موت في سان آرابيا

هذه هي خامس محاولة لإخراج الفيلم. أخذت المسؤولية فوق رأسي. كان هناك 34 سيناريو في مكتبة شركة الأفلام، نسختها وقرأت معظمها على مدار يومين. كان هناك سيناريو عن قديسة هندية تُنقذ الرجال البيض من الشر، وسيناريوهات عن مبشر ينشر النور بين الهنود الهمجيين. عدة سيناريوهات عن محارب قديم في الغرب الأمريكي يُنهى عزلته لإنقاذ عائلة صديقه المغدور أو قرية صغيرة أو ضميره أو أي شيء مثالي سخيف آخر. سيناريو عن مريض نفسي وقاتل متسلسل. سيناريو عن طبيب نفسي وقاتل متسلسل. وبالطبع عشرة إلى خمسة عشرة سيناريوهات رعب (أرواح شريرة، شياطين، مهرجون، قتلة متسلسلون، أطفال ممسوسون، احتلال فضائي، وحوش، عبدة شياطين، كائنات مرعبة تهرب من مرفق سرى للجيش) معظمها يجري في قرى صغيرة، معظم أبطالها من القاصرين، معظم نهايتها متطابقة.
لكن شدني سيناريو واحد. قرأته تسع أو عشر مرات. كان الفجر على قيد الزوال مع سطوع أشعة الشمس، وأصوات خطوات الناس المتخبطة على خرسانة الرصيف تضرب طبلتيّ مثل أصوات المطر. اسم السيناريو هو العربية والأشقر.
يبدأ الراوي في سرد القصة هكذا:
كان هناك مكان، قاطنوه أعطوه اسماً، العابرون أعطوه اسماً، السلطة أعطته اسماً، ولكن الاسم العالق في شعر الأذان هو سان آرابيا . . .
في سان آرابيا عاشت العائلات العربية المنفية بسلام. عاشوا بسلام مع المكسيكيين، عاشوا بسلام مع الزنوج، عاشوا بسلام مع الملاك البيض . . .
لا أحد اعتقد أن الشر سيمس سان آرابيا . . .
لكن غشى ليل غريب ذات يوم، تجمعت فيه الغيوم وغطت وجه القمر. الغيوم تجمعت وغطت السماء. لم يعد هناك أية طريق مختصر للنور. اسودت السهول الحجرية.  توارى الجبل في حافة القرية عن البصر. لا أحد لاحظ ذلك. كانت سيارة نقيب الشرطة تجول الشوارع باتجاه الحانة، صاحبها أبلغ مركز الشرطة عن السيد حميد. كان يفتعل المشاكل مع الزنوج مرة ثانية أخرى. كان السيد حميد ثملاً مثل عين حسيرة.
ثم ظهر رجل، طويل وظليم مثل نهر الميسيسبي. مصت عيناه الدمويتين الظُلمة، كانتا تشتعلان افتراساً. وجهه النحيل مثل جمجمة مأكولة، وخطواته الواسعة استولت على الأرض كأن ما تحتها هو عرشه. نبحت الكلاب أمام مركز الشرطة. هربت القطط. اختبأت الجرذان ابان رؤيته . . .
 هذا الرجل لم يأت لوحده. خلفه قبع عبيده، سبعة بلا أمهات وبلا أباء. سارت الدماء الحمراء عبر أصابعهم لتعود عفنة بالخِسّة. استبدلت أصوات تقليم مسدساتهم هواء الليل، وصارت الأجواء مسمومة بأدخنة الجحيم.
لم يسأل الرجل. قام بطعن الشرطي المدخن أمام المركز. بالأحرى بقره فانهمرت أحشائه على الرصيف. دخل الرجل للمركز، يداه قبضتا على عنق ضابطة الاتصالات الصارخة وانفجرت أوعية عينيها. سُلبت الروح على نوتة صفير فرقعة رأسها. ذُعر الشرطي الأخير فور خروجه من الحمام. سقط مسدسه من قرابه. سقط تحت الطاولة، ونزل على ركبتيه على أربع، مثل ضأن تجهل ذبحها تتوسل الجزار أن يرأف بحالها.
سدت المدية مريء الشرطي الأخير وتشقلبت عيناه تحت ظلام جفنيّه.
أجمل فتاة في سان آرابيا حينذاك كانت تمشط شعرها أمام مرآة غرفتها. أفكارها تموجت على نخاعها الشوكي. كلمات والدتها: “أنا أمنعك . . . أنا أمنعك . . .” أنزلت الماء والملح على وجنتيها. كانت ترتدي رداء نومها الأبيض. بشرتها لم تكن بيضاء أو سمراء أو سوداء، كانت صنيعة سان آرابيا، كانت هجينة لا تعرف عن وطنها إلا اسمه. لم تكن إلا بجعة مهاجرة للأبد. انسدل شعرها على أعالي نهديها، سقطت شعرة، وضعت يدها باحثة عنها ولم تجدها. الشعرة خططت باحتراف لهذه اللحظة لأن هذا حلمها. نزعت رداءها الرفيع، وفكرت فيه. “هذا هو أجمل جسد، أحبك!” سمعت صوته المصطنع.
 “خطيئة . . . خطيئة . . .” سمعت صوت والدتها، ثم جفّفت الماء والملح على وجنتيها بأصابع يديها.
انتقلت الأصابع الملائكية إلى أسفل.
“أرغبك . . . أرغبك . . .” سمعت صوته. أغمضت عينيها وانقبضت عضلات فخذيها.
يصل نقيب الشرطة مع مساعده إلى المركز. السيد حميد يشتم في المقعد الخلفي. السيد حميد يشتم نقيب الشرطة. السيد حميد يشتم الحظ . . .
ترجل الشرطيان من السيارة وتركا السيد حميد. شاهدا الدماء، الأحشاء، الجسد الشاحب. تسللت أدخنة الجحيم الهادئة إلى رئاتهم. سحب الشرطيان مسدسيهما، السيد حميد في السيارة يعتريه الرعب، حاول الحفاظ على رباطة جأشه، حاول فتح الباب، لكن دون جدوى. السيد حميد يلعن الليل. تقدم الرجلان إلى الباب، دخلا بتأهب، الذعر يلتهم أرواحهما على مشهد الجثثين. سيكونان خلال لحظة بلا أرواح . . . السماع هو الحياة.. تعبر الرصاصات من فوهات الموت المعدنية للسبعة.
