كل حاجة حلوة في روما

1

صحونا في صبيحة 25 يناير 2111، ذكرى عيد الشرطة، وقد وجدنا ميدان التحرير قد اختفى لينهض محله الكولوسيوم الروماني، مبنى الألعاب الأكثر بهاء ووحشية في التاريخ، مع إعلانات عملاقة تغزو فضاء البلاد لفتاة شقراء تلبس رداء فضفاضا وطويلا مثبتا من الأكتاف بدبابيس ومن الوسط بحزام، الزي التقليدي لنساء الإمبراطورية الرومانية القديمة، ومن فمها يصدح شعار ضخم تتبدل ألوانه المبهجة في غنج: «كل حاجة حلوة في روما» ، والذي صار مفتاحا لحملة واسعة تبناها الإعلام.
فهمنا أن الكولوسيوم سيخصص لتقديم عروض يومية لمصارعين، ستبث العروض على الهواء مباشرة، أما الحضور فسيتم اختياره بتذاكر مجانية عن طريق يانصيب قومي، وسُتفتح باب المراهنات للجميع.
«هدية الرئيس لشعبه» ألح مقدمو البرامج والمحللون، فالمصارعة في الحلبات الشعبية، هي لعبتهم المفضلة رغم منعها قانونا، قائلين إن الكولوسيوم قد لا يكون هديته الأخيرة، فما حدث ليس إلا بثا تجريبيا لآخر ما توصل إليه العلم: استنساخ «جينات المدن» ، متوقعين أن خلال الأعوام القليلة المقبلة، قد تتحول القاهرة بالكامل إلى روما التاريخية. لتصبح أول مدينة متحولة في العالم، تنفيذا لرؤية داهمت الرئيس في خلوته، ربما لن يتوقف الأمر عند حدود روما، بل قد نصحو لنجد أنفسنا في مدينة مختلفة كل يوم، باريس، نيودلهي، دبي، بوجوتا، واشنطن، كيب تاون.
لم يدهشنا كل هذا. المفاجأة الحقيقية كانت في الإعلان عن أن الرئيس قرر أن ينهي فترة احتجابه الطويل وأن يتجلى لشعبه بعد توسلات وتضرعات دامت لنصف قرن، تواترت الأنباء غير المؤكدة أنه سيفتتح بنفسه عروض اليوم الأول بالكولوسيوم.
كان آخر ظهور حي للرئيس، في 25 يناير 2061 (بعد عشرين عاما من تسلمه الحكم خلفا لسابقه) عندما باغتنا بخطبة بالغة الإيجاز والغرابة، ألقاها أمام مئة ألف مواطن محتشدين بالأعلام والهتافات في إستاد القاهرة وملايين أمام الشاشات:
«لقد مللت، لم تعودوا أطفالا، أو شعبا تائها يعلق كل خطاياه وذنوبه في رقبتي. لقد وضعتكم على الطريق الصحيح بعد أن حملت عنكم وزر أخطر الشرور، لُعنت مكانكم، اليوم جاء دوركم لتتموا المهمة، سأترككم لمسؤوليتكم دون وصي، سأعتزلكم» 
بدا صوته في تلك الخطبة مثقلا بالزهد وأدركنا في نظرته حزنا عميقا كان موجها ضدنا نحن بالذات، ورغم الشحوب الذي كسا ملامحه إلا أن هالة نورانية شفافة أحاطت بوجهه كأنه حقا سيغيب عنا إلى الأبد سواء قرر اعتزالنا أو واصل أداء مهامه علنا كرئيس.
استمر احتجابه خمسين عاما، قيل إنه اعتكف فيها بمكان سري بحثا عن الحقيقة المطلقة والأزلية وراء الخير والشر، دون أن تُعلن وفاته أو يعين مكانه رئيسا جديدا، كل ما تبقى منه هو خطبه المسجلة والسابقة على تاريخ خطبته الأخيرة، تُبث عبر شاشات عملاقة في جميع أنحاء البلاد، لينكشف للبعض مع الزمن لب حكمتها العميقة وتكتسب عبر التأويل صفة الوصايا السماوية فصار لها أثر الهمس المؤنس والوعيد الخفي.
ظهرت نظريات عدة من بينها أنه استفاد من آخر تقنيات العلم والتي لَمْ تُتَحْ إلا لقلة من الصفوة في العالم كي يتغلب على الشيخوخة أو أن قديسا عاش بين ظَهْرانَيْنا دون أن ندري، كما ظهرت نظرية أخرى ترى أن ما حدث مجرد انقلاب عادي أَجْبَرَ فيه على قراءة خطاب تنحي، ثم اغتيل أو مات في سجن سري، لكن قادة الانقلاب رأوا أنهم سيستفيدون أكثر من صورته المبثوثة في الشاشات، ليتمكنوا من حكم البلاد كشركاء متساويين وغير مرئيين، دون أن يهيمن أحدهم على الآخر.
