تعمل تصريحات عميقة بمناسبة ومن غير مناسبة ده حق وواجب – يعني غير إنه بيحصل إيحاء مضلل بأهميتك كشخص ليك رأي وكده، بيتخلق مجال عام بديل جوة الفريندزون نفسه مش بس حجمه أصغر من إنه ينقل لك صورة مفيدة عن الواقع اللي في الشارع لكن كمان وده الأخطر ما لوش وجود ثابت بعيد عن المجال الافتراضي، بمعنى إن الناس اللي فيه هما نفسهم لما بيخرجوا برّاه ما بيبقوش جاهزين يتحمّلوا مسئولية اللي بيقولوه جوّة.
ده في حد ذاته يفسّر الأريحيّة اللي الناس بتشتم بعض بيها مثلاً، يعني فيه حوارات لو حصلت على القهوة ما تخلصش إلا بعاهات مستديمة (وعشان كده في العموم ما بتحصلش)، على فيسبوك تلاقيها رايحة جاية بمنتهى السلاسة. وطبعاً يفسر كمان حاجات من نوع إن الناس كلها تبقى بتبشّر بـ”انتفاضة المرأة العربية“ في وقت بتزيد فيه نسب النقاب في الشارع بشكل غير مسبوق. وارد يكون فيه منطق ما بعد حداثي مش شايف تناقض بين ”النسوية“ والنقاب، لكن الناس اللي كانت ماسكة اليفط دي ما كانش يبان عليها إنها مؤمنة بمنطق زي كده خالص.
الحاجة التانية إن فيه نشاطات حيوية فعلاً بتقل أو تختفي لإن بقى فيه تعويض عنها مجهوده أقل بكتير. فمثلا بدل ما اتنين إصحاب ينزلوا يتقابلوا يكتفوا بإنهم يشيّتوا، وبدل ما اتنين كُتّاب يقروا شغل بعض ويناقشوه يكتفوا بقراية الستيتوسات والمجاملات (أو الشتايم). وبدل ما الناس تصارح بعض باللي هي حاساه كأفراد ناحية قضية اجتماعية أو سياسية يكتفوا بإعلان الموقف الرسمي للحزب (يعني الشلة أو مجموعة الأصحاب اللي ما ينفعش نزعّلهم) ويبقوا بيستظرفوا وهما دمهم يلطش مع إن تعليقاتهم التهكّمية برضه القصد من وراها إنها تعلن الموقف الرسمي مش أكتر. وبعد شوية يبقى الكلام كله من أوله لآخره محتواه بس إن أنا من الشلة دي وضد الشلة دوكها أو أنا حلو وإنتو ولاد كلب.
أنا مش بأقول إن الحاجات دي ما كانتش حاصلة وسط ”المثقفين“ قبل ما يبقى فيه فيسبوك أصلاً – يعني بغض النظر عن الإنترنت خالص وبمعاني كتير الدواير دي هي نفسها مجال افتراضي – لكن أتصور إن الصيغة بتاعت فيسبوك وتعامُل الناس معاه خلّتنا نستسهل ونتمادى. وده طبعاً ساهمت فيه الثورة وما تلاها واللي كان مستخبي وانكشف فيما تلاها.
يعني لحد دلوقتي ساعات أقابل حد صدفة ويقول لي إنت ليه مختفي ومش باين في الحياة الثقافية، فأبقى عارف على طول إن قصده إنت ليه مش على فيسبوك. بتبقى حاجة تضحّك بس في نفس الوقت حزينة. حزينة بجد.
الحقيقة إن أنا من ٢٠١٠ زي ما بأقول كنت بدأت أسأل نفسي عن اللخبطة اللي عاملهالي المجال الافتراضي في شغلي يعني بالذات في فكرة إننا ككتاب كإننا استعضنا عن النقد والحوار بولاءات ومصالح مشتركة ما لهاش أي علاقة بالكتابة والقراية خالص. بس لما حصلت الثورة الأسئلة دي تضاعفت فجأة والمشاكل بانت بشكل أقوى كتير، لإن بقى فيه موضوع ضخم فتح المجتمع الصغير ع المجتمع الكبير ولإن أجواء الاشتباك والالتزام انتشرت تلقائياً جوة الفريندزون نفسه. وطبعاً حالات الشللية والتفكير الأحادي والاغتيال المعنوي زادت باطراد.

أربع حاجات أثّروا عليا شخصيا بداية من الشهر التالت أو الرابع على الثورة ولحد ما سبت فيسبوك نهائياً بعد كده بسنتين تلاتة. (بس عشان ما يبقاش فيه لخبطة خليني أوضّح إني بأتكلم على المجتمع الصغير أو المكان الآخر اللي بيمثّله الفريندزون بتاعي أنا على فيسبوك، مش على المجال الافتراضي عموماً ولا على المجتمع الكبير.)