. . . تقع الجثث.
. . . . تُقطع الاتصالات.
. . . تسقط سان آرابيا.
 ليسوا سبعة . . . هم بقيمة ألف وحش.

هذه بداية الفيلم. في الصفحات التالية تسيطر العصابة على القرية، ويستعبدون أهلها للتنقيب عن الذهب في الجبل. لا أحد من أهل القرية يعرف أنه هناك أن هناك كنوزاً مخفية في باطنه. خلال تلك الفترة تقتل العصابة حبيب العربية ومجموعة من المعارضين من بينهم رجلا دين ورجال عائلات الشرطة المغدورين وتعرض جثثهم في الشارع. حبكة كلاسيكية. لا يذكر كاتب النص لورينزو لابومبا الزمن ولا المكان بالتحديد، ما عدا أنها بالقرب من الحدود المكسيكية جنوب الولايات المتحدة.
تجتمع العصابة مع زعماء القرية ويعرض زعيمها عرضاً لا يستطيعون رفضه، ليس بسبب الخوف فقط، الطمع لعب دوراً. سلام بطعم الخوف لغرض تشريع الاستعباد والظلم. نحن نحمي القرية ونأخذ ثلثيّ الذهب والباقي نوزعه على القرية، هذا كان العرض. زعماء القرية وافقوا عليه، أما العمدة فرفض ذلك ليسقط رأسه الدامي على الأرض وسط خطابه الناري في الاجتماع. الطلقة أتت من الخلف. 
يُنصب زعيم العصابة كنقيب جديد للشرطة ويعين أعوانه كمساعدين له. في غضون أسابيع تتحالف مجموعة مجرمين محليين مع العصابة وينشئون قوة دفاع عن القرية لحماية المنجم ومخزن الذهب في المدينة من الهجمات المتوقعة من العصابات الصحراوية العابرة للحدود. يقود هذه القوة جوني الأعمى، عضو رئيسي في العصابة والملقب بأسرع مسدس في أرض العراء.
يُرغم زعماء القرية على تنصيب زوجة زعيم العصابة كعمدة جديدة للقرية. مع مرور الوقت في القصة تستنتج أن زعيم العصابة لم يكن من ذلك النوع من الأشرار، فالقرية صارت غنية، والطعام صار وفيراً، والملابس الجديدة ملأت المتاجر، واللحم في كل المنازل. نساء القرية أنشأنا نوادي واستطعنا شراء ما يردن، جاءت المومسات وفُتحت دور بغاء جديدة، المحلات التجارية ازدهرت وازداد عددها أيضاً، دور العبادة للعرب والزنوج والبيض تم صيانتها بالكامل، الجميع كان مرتاحاً في عبادة الدين الجديد. كان الولاء المطلق هو الثمن فقط. لكن الأمور لم تسر على ما يرام.
في إحدى الأيام عادت العربية مع والدتها للقرية، كانوا قد هربوا بعد مقتل حبيبها إلى قرية صغيرة بالغرب. أرسل عمها السيد حميد إليهم للعودة، كل شيء على ما يرام، الذهب في كل مكان. بعد عودة العربية بأيام يشاهدها جوني الأعمى في السوق مع والدتها. لا يصدق جوني الأعمى ما يراه بعينه الواحدة.  يقع على أنفه في غرام العربية، يطاردها ويتغزلها في السوق، تبتسم العربية، ويقرر جوني التقدم ليدها في الليلة ذاتها. لكن ما لا يعرفه جوني أن الزعيم وضع عينيه عليها أولاً، وقع في حبها هو الآخر والسيد حميد كان في اللحظة نفسها في مكتب الزعيم يوافق على طلب زواج الزعيم بابنة أخيه الميت.
عندما سمع جوني عين واحدة ما حدث تشاجر مع الزعيم، اضطربت المنظومة، وبدأ الصراع بين القوى. أما العمدة الجديدة فلا يعجبها الأمر، الزعيم حر فيما يملك، هذه إحدى القوانين الجديدة، لكن هناك شيء مختلف في هذه الفتاة. بعدها بيوم تسمع العمدة عن شجار جوني الأعمى مع الزعيم، فترسل في طلبه. يتآمران على الزعيم، ولكن عليهم أولاً قتل الأربعة أوفياء: المسدس السحري كلفن، الدب الدموي، بندقية جونسون، بلاك سنيّك، ثم الزعيم.  وبعدها يسيطرون على القرية كلها ويفضان الاتفاق بالكامل، كل الذهب أفضل من ثلثيه، يتفق المتآمرون. كان هناك شرط واحد لجوني الأعمى وهو الزواج من العربية. أرادت العمدة قتلها في البداية لكنها كانت تعلم أنها غير قادرة على السيطرة على القرية دون جوني ووحدته. فتوافق على شرط جوني غير راضية. في تلك الليلة يتم القضاء على الأربعة أوفياء، قوة الدفاع التي دربها جوني الأعمى تتكفل بالمهمة، ولكن ليس دون خسائر في الأرواح. يشك الزعيم أنه هناك مؤامرة تحاك ضده عندما يختفي الأربعة، ولكن بعد فوات الآوان. يتحداه جوني الأعمى في مبارزة ويقتله أمام أهل القرية، ثم يأمر جماعته بشنق العمدة والفرديّن المتبقين من العصابة واللذين تحالفا معها.
تتغير القرية تدريجياً، تتغير إلى الأسوأ. بعد زفاف العربية بأسابيع يظهر رجل أشقر في القرية، المنقذ الأمريكي، ابن قس الدين القديم الذي شنقوه في بداية الحكاية، لقد عاد من الحرب في الشمال. يقضى الأشقر على زعماء جماعة جوني واحداً وراء الآخر، ثم يقتل جوني الأعمى، وينقذ العربية ويقعان في الحب منذ النظرة الأولى، ويحرر القرية بثورة عارمة.
ولكن هذه ليست النهاية.