مارسنا حياتنا بإيمان صارخ بوجوده المحيط والنافذ وشك ضئيل ظل كامنا وغير معلن ويعاقب عليه القانون. كان من الطبيعي أن نسمع في الليل تضرعات المؤمنين به واللذين زادهم احتجابه حبا وتقديسا له وأملا في أن يعود لينقذنا مما آلت إليه البلاد من وحشية وتخبط وفساد، غاضبين أحيانا من عدم تدخل «مولانا» كما دأب المؤمنون على تسميته.
لكن في العشر سنوات الأخيرة ومع ضعف وتحلل الطبقة الحاكمة وتردي البلاد في الفقر، زادت موجات الشك، وتضاعفت الشائعات عن مؤامرات تدبر بليل للقفز على السلطة، وارتفعت الأصوات التي تطالب بما هو أكثر من ظلال وصور، رئيس جديد حي يذكرها بقوة شكيمة الرئيس المحتجب في أيامه الأولى، يرفع عن أعناقنا عبء الخطيئة بارتكابها.
على عكس كل من سبقوا مولانا إلى الحكم، لم يتصنع أمام الغرب الديمقراطية أو الإيمان بحقوق الإنسان، كان بالغ الوضوح بشأن إدارته للبلاد عبر قبضة حديدية متخليا عن كل أقنعة المهادنة، وباستثناء وعد قدمه للفقراء أن إجراءاته الاقتصادية القاسية ستنتهي لصالحهم، فلم يسع إلى تبرير أفعاله أو إنكارها، منهيا بعنف غير مراوغ أو ملتبس مكتسبات الحرية التي غنمناها في نهاية عهد الرئيس السابق بعد أن استتبت له السيادة. ألغى كل أشكال الانتخابات، عطل العمل بالدستور، ودون تردد عزل الدولة عن العالم كما همس أبنائها في بداية القرن الماضي، وكانت قرارات الإعدام التي توقع ببساطة إلقاء صباح الخير تنفذ علنا في الميادين العامة.
بعد عقدين من الحكم المطلق، وكما فسر البعض لاحقا خطبته الأخيرة، أدرك الرئيس حجم الخطيئة في قلبه، أنه قَدْ سِيقَ إلى فخ فداء لنا. لقد سبق قراره بالاعتزال بوادر تصوف وكلمات ملغزة منثورة في خطاباته تشي عن عذاب يقصم روح صاحبه، لكن لم نع إشاراته في حينها.
فرح المؤمنون بأنباء ظهوره الوشيك رضوخا لرغبتهم وبالضد من رغبته، أما الخبثاء فقالوا إن تلك الأنباء تعكس أنه ككل من ذاق السلطة لا يمكنه التخلي عنها، وأنه لم يعد يملك خيارات أخرى خوفا من فقدانها، حتى أنه قرر أن يعلن عن وجوده عبر أكثر الطرق التي مارسها الأباطرة اعتيادية:
افتتاح مبنى.

2

الصخب يشنق حناجر الجماهير.
يهتفون «هركليز.. هركليز» ، يقصدون عبد المولى، بجسده الأسمر المصبوب والمنحوت كآلة قتل في حلبة المصارعة الشعبية المحاطة بقفص الموت والمنصوبة في الحارة المخفية عن أعين الحكومة وتحت أقدامها.
يسأل متفرج: من أين أتوا بتلك المعجزة؟ يجيب آخر: من مدينة مسحورة في صحراء موريتانيا حيث الوحوش مازالت نضرة ومخبئة كزهور برية وسط الجحيم.
الحقيقة أن عبد المولى فلاح من قرية نائية وفقيرة في الصعيد، لكنه لم يهتم بنفي أي أسطورة ترددت حوله، حتى اسمه تركه لمحبيه: «هركليز» ، فشهرته محت قصته الأصلية لتنسج حوله آلاف القصص.
كان يصرع الجميع على الحلبة، مقاتلا تلو مقاتل ومغامرا تلو مغامر ومسخا تلو مسخ في رهانات سرية يعرف بشأنها الجميع وينكرها الجميع، مصارعة شعبية بلا قواعد عدا قاعدة واحدة: ينتهي الأمر بفائز حي وآخر ميت.
يقذف الجماهير بالمزيد من الأسلحة عبر فتحات قفص الموت: ألواح خشبية، سيوف، مناجل، صفائح، سكاكين، كزالك، سواطير، لا إلى عبدالمولى، بل إلى خصمه، كي تزداد الإثارة. عبدالمولى لا يستخدم أسلحة، لا يلمسها، حتى لو نشبت الدماء أظافرها في جسده. خصمه يفوق حجمه مرتين، لكن لا يملك أبدا عيني عبدالمولى الصارخة بالحياة وهو يصارع، وللمفارقة: بالحرية.