أولاً بقى فيه رقابة من جوة الفريندزون نفسه وكإن المجتمع البديل أفرز أجهزته القمعية البديلة. بدأت أحس إن اللي بيشتبك معايا مش بيناقشني ولا بيتفاعل مع كلامي قد ما بيقول لي إيه اللي ممكن يتقال وإيه لأ أو حتى بيهددني إن كلامي ده ممكن يخرّجني على ”الملّة“ (اللي هي الموقف الرسمي مش للحزب بقى لكن للجماعة الأدبية كلها، أو ع الأقل الجماعة الثورية) وبالتالي أطّرد من لجنة الإفتا اللي أنا عضو فيها أو أتزنق في الركن ويحل دمي (مجازياً طبعاً).
ثانياً بقى فيه تحفّز وغضب دائم – أو زي ما ناس كتير بتحب تسميه ”عنف“، مع إنه في مجمله مش أكتر من واحد واقف يصرّخ أو يخبط راسه في الحيط في أوضة مقفولة ومش واخد باله إنه مع إنه لوحده خالص هو بيتصرف زي ما يكون واقف على خشبة مسرح وبيمثّل – وكإن كل خبر أو تطور في الوضع السياسي هو في الحقيقة صُفّارة عشان نرجع نمسك في بعض. يعني نتشنج ونهاجم أي طرف وأول ما يبقى فيه خلاف على مين اللي يستحق يتهاجم نبتدي نهاجم بعض. والهدف مش إن حد يفهم حاجة ولا إن اتنين يتناقشوا في حاجة حد فهمها لكن بس إننا نكون غضبانين بشكل مسرحي والحق معانا وعلى حد غيرنا.
أنا شخصياً عملت ده كتير، وألّبت الفريندزون على روحي لإني كنت بأختار أطراف ”ثورية“ و”ثقافية“ أهاجمها. بس الحقيقة إن هما دول اللي كانوا بيستفزوني مش الأطراف اللي ما عنديش صلة بيها ومش معوّل على توجهاتها وآراءها. ويعني الواحد فاكر لحظات كتير كان فيها صدمة وحسرة حقيقية يعني حسرة شخصية من آراء وتوجهات ”المثقفين“ و”الثوار“.
ثالثاً بقى فيه إحساس إن الصراعات اللي بينا كأعضاء فريندزون قد الدنيا مش مجرد اختلافات في وجهات النظر أو في طُرُق التعبير أو حتى الأولويات إنما اختلافات في القيم نفسها. يعني الافتراضات اللي كانت محسّساني إن فيه ”وسط“ أو تجمّع أنا ممكن أكون بأنتميله طِلعِت كلها مش حقيقية. الناس ما كانتش متفقة على أي حاجة، والمصيبة ما عندهاش حتى طريقة تعرف هي متفقة على إيه عشان يبقى فيه أمل في أي تعاون ما بينها.
رابعاً ويمكن دي أهم حاجة بدأت ألاحظ إن خطابات فيسبوك، زيها زي خطابات ”القوى الثورية“ الحقيقة، بدل ما تخلق مساحة موازية أو تولّد كهربا مختلفة بس بتعكس اللي حاصل برّة كمان – واللي هو انبطاح للمجتمع الكبير وإعادة إنتاج لوساخات الأبوية والسلطوية مهما كان ده متداري أو متأيف ومهما كانت إيحاءات الكلام غير كده – وبالطريقة دي كانت بتبلور الوضع القائم وتأكّده حتى وهي مقدمة نفسها باعتبارها أرقى منه وناقمة عليه وحاملة راية تغييره.
يعني زي ما البست سيلرز دايماً كتب هايفة ومتخلّفة ومكتوبة ألف مرة قبل كده برضه الكليشيهات والمواعظ هي اللي تاخد لايكات وتجيب أصدقاء، وزي ما المعارضة ”المدنية“ ظاهرة دعائية لا عندها تصور عن حاجة مختلفة ولا عايزة السلطة تتغير في الحقيقة برضه الحنجرة والمزايدة من غير لا إحساس بالمسئولية عن اللي ممكن يترتب على المَطالب والتصورات ولا مردود واقعي في الشارع أو في السلطة هي اللي دايماً سوقها ماشي.