بعد تحرير القرية، ينصب الزعماء الجدد الأشقر كنقيب شرطة جديد، وفي ذات اليوم يقام زفاف هائل للأشقر والعربية. يمضي عام كامل بعدها وتستمر القرية في التنقيب على الذهب لكن هذه المرة يوزع الذهب بالتساوي بين الجميع تحت ادارة عادلة.  تُنجب العربية ابناً ويقام حفل كبير في اليوم التالي. ليس ابن النقيب الأشقر بل ابن جوني الأعمى والذي أرغم نفسه عليها عدة مرات بعد زواجه منها. ولكن لا أحد يعرف ذلك، الجميع متأكد أنه ابن النقيب. تنتشر عدة أسئلة من نساء فضوليات ولكن يتوقف الأمر عند ذلك. تمتليء جيوب أهل القرية أكثر من قبل، تتضخم ثروات كل بيت، الغرور ينسل لقلوب الجميع، في هذه المرة يتركون بيوت العبادة، يكثر الفساد بين الرجال والنساء والأطفال، تكثر بيوت البغاء والقمار والحانات أكثر من ذي قبل، الجميع صار ثرياً، الجميع صار حراً، الجميع سواسية. لكن هذا لا يوقف المشاكل.
يعثر أحد المنقبين (مساعد نقيب الشرطة) في يوم ما على قطعة أثرية غريبة، قطعة اسطوانية مزينة بألماس أسود، تغمر المساعد مشاعر غريبة. يتوقف عن الذهاب للعمل، ويتوقف عن النوم، ويقضى وقته مع هذه القطعة كل يوم، كل ساعة، كل دقيقة. القلق يعتري زوجته فتقرر اخبار الأشقر. يزور الأخير منزل المساعد ويرى بنفسه القطعة التي أسرت مساعده. فتشتعل عيناه سواداً، وتسري الدماء في جسده بحرارة لم يشهدها من قبل. يجب أن يتحصل عليها.
بعد ليالٍ من مقاومة رغباته يقرر الأشقر أخيراً سرقة القطعة، يتسلل إلى منزل المساعد لكنه يجده مستيقظاً. يتشاجران، يقول له المساعد أنه كان يعرف أنه سيأتي لأجلها، لقد أخبرته القطعة العظيمة بذلك، همست له وفتحت له باب نبوءة المستقبل. يحاول الأشقر إقناعه بتسليم القطعة قبل فقدان عائلته وعقله، دون جدوى. يتشاجر الرجلان في النهاية ويُفلت آخر نفس من رقبة المساعد. تدخل زوجته من الباب وترى زوجها مزرقاً ومتمدداً على البساط، والقطعة في يد الأشقر، تزعق مثل حيوان بري علقت قدمه في المصيدة. يحاول إسكاتها، دون جدوى، فيطلق عليها النار. يستيقظ ابنهما المراهق بعد سماع زعيق والدته، يحاول الأشقر شرح الأمر، دون جدوى. ينقض المراهق عليه، فيطلق النار على الجسد المندفع قبل أن تصل يداه إلى رقبته. يأخذ الأشقر القطعة المسحورة ويضعها في حقيبته، ويقرر حرق المنزل لإخفاء أثار جريمته. لا أحد يشك في شيء.
تواجه العربية والأشقر مشاكل في المنزل. يتلاشى الحب بينهما عند اكتشافها علاقته مع إحدى المومسات في بيت البغاء الجديد. تواجهه ذات ليلة، يتشاجران، يصرخان، وفي لحظة غضب تخبره أن هذا ليس ابنه. يكشر ويضحك، يمد ذراعيه على جانبيه ثم يمدهما فوق رأسه وينظر إلى السماء من بينهما. القطعة كانت في يده اليمنى. يستمر في الضحك. يتملكها الذعر. ولكن الأشقر لا يفعل أي شيء، في صباح اليوم التالي يختفي من المنزل. بعدها بأيام تتكرر الحادثة مع عدة رجال من القرية.
يبحث الجميع عنهم، دون جدوى، كلهم يعودون خالين الوفاض.

في يوم ما من أيام الصيف الحارة، بعد أشهر من اختفاء أربعين رجلاً، يظهر الأشقر في المقدمة ومعه الرجال المفقودين وراءه، حليقي الرؤوس ومرتدين أردية صفراء واسعة. القطعة المسحورة في يده. يتجمع الناس حولهم مبتهجين بعودتهم، ثم يعلن الأشقر من وسط القرية أنه بُعث من السماء لجلب السلام والطهارة، لنشر التقوى والحب في العالم، ولأجل تطهير هذه القرية من الشر.
وفجأة يستل مع تابعيه أسلحتهم ومدياتهم من تحت أرديتهم الصفراء، ويبدؤون في إطلاق النار، يقتلون كل من يمسكون به ويحرقون القرية بالكامل ويستولون على كل الذهب. تسمع العربية صوت الصراخ والرصاص، ودوي باب المنزل الذي أغلقه السيد حميد الهارب. الجحيم قد حان، نحن مخطئون، نحن نستحق ذلك، يقول السيد حميد ويبدأ في الصلاة.
يحاول الناس الهرب، ولكن سرعان ما يتحولون لجثث منبسطة مثل صخور قبيحة متجذرة في الأرض. نهاية العالم الآن. تحاول العربية اقناع عمها بالهرب معها، لكن دون جدوى، السيد حميد يصلي، يهتز ويجلجل، ويشخر أدعية بسرعة فتتحول إلى كلمات غير مفهومة مرسلة إلى سماء غير معلومة. تخرج العربية من الباب الخلفي للمنزل وتهرب مع ابنها. لكن الأشقر في ذيلها، مع اثنين من أتباعه.
يصلون إليها فتطلق النار، ويطلقون النار. تتمكن من إرداء التابعيّن قتلى، لكنهم يصيبونها في بطنها. الإصابة قاتلة، لكنها تقاوم الجحيم. لا يعرف الأشقر أن العربية قد تعلمت أن تضع سلاحاً في أكثر الأماكن رغبة، إنها تضعه مربوط بقطعة جلد على داخل فخذها. يوجه النقيب المسدس على رأس ابن العربية، “سأقتله أولاً، هذا ابن الشر”، يقول. ولكن العربية المنبسطة على الأشواك والحصى تسبقه وتسحب مسدسها وترديه قتيلاً. تنهض العربية، حرارة الدم تعطيها قوة رهيبة، تربط بطنها برداء الأشقر، تتأوه وجعاً ويتراجع رأسها للوراء فتحدق بها السماء، وهي تحدق بدورها للسماء، ثم تسمع وقع معدن على الأرض، القطعة المسحورة تلمس أصابع قدميها، تحملق فيها، تلمع القطعة، ويعكس نقاء الألماس الأسود ضوء الشمس، فتشعر العربية أنها لا تقهر. خلال تيهها في المشاعر المريحة ترى ظل ابنها الذي يكسر هذه الاستمرارية، تشاهده ينزل على ركبيته ويحمل القطعة ويضعها في يدها. كانت تود أن يتركها تائهة في الراحة. لكن العربية تفيق، تضع القطعة المسحورة في حقيبتها، وتبدأ في السير مع ابنها إلى الشمال وورائها نهاية العالم القديم.