ينطفئ عبدالمولى خارج قفص الموت، يعود عبدا مطيعا بعينين ميتتين ما أن يغادره. لا يتفوه إلا بتمتمات صامتة، ولا ينظر إلى أحد، بل يقلب عينيه إلى الداخل فتصير بيضاء ومفزعة، يلعق جراحه الثخينة والقاتلة ويرتجف من الخوف، ما هي إلا دقائق حتى تطيب جراحه كأنها لم تكن، بمعجزة لا يعرفها أحد. جسد مسحور.
الصراخ يزداد. فقرة الجمهور المحببة، حين يزين الضحية بما هو أثمن من الموت. لا أحد يعلم أي ضحية ستكون مختارة، قد تكون الثامنة أو العاشرة وقد تكون الأولى، قد لا يفعلها. فعبد المولى الذي يبدو غبيا خارج الحلبة، يعلم ما يفعله، لهذا يعشقونه. لقد جعل نفسه نجما، اخترع لنفسه جائزة أخرى غير حياته وطعام عائلته.
صنعوا له دمى، طبعوا صوره المرسومة على تيشيرتات رخيصة، وأطلقوا من أجله الأغاني، حتى الطبقة النافذة في الحكومة تراهن سرا عليه، رغم أنها لم تعترف أبدا بشهرته.
الضحية المختارة تستسلم تماما للمصير الذي يعلقه عبدالمولى بأيدي محبيه. كل ما عليهم فعله هو أن يشيروا بإصبع الإبهام إلى الأسفل.
لا يخيبون ظنه، بيديه العاريتين يشق هركليز صدر ضحيته التي تكف عن الحركة أو التوسل إلا عبر نظرة مستسلمة. يُخرج القلب، يقضم منه قضمة، ثم يلفظه ويرفعه في هواء الهياج وهدير الجماهير، منتصرا وعاليا لثوانٍ، ثم تأتي تلك اللحظة التي ينظر فيها إلى الجماهير بسعادة واحتقار، كمن قبض على نشوة الحياة ثم انفلتت هاربة من بين أصابعه.
قد تتبعه أو تسبقه عروضا لمصارعين آخرين، لكن يظل هركليز هو درة العرض الذي يحرك الرهانات الكبرى ويصعد بمبيعات الطعام، المخدرات، الكحول إلى السماء.
لكن ذلك اليوم، لم يكن كيوم آخر في حياة عبد المولى، فقبل أن ينتهي العرض هجمت الشرطة على الحلبة.
رغم الاتفاق غير المعلن بينهم وبين الحكومة إلا أن منظمي الحلبات الشعبيات اعتادوا على حملات الشرطة التي لم تكن تهدف إلا لابتزازهم ومشاركتهم الأرباح، لكن غرضهم تلك المرة اقتصر على اعتقال عبد المولى، الذي خضع دون مقاومة عندما كبلوا يديه وعصبوا عينيه، ثم ساقوه إلى مؤخرة شاحنة.

3

لم يتفوه الحراس بحرف طيلة الطريق، فقط يدخنون في صمت قاتل، لم يكن عبد المولى في حاجة إلى الذكاء ليدرك أنه غادر القاهرة ما أن اختفى صخب المدينة الضجرة والميتة، ليرتفع ضجيج روحه بأصداء نقيق ضفادع وعواء جريح لغيلان وطواحين وصراخ عيال شاردة تلتهمهم الشياطين من حناجرهم والأخطر أنين قتلاه.
خارج الحلبة لا تغادره أبدا نظرة الاستسلام المروعة والمتوسلة وهو يُجْهِز على ضحيته. سر يكتمه في أحشائه يكاد أن يحطمه، لو انفضح لانكسرت هيبته وفقد لقمة عيشه، لتحول من آلة قتل لا تعرف الرحمة إلى محض طفل خائف. لديه أسرة تطوق عنقه، لا يمكن أن يسلمها للجوع، مهنته تسد رمقهم بالكاد بينما يتحصل سلسال من السماسرة لا يرى إلا أول حلقة منه، على ثروة طائلة من ورائه.
شعر بالشاحنة تصعد منحدرات صخرية ثم تخترق أرضا من وحل.
من التعب ورتابة الإيقاع الهادر للشاحنة ونواح الغيلان والأشباح راح في غفوة طويلة، أفاق منها على صرير أمطار وأصوات ريح حبيسة تزأر في غضب، ثم حل الصمت مجددا، وعندما دوت أصوات دقات رهيبة كدوي الرعد وضربات القيامة، توقفت الشاحنة. دفعه الحراس بغلظة خارجها، رج الصقيع جسده وصارع مثانته التي تكاد أن تنفجر، سمحوا له بالتبول مكانه، بعد أن أزالوا العصبة من عينيه دون أن يفكوا قيد يديه، ليرى نفسه في صحراء قاحلة يعتصر سماءها ضباب رمادي كثيف.
اجتازوا الضباب فبزغ قصر كبير في قمته برج شاهق يكاد أن يناطح السماء، كان القصر محصنا كقلعة أعلى ممرات جبلية وعرة.