خلّيني برضه أأكد إني مش بأدين حد ولا بأتبرّأ من حاجة، بس بأحاول ألاقي زاوية أبص منها عشان أقدر أشوف. ما فيش شك إن جزء من القضية بالنسبة لي وبالنسبة لغيري يعني نرجسية وأنوات متضخمة وسوء نية وسوء تقدير، لكن الجزء اللي أنا مهتم بيه هو ازاي فيسبوك في لحظة ما ولفترة ما طرح أو ساهم في طرح مكان موازي عنده قيم مختلفة عن قيم ”المجتمع المصري“ وفيه ناس بيعلنوا عن التزامهم بالقيم دي ويطالبوك تنضملهم.
هو ده المكان اللي جت منه الثورة أظن، ومشاكل الثورة هي بالظبط مشاكله. وأتصور هزيمتها كمان كانت إعلان عن هزيمته بدليل إنه فعلاً اتفتت وطاقته فطست بعد ٢٠١٣.
لكن مشاكل المكان الآخر ده أقصد مش بس إنه مُدان وملاحَق من المجتمع قبل الدولة ومع ذلك مصمم على الانبطاح لنفس المجتمع برضه ومش قادر يتخيل حياة ما فيهاش سلطة أبوية مطلقة لكن كمان كونه بيحكي حكاية عن صراع الخير مع الشر هو بيلعب فيها دور الجان الطيب وغريمه بيلعب دور الفيلن الشرير بمنطق ما يختلفش خالص عن فيلم من أفلام ديزني (مع فارق إن الخير مش هو اللي بينتصر في الآخر طبعاً)، وكونه مسرحي وصبياني ومليان بأجواء البطولة المراهقة والوطنية الميلودرامية اللي مخلية أي حوار مستحيل، وكمان كونه في العمق قائم على التبعية فعلاً أياً كانت الجهة المُتّبعة. دي كلها حاجات مشتركة بين المكان الآخر والثورة.
أنا آسف بجد إذا كان كلامي ده جارح أو مهين، أنا فعلاً ما عنديش رغبة أزعّل حد مني بس كمان مش عايز أكذب. وصعب الواحد يتكلم عن المجتمع البديل بتاع فيسبوك من غير ما يجيب سيرة تجربته مع طموح التغيير الجماعي ونهايته البائسة.
المهم إن المشاكل دي كلها كانت صادمة فعلاً لما بدأت أنتبه لها في الناس، لإني داخل الفريندزون ده من الأصل على اعتبار إنه طارح مجتمع بديل فعلاً على المستوى الفكري والأخلاقي. لكن الصدمة خفّت لما فهمت إن الخطابات المنتشرة جواه مش على صلة وثيقة كفاية بالواقع ولا حتى بحياة الأعضاء نفسهم. ويمكن ده ما كانش ممكن يحصل من غير ما أطلع منه وأشوف حالي بعيد عنه فترة طويلة كفاية.
أنا دلوقتي طبعاً مقتنع إن تأثير شبكات التواصل الاجتماعي سواء على الكتابة أو السياسة هو مش بس تسليع وتسفيه لقيم زي الجمال والمعرفة والتضامن لكن كمان في العمق تسطيح وتقويض لأي طموح أو احتمال تغيير جدي.
لكن بغض النظر عن كده، أعتقد إني بعد ما أعدت النظر في فيسبوك – وفي أفكار زي العولمة والديمقراطية وحقوق الإنسان – بقى عندي صورة أصفى كتير لنفسي كشخص عايش في المجتمع الكبير في حدود ما المجتمع الكبير ده قابلني أو مُتغاضي عن اختلافي، وحقيقي ممتن لقدرتي على الاستمرار والإنتاج حتى لو بصعوبة أو في ظروف زي الزفت.

يمكن لأول مرة من سنة ٢٠٠٥  – وقت ما رجعت للكتابة بعد انقطاع ست سنين – أدركت إني مش بالضرورة شبه أي حد ولا طرف في أي وسط أو تجمّع ممكن يتوصف بإنه مجتمع صغير أو مكان آخر. لإنه بقى واضح بالنسبة لي كمان إن لو فيه احتمال إن المجتمع الكبير يتغير بحيث إني ألاقي نفسي فيه أكتر أو أعاني فيه أقل فالاحتمال ده بالتأكيد مش عند الدواير اللي بتبشّر بمكان زي كده وتتشنج قوي من غيابه.