تنتهي القصة على هذا النحو. وقعتُ بحب النص. لا معلومات في المكتبات عن لورينزو لابومبا. كنت قد خرجت من ثالث مكتبة رئيسية في لوس أنجلس، كان ذلك في العشية. لم أكل شيء منذ الصباح ماعدا كأس شراب وشطيرة. أخذت تاكسي وذهبت إلى الشركة لمقابلة كريستينا، إنه منزلها الأول، وأحياناً تنام فيه مع ابنتها.
دون قراءة النص، أخبرتني أن هذا مستحيل، لستُ أول واحد. هذا من نصوص الليمبو، نص منحوس في كومة عشرات الألاف من النصوص والمشاريع الغير مكتملة في المدينة. قالت كريستينا أنها تحصلت على نص العربية والأشقر قبل اعتزالها التمثيل بعام.
“كان الاستوديو مدين لي بالمال، ولكن بسبب إفلاسه لم يتمكنو من الدفع، فقمت أنا ومجموعة من الممثلين والمخرجين وإلخ برفع قضية على الاستوديو، ومشطنا كل شيء تقريباً، أنا تحصلت على ربع ممتلكاته، من بينهم 30 نص يحوي فيهم النص الذي أمامي الآن،” قالت.
أنا لم أسأل كريستينا لماذا اعتزلت التمثيل في أية مرة، ولكنني استطعت اقناعها بالسماح لي بإخراج الفيلم ولكن بميزانية منخفضة، وخلال فترة زمنية لا تتعدى الخمسة أشهر وإلا ستحرص على ترحيلي. ولكن قبلها كان يجب عليّ مقابلة المنتج. أخذت عنوانه من كريستينا لأنني لم أستطع الانتظار لصباح اليوم التالي.
أمام العمارة توقف تاكسي الرجل الهندي الذي يقوده رجل باكستاني فترجلت ومعي النص. بطني تهمس، ولكن لا يهم. وقفت أمام باب الشقة الخامسة وسمعت صوت رجل وامرأة من الداخل. طرقت الباب مرتين. ساد الصمت لكن لم يفتح لي أحد الباب. طرقت مرة ثانية، ثم سمعت امرأة تسأل من وراءه عن هوية الطارق. أخبرتهم من أنا. لم أسمع اجابة. فانتظرت لدقيقة أو دقيقتيّن، وطرقت الباب مجدداً، في هذه المرة فتح الباب.
كان بديناً ووجهه أملط، في الوهلة الأولى لا ترى كرشه وتنبهر بحواجبه الصلعاء. لم تكن هناك شعرة واحدة على وجهه، أم شعر رأسه فكان أحمر اللون. كان الرجل يرتدي قراطاً فضياً في أذنه اليسرى وقميصاً أبيض، شورت جينز واسع بجيوب جانبية. كان حافيّ القدميّن، وعلى بطن ساقيه ندبان متشابهان اسطوانيّ الشكل يمتدان لكاحليه، وعلى يده وشم الدين الجديد. بدا لي مثل الطفل الصغير الذي استيقظ صباحاً ليجد نفسه في الستين. أما رائحته فكانت مزيجاً من النتانة والكحول وقطن أعقاب السجائر المبتلة. أحببته. هذا رجل لا يمكن انقاذه.
حدقت للمسدس في حزام سرواله، وعندها سمعت صوته.
“أنت، أنت، إذاً أرسلتك كريستينا؟” قال.
“أجل، بخصوص هذا،” أعطيته النص.
“هذا مستحيل، ألم تقل لك؟” قال.
“مهما يكن،” قلت.
“نبدأ من الغد؟” قال.
قبل أن أجيب، دخلت امرأته السوداء إلى الرواق أينما جلسنا بجانب الباب، كانت طويلة ونحيلة وتتدلى سيجارة من شفيتها. أياً يكن، بدلتها الرسمية الرمادية لمّحت لي أنها أعقل منه.
“حسناً، غداً،” قلت.
“الآن، عليك الرحيل،” قال وانحنى لأسفل الكرسي ومد يده، أمسك بحذاء أسود، ورماه على المرأة السوداء. كرشه أشرق من تحت قميصه، كان مثل شمس في منتصف غروب.
ذهبت المرأة.

في اليوم التالي، مع الساعة السابعة صباحاً سمعت طرقاً على الباب، كان هو، بنفس الملابس ماعدا من معطف أزرق طويل يصل إلى فوق ركبتيه تقريباً. كان يحمل في يده حقيبة رياضية، وفي يده الآخرى كيس ورقي تظهر منه رأس زجاجة تتنظر ماذا سيحصل، أو على الأقل هذا ما اعتقدت أنها تفعل.
“ليس لدينا خمسة دقائق،” قال وسار إلى المطبخ في وسط الشقة الصغيرة، “ارتدي أي شيء، أنت فنان الآن ويحق لك ارتداء أي شيء.”
أخذ كأسيّن ورقيّن من حزمة كؤوس ورقية عليها صورة راقصة شرقية. كل شيء في مطبخي ورقي، الأواني، الكؤوس، كل شيء. ما عدا من قدر معدني كبير أطبخ فيه البيض، اللحم، أي شيء في الحقيقة، أعتقد أنني أغسله مرة في الأسبوع، وأحياناً لا أتذكر أين وضعته.
“بصحتك،” قال.
شرب الرجل الكأسيْن.
“أنا جائع،” أخبرته بينما ارتديت حذائي.
“أنا أيضاً،” سكب الرجل كأساً ثالثة. كان يمضغ شيء صغيراً أخرجه من جيبه.