صعد مساقا بالهراوات حتى وصل إلى ممر ضيق يفضي إلى بوابة القلعة انفتحت البوابة ببطء، ليخرج منها ضابط ذو رتبة كبيرة خلفه فرقة هجانة ملثمة الوجوه تحمل السياط في يدها وأسلحة حديثة الطراز على ظهرها.
كان الضابط خمسينيا متوسط القامة، يحمل على كتفيه شارة صقر أعمى ويرتدي زيا وعمامة على الطراز المملوكي وبخاصرته سيف، ميزه عبد المولى فورا، مراد بك مقدم درك القاهرة، والذي يعادل مدير أمن إلا أن تغيير اللقب كان إحدى نزوات مولانا القديمة غير المفهومة.
استقبله مراد بك بابتسامة لطيفة معتذرا له عن «الخطأ غير المقصود» ، موبخا قائد الفرقة التي اقتادته بتلك الطريقة، وأمر بفك قيده.
سمح مراد بك لحراسه بالتصوير مع نجمهم المحبوب، فلما انتهوا تأبط ذراعه كصديق واجتاز به حديقة واسعة بالغة الجمال تحوي نباتات نادرة، تتناثر حولها أقفاص لأسود وثعابين وحيوانات على وشك الانقراض، كانت منطقة مصممة على الطراز المملوكي، في الجهة الشرقية منها يقع جناحا للحرملك وآخر للعبيد والغلمان وإسطبلات خيل واستراحات للجند ونوافير مدهشة كأنها تُعيد تعريف الماء وتجعل المكان في غُسلٍ دائم.
بلغا بوابة القصر المهيب، انبهر عبد المولى كطفل من التمثالين اللذين يحرسان البوابة، كان لهما وجها إنسان وأقدام أسد وأجنحة نسر وجسدا ثور، لقد رأى مثلهما من قبل في أحلامه، لكنه دائما ما ارتبك بشأن تأويلهما، فلم يفهم إن كانا نداؤه إلى شيء ما خارق يتشوق أن يكونه، أم أنهما حارسان يمنعانه من اختراق حدود معينة ولو في الحلم.
سأل مراد بك: «أين أنا؟» 
أجابه: «في قصر الرئيس» 
قال عبد المولى وقد جذبته خبطة من الوجد: «مولانا» 
رفع عبد المولى بصره تلقائيا إلى برج القصر، مستشعرا عينين هائلتين تراقبانه كأنهما تفعلان منذ الأزل، كان متأكدا أن مولانا يجلس هناك، لكنه لم ير إلا ظلالا يمكن تشكيلها بأية صورة، خفض بصره محرجا فقال مراد بك:
«هذا البرج يدور كل ساعة مع الشمس على قاعدة متحركة، من يجلس فيه يستطيع أن يحيط بكل الاتجاهات» 
صعدا معا درجات سلم رخامية بيضاء ممتدة حتى مدخل القصر، إحدى الدرجات يقف عليها تمثال لفارس روماني يرفع سيفه وتحت قدمه رأس مقطوع، على بعد ثلاث درجات أخرى تمثالا لفارس آخر يتكئ على يد ويرفع الأخرى، رأسه مقطوع وبلا ذراعين، خمن عبد المولى أنه ضحية الفارس الأول.
كانت شرفات القصر محمولة على تماثيل فيلة هندية، وكانت نوافذه من زجاج بلوري يَرى من داخله من بالخارج دون أن يُرى.
اقتاده مراد بك إلى بهو القصر، كان مكدسا بتحف من الذهب والبلاتين، وبه ساعة أثرية تحكي الوقت بالدقائق والساعات والأيام والشهور والسنين والتقلبات في وجه القمر ودرجات الحرارة، لا مثيل لها إلا في قصر باكنجهام بلندن والذي صار متحفا بعد انتهاء الملكية قبل عقود، أرضية القصر من الرخام والمرمر، تنتصب فوقه تماثيل لبوذا ولتنين أسطوري، نقشت دربزين سلالمه بصفائح البرونز وبتماثيل هندية صغيرة الحجم دقيقة النحت، كان القصر مصمما بحيث لا تغيب الشمس عن حجراته وردهاته، وعلى جدرانه لوحات نادرة لكبار الرسامين في العالم، وفي كل ركن من أركانه تمثال ثمين لإله هندي.
لقد رأى عبد المولى قصورا أكثر عصرية وإبهارا في المرات التي طُلِب فيها لتقديم عروض خاصة في بيوت أثرياء، كان بعضها لا يمكن تخيله إلا كأعجوبة لا يمكن لها أن تحدث إلا في المستقبل أو في حكاية خرافية، أما ذلك القصر فكانت كل خطوة يخطوها فيه تشعره أنه يوغل في ماض سحيق، لا ينقصه ليصير بيتا للأشباح إلا أن تكسو تحفه غلالة كثيفة من خيوط العناكب.