بس يمكن الأهم إنه بقى عندي فهم مختلف شوية للي ممكن أحققه كشخص شغلته اللي هو حابب يعملها إنه يقرا ويكتب. يعني أشكال التحقق المعروفة فقدت معناهها حبتين، والواحد بقى فاهم إنه – حتى لو هو منزعج من السياق العام أو محبط في ردود الفعل – الحقيقة إنه مش شرط يكون فيه أي نتيجة لأي كتابة غير التفاعل الفردي والحوار بين النصوص والاستمتاع باللغة والحاجات الجميلة اللي ممكن اللغة تعملها. يعني يمكن كتابتي اللي أنا حاسس إنها ضرورية قوي كده فعلاً ما لهاش أي قيمة في العالم اللي أنا عايش فيه، لكن حتى لو هي أكتر شيء محتَفَى بيه في التاريخ وأنا بطّلت أصدق إحساسي بضرورتها فمش حيبقالها أي قيمة بالنسبة لي.
وده له علاقة مباشرة بفيسبوك لإن واحدة من أهم وظايف الفريندزون بتاعتي كانت إنها تصدّر لي إحساس بأهميتي وقيمتي ككاتب، لكن اتضح بعد كده إن العملية دي ما لهاش علاقة بكتابتي في الحقيقة قد ما ليها علاقة بالدور اللي بأمثله أو الحالة الافتراضية اللي بأتماهى معاها بصفة كاتب. وأظن إني بقيت شايف شغلي برواقة ومن غير تشويش ومن غير توتر دائم وإحساس غبي بالتنافس لما اتعلّمت أستغنى عن الإحساس ده.
المهم أنا زي ما خرَجْت من فيسبوك كمان حوّلت مدونتي لمساحة جماعية غير ملزِمة دلوقتي بس، بعد خمس سنين أو أكتر، بَدَئِت تشم نفسها شوية وتتعِرِف كموقع حيوي لنشر الأدب. لإني بالتدريج أدركت إنك لما تكون بتقدّم نصوص وتكون النصوص دي مكتوبة كويس ومتراجعة ومطروحة كمادة للقراية مش للاستنطاع والتلاسن فده ع الأقل فيه حد أدنى من احترام الغير. ومع إنه ما فيهوش تفاعل مباشر وناس يبان إنها بتتكلم مع بعض فهو بيساعد في خلق حوار حقيقي على المدى الطويل أكتر بكتير من الهري والعك بتاع فيسبوك، ومش بس بيحِدّ من السخافة و”العنف“ لكن كمان من أوهام ”السياسة“ وتغيير العالم وتجارة الصدا والغبار.
عشان كده انتقال النشاط من على فيسبوك للمدونة كان حاجة تبسط فعلاً حتى لو التفاعل حيقل لإن الناس لسه حابسة نفسها في الفريندزون ومكسّلة تخرج منه أو تقرا حاجة براه حتى لو كانت الحاجة دي على لينك محطوط قدامها وفوق منه صورة.
اللي بأحاول أقوله إننا فعلاً محتاجين مكان آخر مش مش محتاجين، زي بالظبط ما إحنا محتاجين ثورة جذرية مستدامة – وحتى لو دي فكرة مجرّدة أو شيء مستحيل وبالتالي الاحتياج مصيره يفضل احتياج  – بس كمان مكانّا الآخر ده أو يعني ثورتنا ما ينفعش تيجي من مساحة افتراضيّة ومجانية للدرجة دي وما ينفعش يبقى مجالها ضيق وسطحي للدرجة دي وما ينفعش يبقى فيها الكم ده من المغالطة والاستهبال.
أتصور لازم ندوّر ع المكان الآخر أو نبنيه في دماغنا إحنا كأفراد وفي منطق حياتنا اليومية قبل ما نتوقع إننا نلاقيه في أي مساحة مشتركة أو أي تركيبة سلطة.
ويعني خلينا نعتبر اللي حصل ده كله تجربة أو محاولة، وخلينا نتعلم منها مش بس على مستوى ”الفعل“ وإحنا عملنا إيه غلط كان ممكن نعمله صح وهكذا لكن كمان على مستوى استيعابنا للمكان اللي إحنا فيه وإيه اللي ممكن يخليه آخر. أظن بقى واضح دلوقتي إنه مش فيسبوك ومش الاحتجاج السياسي اللي حيخليه آخر. والدليل على كده أبسط من أي نظريات في العلوم الإنسانية أو أي تحليلات علوم سياسية لوقائع تاريخية موثقة.
الدليل هو إننا لو كنا هربنا على النت ونزلنا نتظاهر عشان إحنا قرفانين من المكان اللي إحنا فيه، فاللي حصل إننا بسرعة وفعالية مذهلة فعلاً، وسواء على مستوى الأفكار أو القيم أو القدرة على التعبير، حوّلنا النت والمظاهرة لنسخة طبق الأصل من اللي إحنا قرفانين منه.

نُشر هذا النص أيضًا ضمن العدد ١٢ بمجلة أمكنة – ديسمبر ٢٠١٩


صورة الشريط © حيدر ديوه چي