“هؤلاء الصغار يجعلون اليوم قصيراً، ويومنا طويل،” قال.
“أنا جائع، دعني احضر شيء قبل طلوعنا،” قلت.
“عندي مكان جيد، هو داخل المكان الذي سنذهب إليه،” قال، “سيارتي والعة تحت، هيا، هيا، أسرع.”
ركبنا السيارة التي كانت مركونة على جانب الطريق. وجدنا كوب قهوة ورقي مرمي على النافذة الأمامية.
“لا أعرف ما المشكلة في هؤلاء الناس!” قال وشغّل المساحات الأمامية.
قدنا خارج المدينة، كنا في طريقنا إلى حانة – مطعم في الضواحي. أخبرني الرجل أنه في هذا المكان سنجد ضالتنا للفيلم، وبثمن بخس وبموهبة مهملة.
“أين تجد هؤلاء هذه الأيام؟” قال، “تجدهم في الأماكن المنسية، في قمامة الزمن.”
طلبنا صحن الافطار المميز وزجاجتيْ بيرة وفطيرة كرز. رأيتهم جالسين أمام البار، عدة تائهين، ذكروني بعزاء متشردين، أقصر عزاء يمكنك مشاهدته في حياتك. البعض منهم كان يرقص، بالأحرى هم فقط خمسة راقصين: رجل في منتصف الثلاثينات – ربما – بعين واحدة وشعر أسود متموج إلى كتفيه، وامرأة بيضاء بعينيّن رمادتيّن، طويلة وممشوقة مثل فستان ممزق لعارضة أزياء، وشاب أشقر مفتول العضلات وعلى الأرجح هارلي ديفيدسون فات بوي أمام الباب ملكه. كان الثلاثة يتمايلون في وسط المكان. أما في الزاوية فشاهدت عجوزيّن طويليّن يحضنان بعضهما البعض ويتمايلان ببطيء، كفا الرجل كانتا على ظهر المرأة العجوز، وعندما تمتد إلى مؤخرتها وتقبضها، تأخذ يديه وتردهما على ظهرها. ظننت أن ذلك كان لطيفاً.
“اولئك الخمسة هم المختارون،” قال.
“هل أنت متأكد؟” قلت.
“أنت تريد خمسة ممثلين رئيسيين، صح؟” قال.
“نعم، لكن هؤلاء؟ ماذا يعرفون عن التمثيل؟” قلت.
“رزمة عشرة لكل واحد وستشاهد بنفسك،” قال.
وكان محقاً. خلال ثلاثة أيام استطاع فيتالو ليا، هذا اسمه – روائي لمرة واحدة، مخرج لمرة واحدة، وعاشق عظيم، والآن منتج بدوام كامل من أجل شراء الطعام وكل ما تريده الزوجة – تحضير كل شيء. وهكذا بدأنا التصوير، ولكن كان ينقصنا شيء واحد فقط.
“والسيد حميد؟” قلت.
“اوه، عاد اليوم إلى منزله، سنزوره الليلة.” قال.

رحلنا من موقع التصوير قبل غروب الشمس. أعتقد أن فيتالو كان ثملاً، لكنك لا تعرف بالتأكيد مهما تلاحظ. لا مزيد من الخوف، أنا في الحب. كان يغني الراديو. وصلنا في الليل، الإطار ثقب في الطريق ولكن الشرطة ساعدتنا. راودهم الشك أنه فيتالو كان ثملاً لكنك لا تعرف بالتأكيد مهما تلاحظ، فتركونا نذهب. وجدنا الباب مفتوحاً على مصراعيه، كانت هناك قطة بيضاء بجانب الباب، رأيتها ككلب حراسة، ولم أكن مخطئاً، فقد هاجمت فيتالو لكنه ركلها وعندها رأينا السيد حميد والبندقية في يده. أخرج فيتالو سلاحه. أنا لا أريد الموت، في تلك اللحظة اكتشفت ذلك، قبلها كنت في حالة يومية من لا بأس من الموت، أنا لن أركض بعيداً من الظلام. ضحكا.
“بدين نتن،” قال الرجل.
“قطتك سخيفة، أتعرف ذلك؟” قال فيتالو.
“من هذا؟” سأل الرجل.
“أنا المخرج؟” قلت. مخرج ماذا، لا أعرف لكنني فهمت أنني دخلتُ إلى اللعبة الآن.
“تأخرتم ساعة،” قال الرجل.
“إنها الشرطة، الكلاب لا تأخذ عطلة،” قال فيتالو.
كنت أحمل في يدي كيس ورقي به زجاجتا جيم بيم وأربعة علب سجائر اشتريناها في تحفيضات، الستة علب الآخرى تركناها في السيارة. وأونص من الحشيش اشتراه فيتالو من رجل صيني في كنيسة كورية كاثوليكية. المسجد كان بجانب الكنيسة، لكنهم لا يبيعون شيئاً، الوقت مبكر، قال فيتالو.
في تلك الليلة أخبرنا الرجل في أول عشرين دقيقة – والتي سبقها صمت لمدة عشرين دقيقة وأحاديث قصيرة بينه وبين فيتالو –  أنه لن يعود للتمثيل أبداً. رمى فيتالو رزمة عشرة على الطاولة الزجاجية. حدق الرجل فيّ، ثم أتى دور فيتالو، ثم أتى دور بندقيته، ثم أتى دور قطته. حدقنا في تحديقه وحدقنا في الأشياء المحدق فيها، بما في ذلك نحن. نهض الرجل من الكرسي، فأخرج فيتالو من جيبه رزمة خمسة ورماها بجانب العشرة. عاد الرجل للجلوس ولعبة التحديق. توتر الجو، هناك جريمة في الدخان النتن. نهض مرة ثانية. في هذه المرة لم تُرم رزمة ورق على الزجاج، في هذه المرة ذهب الرجل للحمام ومعه النص.
نظر فيتالو إلى وجهي. كنت مختبئاً في الدخان. هناك لم أشاهد شيئاً، لم أسمع شيئاً. لكنني كنت أتحدث مع أحد وأتحدث حديثه بأن تحت نهر النيل منجم ذهب. تبولت عدة مرات في النيل قبل الجفاف العظيم أعواماً مضت. وكنت أتحدث حديثه بأن حوريات النيل التي أخبرتني عنهم أخت صديقي أرسلوه إليّ. تبولت عدة مرات في النيل. وفي جميع المرات كانت الشمس ورائي. عاد الرجل، اسمه مراد الدين هردبشت. وهو ممثل أمريكي.