استوقفته لوحة كُتب فيها بخط عربي كوفي بارز «لا ولادة إلا عبر الموت» ، تأملها طويلا، قبل أن يباغته مراد بك بسؤاله:
«هل تؤمن بوجود الرئيس؟» 
« قدر إيماني بوجودك ووجودي» 
«عظيم.. ما أحوج البلاد إلى مواطنين بقوة إيمانك» 
احتقن وجهه بالفخر، تابع مراد بك:
«بعد أيام سيفتتح مولانا بنفسه عروض اليوم الأول للكولوسيوم. وقد اختارك للمشاركة في هذا الحدث الفريد لعلمه بما يكنه لك الشعب من محبة، ستكون تلك المشاركة بمثابة أول اعتراف رسمي بك.. لقد أنكرنا شهرتك طويلا» 
«شرف لي» 
«عليك أن تعرف أن العرض يشبه ما تقدمه يوميا، حلبة موت، لا نجاة فيها للخاسر» 
ابتسم عبد المولى مزهوا ومستخفا فسطع بياض أسنانه القوية والتي تأملها مراد بك مفتونا.
أشار إليه بالجلوس، قدم له الخدم الشراب وصحونا ضخمة من اللحوم وأطايب الطعام والفاكهة، كان جائعا، فالتهم كل ما قدم له، لم يذق في حياته طعاما أو شرابا شهيا إلى هذا الحد، كأنه صنيعة الجنة.
 راقبه مراد بك حتى انتهى من طعامه دون أن يتفوه بحرف، ثم أمر له بحشيش وأفيون من أفخر الأنواع، فلما تكيف وانسطل، أشار مراد بك لجنوده، ففتحت الأبواب، لتدخل عشرات النساء الفاتنات من كل بقاع الدنيا وألوانها، لم ير عبد المولى في مثل جمالهن. تحلقن جميعهن حوله، لعقن كل قطعة في جسده المسحور فظل يتأوه كأنه يطرد عن عظامه عفن الفقر وإهانات الزمن.
«كلهن لي؟» 
تساءل ببراءة، متجاهلا نظرة الاحتقار التي أفلتت من مراد بك.

4

أفاق ليجد نفسه مكبلا داخل قفص حديدي في قبو نصف مظلم ذي رائحة عفنة، فكر في أطفاله وامرأته وشعر بالذنب لانغماسه ليلة أمس في اللذة دون أن يخطروا على باله، ثم حل به قلق كاسح على مصيره ومصيرهم، طالما سمع عن هؤلاء اللذين يختفون دون سبب، هؤلاء اللذين يغيبون منذ بدء الخليقة وراء الشمس، لكنه وافق على طلبهم بالمشاركة في احتفالات مولانا، ولماذا منحوه ليلة من ليالي الجنة ثم سلبوه إياها؟ هل يُعاقَب لأنه قبل لذة الطعام والمخدرات والنساء؟ هل فشل في اختبار مولانا؟ لكن ماذا يدري ذلك السابح في عليائه عما يكتنزه جوع الفقراء الطويل من رغبات؟
بعد ساعات دخل مراد بك، جلس على مقعد في مواجهة القفص، أشعل سيجارا، نفث دخانه ببطء متأملا في صمت ذلك الوحش الذي يشبه في الأسر وحشا مهانا.
قال أخيرا:
«أنت مصارع رائع يا عبد المولى، كنت آتي متخفيا لأشاهد عروضك، يا للجسد الموهوب، لكن أتعرف أكثر ما فتتني بك؟» 
لم يجبه، فتابع:
«أسنانك. قوية وبارزة كأنها مستعدة لأن تغرس في جسد العالم بلا تعاطف، شيء نادر، أسناننا لينة، أما أجسادنا فقد طمرها الزمن» 
«أي خطأ ارتكبت كي أحبس في قفص بعد كرم ليلة أمس؟» 
«لم ترتكب أي خطأ، كرم أمس كان عربونا لصفقة» 
«سأقبل بأي شيء» 
«عندما يحين وقت عرضك في الكولوسيوم، ستهزم بضعة مصارعين كعادتك، لكن في الفقرة الأخيرة لعرضك ستواجه مصارعا بعينه» 
«والمطلوب؟» 
«أن تُهزم أمامه» 
«أي أن أموت؟» 
«بالضبط» 
«أعطني سببا واحدا يجبرني أن أفعل» 
«تضحية من أجل الوطن! نَمُرُّ بأزمة اقتصادية كبيرة، بالإعلان عن مشاركتك سيراهن الجميع أثرياء وفقراء بأموال طائلة على فوزك» 
«بينما تراهن الدولة على موتي» 
«عاجلا أو آجلا سيدفعك سماسرة الحلبات الشعبية إلى الموت، فانتصارك الدائم يفسد ندرتك، لكن موتك حينها سيكون بخسا تافها، ما أعرضه عليك هو فرصة لن تعوض كي تُثمن موهبتك بشكل عادل ومن أجل هدف عظيم» 
نظر عبد المولى طويلا في وجه مراد بك الشرس ذي النظرة المتغطرسة التي يفوح منها المكر، والشارب المنتصب في صلف، ليدرك حقيقة روحه المختبئة خلف سياج من العجرفة والشعور الطاغي بالسيادة، محض خسة وجبن.