لو شاهدت مئة فيلم به شرير شرقي، فلقد شاهدت مراد الدين هردبشت، إنه الشرير الذي يموت دائماً، أحياناً في البداية، أو المنتصف، أو النهاية. في التسعينات حينما كان الممثل دمية – هو مازال دمية لكن محرك الدمى لم يعد طفلاً – صعد نجم مراد الدين هردبشت، حتى أنه اسمه تداول لدور في سينما جيمس بوند، لكن السجن كان أسرع. وجدته الشرطة فوق جثة.
ما جري كان حادثة، الشرطة كانت تعرف، هردبشت كان يعرف، المحكمة كانت تعرف، الجثة كانت تعرف، أهل الجثة كانت تعرف، زوجة هردبشت كانت تعرف، الحانات كانت تعرف، بكرة الأفلام كانت تعرف، القطط كانت تعرف، ولكن الجميع كان يعرف أن هردبشت سيدخل السجن. لم يكن خطأه أن الضحية تسلل لمنزله وحاول سرقة جائزة شرير العام في السينما، في نفس اليوم الذي اكتشف فيه هردبشت أن زوجته تخونه مع مدير الاستوديو، في نفس اللحظة التي تفرقع فيها الأمفيتامين والويسكي والكوكايين في دماغه، في نفس اللحظة التي أمسك فيها هردبشت مسدس تحت ذقنه، في نفس اللحظة من الثانية التي تذكر فيها وعد صديقه بسرقة الجائزة في أسوأ أيام حياته.
تسعة أعوام مثل الفكة المفقودة في جيب الجاكيت. وعدوه بأن يخرج في ستة، ولكن ليس خطأه أن محامي الإدعاء مات في المكسيك ومعه وعد هردبشت. عموماً التسعة أعوام أصبحوا عشرة ولا أحد يعلم كيف. عشرة أعوام ليسوا مثل فكة مفقودة.
عاد هردبشت، وجلس في نفس المكان. وضع النص بجانب البندقية، ثم قال: “حسناً، سألعب السيد حميد.”
عندها رمى فيتالو رزمة عشرة فوق الزجاج، واكتمل العدد.
وصلنا إلى نصف الفيلم، مشهد مقتل جوني الأعمى كان ملحمياً. لكن واجهتنا مشكلة. لم تكن الميزانية التي اعتقدت أنا وفيتالو، والجميع في الحقيقة أنها ستوقفنا. لا، ليس هذه، الفتش الذهبي جنّن الجميع، وهذا الجنون غمر أصحابه بمشاعر رائعة. أول عراك حقيقي –والذي انتهى بسأقتلك مع أمك وأغتصب جثث أطفالك – حدث بين مساعد الأشقر (شاب عريض من قرية صغيرة وهذا رابع فيلم له) وأريف خورنيان وحبيبها أو حبيباها، وذلك لأن أريف أرادت أخذ الفتش الذهبي معها للمنزل ذلك اليوم والرجل رفض. اعتقد فيتالو أنه مصنوع من ذهب حقيقي ولكن إن كان من ذهب حقيقي فلماذا تركوه مع المعدات من المحاولات السابقة؟
اوه، المعدات السابقة للفيلم أرسلتهم لنا كريستينا، كانوا في مخزن قديم جنوب المدينة. الأزياء، المسدسات، البلاستك المطلي باللون الأصفر (الذي أعدت طلائه مع فيتالو) وأعتقد كل ما يلزمنا، ما عدا شيء أو شيئين كانوا في حاجة ماسة للتجديد.
“الذهب الحقير ثقيل، شكراً لمن صنع النقود، يسهل حملها،” قال فيتالو.
الشيء الوحيد الذي كان محفوظ جيداً ومحتفظاً بلونه هو الفتش الذهبي. لا أعرف لماذا أدعوه فتش ذهبي أصلاً. هو أشبه بجائزة ما، ولأقول الحقيقة أشبه بالعضو، أو بأفعى، ما الفرق؟ كان أسطواني الشكل طوله ثلاثون سنتمتر أو أقل، وبه خمسة ألماسات سوداء، اثنين في كل جهة بفراغ بينهما، وواحدة كبيرة في منتصف قوس سميك في نهاية جهة، أم نهاية الجهة الآخرى فكانت أقل سمكاً من العمود وأشبه بقبضة رضيع. لا توجد معلومات عن الصنع، ولكن الشيء قبيح.
“هل تعتقد أنه ذهب حقاً؟” قلت.
“لا تقلق، سألت اليهودي قبل يومين،” قال.
“متى أخذته أصلاً؟” قلت.
“قبل يومين،” قال.
“اوه، عندما نهضت في الصباح كان في جانبي، كيف فعلت ذلك يا فيتالو؟” قلت.
“قبل يومين، أخذته وذهبت وأرجعته،” قال.
“ماذا قال اليهودي؟” قلت.
“بصق وشتم بالعبرية،” قال.
“تتكلم عبري؟” قلت.
“كنت، قبل يومين،” قال.
إلا أن المشاكل الجدية بدأت عند مشهد قتل المساعد وعائلته. كان المشهد واقعي لحد أن فيتالو تدخل وقطع التصوير. تشاجرت مع فيتالو بسبب ذلك. أحببت واقعية المشهد، كانا يتشاجران بجدية، وهذه الأمور هي التي تُعطى للفيلم سينمائيته. فيتالو اعتقد حقاً أن الأشقر سيقتل المساعد وخاصة عندما أمسكه من الخلف بينما كان صياح الأخير يهفت رويداً رويداً: “أرجوك، لا، أرجوك لا.”
ولكننا أكملنا المشهد، بعد أن طردت فيتالو.
بعدها تشاجر المساعد مع أريف وحبيباها الأشقر وجوني، وفي هذه المرة كان الأمر جدياً. أمسكت أريف بالمساعد من ظهره وحاولت خنقه بذراعيها الطويلتيّن، وكان المساعد يصرخ ويبكي: “أرجوك، لا، أرجوك لا.”