«لا» 
 أطلقها كزفرة حاسمة مشبعة بمرارات حياته كلها.
غادر مقدم الدرك القبو بملاح باردة حيادية، أطفئت الأنوار الشحيحة لتحل عتمة قاسية صار معها كحبيس في جوف حوت.

5

تُرك ليومين دون طعام أو شراب، وحيدا في مواجهة صمت مهيب، ليرتفع ضجيج أنين قتلاه إلى أقصاه، فتكوم في قفصه يرتجف. تضرع إلى مولانا كعادة المؤمنين به، لكنه سرعان ما شعر بالغضب منه، هو الذي ورطهم بغيابه في كل هذا.
لم يتخط عبد المولى التاسعة والعشرين عاما، ولم يعاصر التجلي الحي للرئيس، لكنه كان يعرف أن الوعد الوحيد الذي قدمه في خطبه المسجلة هو أن تكون لتضحيات الفقراء معنى في نهاية المطاف وألا تستمر حياتهم اليومية كمحض إهانة. الآن يقامر كل ليلة بحياته كي يعود بلقمة إلى أطفاله، لعنه وسبه، ثم بكى واستغفر، وظل يردد اسمه لساعات في تبتل، حتى اختفى صخب أشباحه، ليبزغ من داخله صوت واحد يحفظه عن ظهر قلب، صوت مولانا.
لم يقل الصوت شيئا مفهوما، محض تهتهة وطلاسم، كأنها رقية، لكنها كانت كفيلة بأن تبعث فيه السكون، ومع الوقت بدأت اللغة المضببة تتضح كهمس سماوي يخبره أنه مواطن صالح مرضي عنه، كافح وصارع من أجل عائلته، تحمل ذنوبه بشجاعة، لذا فقد غُفرت له جميعا، وسيكافئ بمُلك لا يبلى ومكان لا يجوع فيه ولا يعرى لا تفصله عنه إلا خطوة واحدة، كل ما عليه أن يفعله أن يعبرها.
سأله مولانا:
«هل تقبل أن تعبر تلك الخطوة؟» 
سرت نشوة صوفية كرعدة خفيفة في كيان عبد المولى، سرعان ما تبددت لتحل مكانها طمأنينة باردة.
في قلب جوف الحوت همس:
«لقد قبلت» 
حينها انفتح باب القبو، وأضيئت الأنوار.
قاده الجنود برفق إلى بهو القصر. كان مراد بك مضطجعا على أريكة يقشر تفاحة قذفها تجاه عبد المولى الذي تلقفها وأكلها بجوع الأيام الثلاثة التي قضاها حبيس قبو مظلم.
قال مراد بك بابتسامة ماكرة:
«ما أجمل الإيمان» 
«لست قلقا إلا على امرأتي وعيالي» 
«لا تخف.. لقد صاروا في معية مولانا.. سيتكفل بهم مدى الحياة.. سيُنقلون إلى سكن أرقى وسيحظى أطفالك بأفضل فرص التعليم والعلاج.. ربما يصبح أحدهم ضابطا كبيرا له شأن في الدولة، بالإضافة إلى راتب كبير سيصل إلى زوجتك شهريا، لن يجوعوا بعد ذلك أو يعروا» 
«أثق في حكمة مولانا وعطفه، لن يجدوا أبا أفضل» 
«مازال بإمكانك أن تتراجع» 
قال عبد المولى مندهشا:
«لم أكن اعرف أني أملك أن أختار» 
«لا يمكن لتضحية عظيمة كتلك أن تتم إلا بكامل إرادتك» 
قالها بصدق أربكه.

6

«من أجل العائلة» 
قال لنفسه وهو في قبو مفضي إلى حلبة الكولوسيوم، منتظرا دوره ليقدم فقرته الأخيرة.
سلي نفسه بتخيل وجه مولانا، تشمم رائحة قربه وتَجسُّد صوته في هدير الجماهير المهتاجة كأنه تشكل من أعمق رغباتهم. جاؤوا ليروا «هركليز» وهو يقتل الجميع دون أن يعلموا أنه سيفاجئهم اليوم بموته.
«لا.. بل من أجل مولانا» 
 يدرك الآن أن رضاه هو خيطه الواهي بالعالم والأكثر صلابة من أي دافع، أن حُبَّهُ هو مصدر الخسة والعظمة الكامنتين في قلبه.