في تلك اللحظة أمنت بسحر الفتش الذهبي، كان على الأرض تحتهم وكان يحدق في وجهي. حاولنا إيقاف الشجار، ولكن دون فائدة، إلى أن سمعنا طلقات رصاص، كان فيتالو يقف من بعيد ويطلق الرصاص من مسدسه نحو السماء. سار وأطلق النار، إلى أن وصل.
“يجب علينا التخلص منه،” همس في أذني.
“ليس الآن، نحن على وشك الانتهاء،” قلت.
“متأكد؟” قال.
“أجل،” قلت.
“هذا مسدسك،” قال.
أخرج فيتالو مسدساً صغيراً من جيب معطفه الأزرق وأعطاه لي.
“أنت تعرف ماذا تفعل به إذا تكرر الأمر،” قال.
“سأقتلهم جميعاً،” قلت.
“لا،” قال، “أطلق النار في الهواء فقط.”
أعتقد أنني أطلقت قرابة العشرة أو أكثر رصاصة من ذلك اليوم. الأشقر وجماعته كانوا يتشاجرون في معسكرهم حول من يتحصل على الفتش الذهبي. واحد من الزنوج، عجوز قصير وبدين بأفرو أكبر من رأسه ضُرب من قبل ثلاثة من أتباع الأشقر لأنه حاول سرقته. كان مجنوناً كما علمنا لاحقاً من ابنته.
“أبي مريض،” قالت، “كيف أقنعته بالمشاركة في هذا الفيلم السخيف؟”
“لا أعرف،” نظرت لفيتالو.
“وجدته في الشارع وعرضت عليه العمل،” قال.
“تعرض وظائف على كل من تجدهم في الشوارع؟” قالت.
“أجل،” قال.
شتمتنا وأخذت والدها ورحلت من الموقع. كان والدها يصيح وهي تجره إلى السيارة: “إنه مفتاح مركبتي الفضائية، أرجوكِ دعيني، أرجوكِ يا ابنتي.”
قررت بعدها إبقاء الفتش عندي، حولي دائماً، حتى أنني ربطته بسلسلة حديدية في حزام سروالي. أصبح عند فيتالو مسدسان حينها، وأنا صار عندي مسدس واحد. كنا واقفين أمام المنجم نصور أحد المشاهد عندما مرت مرآة أمامنا – لا أعرف متى استخدمنا واحدة – ورأينا أنفسنا. أحببنا شكلنا، شعرنا بالويسترن. كنا حينها كلنت ايستوود.
أخبرني فيتالو بعدها بأن ما يحدث مشابه لما حدث في نوفمبر 1987 عندما حاول مخرج إيطالي تصوير الفيلم. لم يقل أية مرة كانت، لكنه أخبرني أن نخبة جيدة من الممثلين كانوا في العمل، من الدرجة الأولى، لا يقبضون على عشرة آلالاف دولار أو عشرين أو خمسة وعشرين، أقل واحد ربع مليون على أقل تقدير. يقال إن المخرج الإيطالي خنق عشيقته للموت بعد محاولتها سرقة الفتش والتي كانت هي نفسها ممثلة دور العربية، ثم حاول قتل نفسه. لكنه هرب بعد دفع الكفالة، عاد إلى إيطاليا، ولكنهم لم يجدوه هناك، ولا أحد يعرف أين ذهب. لكن يقال إنه رومان بولانسكي يعرف.
“على الأقل يمكننا الاعتماد على هردبشت،” قلت.
“عيناه المجنونة، تخيفني يا رجل،” قال.
كان محقاً. في الاستراحة قبل أخر مشهد شعرت بشيء معدني على مؤخرة عنقي، كان رأس سكين، وكانت اليد التي تمسكه هي يد هردبشت.
“هاته وإلا سأقتلك،” قال يصوت هادئ.
“اوك، اهدأ، هو لك،” قلت.
لم أستطع اعطائه. ما لم أقله لأحد ولا حتى فيتالو عندما سألني عن ثأثير الفتش الذهبي عليّ، هو الآتي: أنا مجنون به.
بدأ الأمر كله قبل مشهد ظهوره في الفيلم. كنت نائماً وهو بجانبي، نسيت أنه كان بجانبي مرة واحدة. في تلك الليلة نمت كما لم أنم في حياتي كلها. دون أحلام أو كوابيس، شعور عظيم. وعندما استيقظت صباحاً شعرت كأنني قد استيقظت في حقل من الغيوم والأزهار والحميمية، كنت نشطاً، مشرقاً، وشعرت أنني أستطيع فعل أي شيء، ليس كأنني عدت للعشرينات دون تدخين وبطعام جيد وبجسد مفتول، ولكن كأنني صرت خالد، منيع، جميل، قوي وملائكي.
الشخص الوحيد الذي لاحظ ذلك هي ممثلة دور والدة العربية، امرأة في بداية الأربعينات، ممتلئة، عارمة الصدر، ابتسامتها حلوة، ووجهها مدور. كنا معاً قرابة كل يوم، في أية فترة استراحة كانت تأتي إلى قمرتي أو نلتقي في الحمام، أو في المنجم بين البلاستك الذهبي، أو سيارة فيتالو. وفي كل مرة كان الأمر أخَّاذ، لأنني كنت أظن أنني أستطيع الاستمرار عليها للأبد. كنت نشطاً دون منشطات.
“ما الذي تأخذه لتكون هكذا،” قالت، “أرجوك أعطني منه!”
اكتشفت عندما وصلنا إلى مشهد سرقة الفتش أنه هذا هو سبب تغيري إلى المثالية. حاولت التحكم بنفسي عندما رأيتهم يتشاجرون عليه، أنا أردته، ولم أعرف هذا إلا عندما رأيت الأخرين يريدونه أيضاً. ربما العالم كله بلا قيمة وربما نحن فقط من يعطيه قيمة. كان الأمر حزيناً.
في الأيام التي تلت لاحظ فيتالو أنني لم أكن بخير. واجهني عدة مرات، وفي إحدى الليالي كنا جالسين معاً في شقته، نشرب ونشاهد ثلاثة أفلام وسترن على التوالي. الفتش كان معي. طلب مني فيتالو رؤيته، امرأته كانت جالسة معنا تقرأ وتكتب، لكنها لم تكن في الحقيقة معنا. أخرجته من حقيبتي وأعطيته لفيتالو، حملق فيه لدقائق ثم نظر إلى امرأته ورماه لها. أمسكته بخفة، وركضت إلى غرفة النوم وأغلقت الباب.
أخر شيء أتذكره أنني كنت أمام باب الغرفة، سكين المطبخ في قبضتي، وأنا أصرخ: “أرجوك، أرجعيه لي، سأقتلك.” استيقظت في حوض الغسيل في الحمام. قماشة سوداء مربوطة على فمي، ويدي وقدمي مربوطة بشريط لاصق. استطعت التخلص من القماشة على فمي، لم أصرخ، لأنني كنت أفكر أنه إذا صرخت سيعرفون أنني استيقظت وسيأتون لتقييدي من جديد أو سيقتلونني. خرجت من الحوض وسقطت على وجهي، بدأ الدم يسيل من أنفي، لقد كسرته السقطة. لكنني لم أستسلم، استطعت الوقوف على قدميّ وعض الشريط اللاصق على يدي ثم تحرير قدميّ، عندها فقط رأيت الورقة على المرآة، كانت من فيتالو.
“في الأمس حاولت قتل زوجتي، بعد محاولتك قتلي. أنت مجنون. لقد تخلصت من السبب واستبدلتها بقطعة جديدة مطابقة.
الفطور في المطبخ ومعه نصف زجاجة، سأعود في أية دقيقة.”

أعطيتها لهردبشت بعدما هددني مجدداً وشد السكين بقوة أكبر على عنقي. أخذها ووضعها في جيبه. لكن فيتالو وضع فوهة مسدسه على مؤخرة رأسه في ذات اللحظة.
“تريد الموت يا قط؟” قال.
“أنا أستحقها،” قال هردبشت.
“حسناً، سنعطيك إياها بعد نهاية الفيلم، ما رأيك أنت؟” قال.
“لا مشكلة عندي،” قلت.
“أيمكنك الانتظار،” قال فيتالو، “أو يمكنك الموت هنا؟”
“أنا لا أثق بكما!” قال هردبشت.
“وعد،” قلت.
“متى كذبت عليك؟” قال فيتالو.
“اوك، اوك،” قال هردبشت، “إذا كنتم تكذبون عليّ سأطعنكما.”
توقفنا ذلك اليوم، وأكملنا أخر مشهد في الغد، ولحسن الحظ مرت نهاية العالم بسلام. في ذلك المساء أقام فيتالو حفلاً جيداً في الحانة التي وجدنا فيها الممثلين، الجميع كان يبتسم ويرقص، كان هناك شيء غريب في الشراب الذي أحضره فيتالو. هردبشت كان هناك لكنه لم يبق طويلاً بعد أن أعطيناه ما يريد سراً. كريستينا ولوسي كانتا هناك، وسمعت من أحدهم أن ثلاثة من أشهر ممثلي وممثلات هوليوود أتوا للحفلة أيضاً، لكنني لم أشاهد أحداً.
مرت ثلاثة شهور قبل صدور الفيلم، لم يكن فيلماً ممتازاً ولم يكن فيلما سيئاً للغاية، لكن المشاهد الستة الساخنة لعبوا الدور الرئيسي في بيع أشرطة الفيلم، والبقاء بالفترة الليلية لعدة دور سينما درجة ثانية لأشهر. لم نربح كثيراً، لكننا استطعنا تعويض الميزانية بكاملها زائد مثلها كأرباح مرتين. كريستينا كانت راضية عكس توقعاتي. الممثلون لم يهمهم الأمر كثيراً. لقد كانوا راضين قبل الفيلم وبعده، راضين بالتيه الذي يعيشونه كما هو ولا يريدون أكثر.
صار فيتالو المنتج الذي ألجأ إليه دائماً في أي فيلم أقوم بإخراجه، أيا كان. ومع مرور الوقت سمعنا كل ما يمكن سماعه عن الفيلم، وقد أفرحنا خبر أنه ترشح لجائزة ما كأفضل فيلم ايروتيكي مستقل، أفضل حبكة ايروتيكية، وأفضل ممثل مساعد لمراد الدين هردبشت، لكننا لم نفز ولم نتلقى حتى دعوة للحفل.
سمعنا لاحقاً أن هردبشت اختفى من منزله، قال لنا أحدهم أنه عاد للسجن وهذه المرة مؤبد بتهمة الشروع في القتل. آخرون قالوا إن هردبشت غادر إلى المكسيك بعد حصوله على عقد لثلاثة أعوام في مسلسل درامي. لكن في الحقيقة لا أحد يعرف أين ذهب هردبشت، ربما أنا وفيتالو الوحيدان اللذان كانا يفهمان الحقيقة. هردبشت قد مات، ولقد قتله. أين جثثه؟ على الأرجح متعفنة في أكثر الأماكن ظلاماً في العالم. أين روحه؟ هذه رحلت منذ زمن.
أنا لم أسأل فيتالو عما حدث للفتش الذهبي الأصلي. كنت مرتاحاً وهذا ما كان مهماً بالنسبة لي. لكن في يوم ما بينما كنت في منزله – بالطبع زوجته لا تتكلم معي مطلقاً لأنها حسب فيتالو تكرهني وتريد طعني – نشاهد النسخة النهائية من فيلم وحوش الصحراء، ذكر فيتالو الأمر.
“أنت تعرف، لقد بعته،” قال.
“بعت ماذا؟” قلت.
“القطعة الحقيرة،” قال.
“أنا لا أتذكر ذلك،” قلت.
“بعتها بعشرين ألف،” قال.
“من الغبي الذي اشتراها منك؟” قلت.
“رجل هندي قدم إلى شقتي وأخبرني أنه يريدها،” قال.
“وماذا فعلت بالمال؟” قلت.
“اختفى المال،” قال.
“ماذا تقصد؟” قلت.
“أكلوه وشربوه كله،” قال.
“ماذا؟” قلت.
“وأتعتقد أن السعادة بالمجان؟” قال فيتالو وسكب الشراب في كأسيّن ورقييّن عليهما راقصة سوداء. حواجبه الشقراء الجديدة أزعجتني.


صورة الشريط © حيدر ديوه چي