رأى عازف بيانو يتمرن على فقرته، كان يرتدي بذلة فاخرة تحسب معها أنه رجل بالغ الرزانة، لكنه خلع بنطاله فجأة ثم لباسه الداخلي، انحنى ليعزف مقطوعة كلاسيكية بقضيبه، ساترا عورته بلوح خشبي. أضحكته تلك الفقرة كثيرا. أعجبه أيضا رجل يضع كرة حديدية على مشط قدمه وهي مشتعلة بالنار من جانبها العلوي، ركلها إلى أعلى وأوقفها على رأسه دون أن تمسها النار، لكن أكثر ما فتنه كانت فقرة يتمرن عليها رجلان، أحدهما شاب والآخر شيخ مهيب، يمسك الأول بحبال يقذفها في الهواء فتتحول إلى حيات، ثم يأتي دور الشيخ فيلقي بعصاه لتأكل الحيات.
أثار تعاطفه شاب رقيق يدعي قدرته على إحياء الموتى. لم يظنه عبد المولى أكثر من نصاب، لكنه يتفهم أي حيل قد يلجأ إليها الفقراء من أجل قروش قليلة تسد رمقهم.
دخلت شحنة من عراة تسوقها السياط، عرف من وشم الخونة وشارة صفراء تظلل اللحم العاري، أنهم خليط من المشككين في وجود الرئيس والمتهمين بالتآمر والحاملين لأفكار وميول وأهواء أخرى لا تتفق مع عاداتنا وتقاليدنا كـ «مصريين». أشار لهم عبد المولى بإصبع الوسطى، بصق على وجوههم في احتقار وتعجب كيف لا تنتهي تلك الجراثيم من اختراق هواء البلاد.
كسا الحراس أجسادهم الهشة بأزياء مصارعين، دون أن يُمنحوا أسلحة أو دروع، ثم أخرجوهم إلى الحلبة كوليمة للأسود، كم أثار هذا الجماهير اللذين هتفوا مفتونين باسم مولانا.
عندما جاءت فقرة الشاب الذي يحي الموتى، رمق المؤدين قبل خروجه بنظرة ملتاعة ثم قال:
 «طوبى للمساكين» 
سمع عبد المولى صفافير مستهجنة فعلم أنه فشل في إحياء الموتى، ثم بلغ أذنيه دوي تصفيق حاد وصيحات تختلط فيها البهجة بالألم والحماسة بالعويل.
أعلن مذيع الإستاد عن قدوم فقرته، أخذ نفسا طويلا ثم عبر إلى الحلبة فدبت العاصفة في أرواح الجماهير، لا يهتفون إلا باسمه: هركليز.. هركليز، حاملين لافتات وصور له، لم يهتم، جل ما شغله هو رؤية مولانا، التقطه بسهولة، وكيف لا يفعل، كان مضيئا كشمس، كملك للعالم قد يحرقه دون ذرة ندم لو تعكر مزاجه، دون أن يملك أي شخص القدرة على حسابه أو مراجعته، كان يرتدي زي قيصر، يد تعاقب ويد تمنح الغفران.
رأى محي الموتى مصلوبا بمسامير مغروسة في يديه وقدميه، مرتديا تاجا من الشوك والدماء تنزف من جسده ببطء، خمن أنه اضطر أن يقدم أفضل فقراته ليبهج الجمهور، بعد أن فشل في إحياء الموتى. انحناءة رأسه المعذبة بدت كمن ترد لهم التحية.
دخل إلى الحلبة عشرة مصارعين أقوياء البنية مسلحين بالكامل، كان الجمهور ينتظر أن يلتهمهم بيديه العاريتين، ثم انتقى أقواهم وطوح جسده إلى الأرض، اعتصر رقبته بساقيه، بإمكانه أن يحطمها في ثوان، لكنه انتظر إشارة مولانا للقضاء عليه، تضاعفت صرخات الحشد اللذين شكلوا رابطة جذابة ومغرية من الأخوة الباحثة عن انتصار نهائي وساحق، فصاروا كجسد واحد عالق في السراب، بروح هائجة كطوفان وقودها إيمان قوي ومبهم. أتته الإشارة فأجهز على المصارع، وسط حماس الجماهير.
صرخ محي الموتى من فوق صليبه:
«أنتم ملح الارض، ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملح؟ لا يصلح بعد لشيء إلا لأن يطرح خارجا ويداس من الناس» 
تدافع نحوه باقي المصارعين وقد تكاتفوا سويا وتحركوا ككتلة واحدة تحت غطاء من دروع، أثخنوه بالضربات المتوالية للسيوف والبلطات بلا رحمة، سقط هركليز، سمع تأوهات الإعجاب وهي تتبدل إلى مطالبة بإنهاء حياة النجم الذي هوى.
«ها أنا أرسلكم كحملان في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام» 
انقلبت عينا عبد المولى إلى الداخل، لعق جراحه والتئم جسده المسحور، لتعود الحياة سريعا إلى جسده الممزق، سالما كأن لا شيء مسه، انتفض كعنقاء من الموت ثم صرخ صرخة مدوية، بصدر عار اندفع نحوهم كسيل، قتلهم مصارعا تلو آخر، انتصب عاليا فوق جثثهم المكومة، غرس يده في صدر أحدهم، وفعل حركة الجماهير المفضلة، انتزع قلبا، قضم منه قضمة، لكن تلك المرة رفع القلب في الهواء ملوحا به إلى مولانا وحده.
«كل الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون»، صرخ محي الموتى دون أن يسمعه أحد تلك المرة.
أعلن مذيع الإستاد أن درة العرض لم تأت بعد: «فمهما هزم هركليز من مصارعين فهل يقدر على ذلك المصارع الجبار والفريد من نوعه، مولانا نفسه!»
حط الصمت على الإستاد وتصاعد صخب القتلى داخل روح عبد المولى وارتجف قلبه كطفل. أهذا هو المصارع المنشود الذي عليه أن ينهزم أمامه، أن يموت عابرا الخطوة الفاصلة إلى مُلك لا يبلى ومكان لا يجوع فيه ولا يعرى.
ظل غير مصدق لعينيه وهو يرى مولانا يهبط إلى الحلبة متكئا على مراد بك. خلع ردائه الملكي وأعطى تاجه إلى مقدم دركه، أسفل الرداء زي بسيط ومتقشف لمصارع، ليس إلا لباسا من جلد حيوان مسلوخ يغطي عورته.
ما أربكه هو اهتزاز إيمانه. تصاعدت في رأسه أبخرة دم زنخ من الكبرياء والجحود، كيف يسمح لنفسه أن ينهزم أمام عود حطب جاف كهذا؟
 تعجب عبد المولى من أن الشمس التي كانت جالسة قبل دقائق في المقصورة الرئيسية، لها جسد عجوز خرب ودميم وبالغ النحول بهذا الشكل، بأنف تعلوه بثور ساحرات ووجه مشقق على وشك السقوط، جلد متدل كخرقة بالية. شمس لا تحتاج إلى أكثر من نفخة من فمه كي يطفئها.         
«لا تجرب الرب إلهك»
وقف الجميع لغناء النشيد القومي بحرارة غير معهودة صاعدة من حفرة بقاع بالقلب مكدسة بالجثث والأشباح والظلام، بالرعب والآمال، ثم دوت أصوات طبول نحاسية لتعلن بدء المصارعة.
هرول بكل ما أوتي من قوة تجاه مولانا الذي لم يرتبك للحظة، بل ظل متجمدا في مكانه كتمثال محنط، لكن ما أن بلغه عبد المولى حتى جثا على ركبتيه كعبد طالبا العفو، لقد قرر الاستسلام. حتى لو قتله فلن ينجو من رصاص الحراس أو من شهية الجماهير المتوثبة لالتهام قاتل رئيسها حيا وستخسر عائلته وعد الجنة. لقد حوصر وهو الجبل الشامخ كفأر، كان يأمل أن ينجيه مولانا من مصير الموت عبر استسلام ذليل يضع فيه حياته بين يديه.
برقة مسته كتيار من النسيم وسط الجحيم، ربت مولانا على رأسه، رفعها إليه، حدق عبد المولى في عيني العجوز الغائرتين الخاويتين كبئر معطلة، ورأى الحقيقة.
لم تكن الصفقة في أن يترك مولانا يقتله، بل أن في أن يقتل هو مولانا، أن يُفلِت بالموت روحه الشائخة من قبضة الخلود الأبدي والسلطة المطلقة، كان يتوسل إليه أن يفعلها. من يجرؤ حقا أن يقتل الرئيس بيدين عاريتين، سوى العبد الصالح الذي غفرت له كل خطاياه، خطوة واحدة تفصل كليهما عن نعيم أزلي ومُلك لا يبلى، وعلى عبد المولى وحده أن يتحمل وزر تلك الخطيئة بشجاعة. هو الآن أمام ما لم يملك فهمه أو تفسيره في كليته، لكن قداسة المهمة كانت تغمر كل ذرة في كيانه، وقد خفت للأبد أنين قتلاه، رأى أشباحهم وهي تنفلت في سلام من روحه، لتعتقه من الازدراء الطويل للنفس. مولانا هو وهو مولانا.
انتصب عبد المولى كرمح مسنون، بيديه العارتين أطبق على عنق العجوز، ظل يضغط ويضغط، لكن كان هو من يختنق فيما تنتقل شيخوخة العجوز الخرافية إلى روحه وتشيع الوهن في بدنه العملاق ذي الجسد المسحور، بينما ينتقل إلى مولانا سر شبابه الأبدي.
أشار الجمهور بإبهامه إلى أسفل، فتفتتا معا ككومة من التراب، لكن جسد مولانا وحده هو من انتفض كجبل شاهق وخرافي خر له الجمهور صعقا.

25 – 8 – 2021

صورة الشريط © حيدر ديوه چي